معنى آية وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال، بالشرح التفصيلي

كتابة:
معنى آية وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال، بالشرح التفصيلي

سورة إبراهيم

واحدةٌ من السُّور المكيَّة -التي نزلت في مكة المكرمة- إلا آيتين منها مدنيتان وهما الآية ثمان وعشرون والآية تسع وعشرون، وبلغ عدد آياتها كاملةً اثنان وخمسون آية وتقع في الجزء الثالث عشر من أجزاء القرآن الكريم، ابتدأت السُّورة بحروفٍ مقطَّعة شأنها شأن العديد من سور القرآن الكريم الأخرى، وكان الموضوع الرئيس لسورة إبراهيم هو الحديث عن التوحيد ورسالة الله إلى عباده وعن يوم القيامة والبعث وحساب الله للعالمين ونعمه عليهم وكفران ابن آدم بتلك النعم وجحوده لها، وذلك هو المحور الذي كانت تدور حوله السُّور المكيَّة؛ إذ الغرض من آياته في ذلك الوقت هو تمكين التوحيد في قلوب المؤمنين وتثبيته، ومن بين الآيات التي وردت في سورة إبراهيم قوله تعالى: {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}،[١] وهي من الآيات القرآنية التي لا بدَّ من الوقوف معها وشرحها شرحًا تفصيليًّا وبيان معاني مفرداتها وإعرابها، وفيما يأتي سيكون ذلك.[٢]


معنى آية: وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال، بالشرح التفصيلي

إنَّ دأب الطَّواغيت هو التَّكذيب والتَّشكيك في دعوة أنبياء الله ورسله ولا يكفون عن تحدي الله -سبحانه- حتى يُلحق بهم العذاب الأليم، فدأبهم حياكة الحيل والمؤامرات لكنَّ الله لكيدهم بالمرصاد دائمًا، وقد ورد في وصفهم قوله تعالى في سورة إبراهيم: {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}،[٣] وورد في تفسير الآية عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنَّ هذه الآية نزلت في النُّمرود، عندما عمد إلى أربعة فراخ من النسور فأطعمهم حتَّى شبوا فكانوا عظام البنية والقوة، فاتخذ تابوتًا وجعل له بابًا من أعلاه وبابًا من أسفله فجلس فيه مع رجلٍ آخر، وربط الأربعة نسور بالتَّابوت وجعل على أطراف التابوت أربعة أعواد من الخشب وفي رأس كل عامودٍ قطعةٌ من اللحم فجعلت النسور تطير طمعًا في قطعة اللحم، وكان مراد النمرود هو أن يصل إلى السَّماء فينظر ما فيها، فلمَّا طارت النسور يومًا كاملًا قال النمرود افتح باب تابوت ننظر إلى السماء كيف هي، فقال له: إنَّ السَّماء كما هي، فقال له: إذًا انظر إلى الأرض فقال له: إنَّ الأرض مثل اللجة والجبال تشبه الدخان.[٤]

فترك النسور تطير يومًا آخر فقال له: انظر هل اقتربنا من السماء، فلمَّا نظر قال له: إنَّ السَّماء كهيئتها، فقال له: إذًا انظر إلى الأرض فرأى الأرض سوداء قاتمة مظلمة، فنودي به أيَّها الطَّاغوت أين تريد؟ فقيل إنَّه كان يحمل سهمًا فضربه فإذا به يعود إليه وقد لُطِّخ بالدماء، فقيل إنه أصاب سمكة رمت بنفسها من البحر وقيل إنه أصاب طائر، فقال: ها أنا كفيت إله السماء، وأمر الرجل أن يصوِّب الخشبات نحو الأرض فهبطت النسور، فلمَّا سمعت الجبال صوت النسور والتابوت فظنَّت أن القيامة قد قامت أو أنَّ حادثًا من السماء قد حدث، فكادت أن تزول من مكانها، وذلك تفسير قوله تعالى {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}.[٥]


وقد أفاد بعض علماء التفسير والتأويل في معنى {مكرهم} أي شركهم بالله -تعالى- وكذبهم وبهتانهم عليه، وبذلك قال عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- مستشهدًا بقوله تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ}،[٦] وقال قتادة وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال؛ وذلك لادِّعائهم أنَّ لله ولدًا، واختلف قُرَّاء القرآن في قراءة تلك الآية فمنهم من قرأها بكسر اللام الأولى وفتح الثانية {لِتَزُولَ}، وذلك ما ذهب إليه أهل المدينة وعموم قُرَّاء الحجاز وأهل العراق، ما عدا الكسائي وبذلك يكون معناها ما كان مكرهم لتزول منه الجبال، وأمَّا الكسائي فقد قال بأنَّها تُقرأ بفتح اللام الأولى وضم اللام الثَّانية، وبذلك يكون تفسيرها أنَّه اشتدَّ مكرهم حتى اندثرت منه الجبال وزالت أو أنَّها كادت تزول منه، وأمَّا الأصح من القولين فهو القول الأوَّل الذي يقضي بكسر اللام الأولى وفتح اللام الثانية وهي بمعنى وما كان مكرهم لتتلاشى وتزول منه الجبال.[٧]


وقد أفاد الحسن في تفسير وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال أي إنَّ كل المكر الذي يمكرون فيه هو أضعف وأقل وأوهن من أن تختفي الجبال منه وتزول، وبذلك يكون المعنى أنَّ الله -سبحانه- عليمٌ بكلِّ شيءٍ وعليمٌ بشرك المشركين وظلمهم لأنفسهم وعصيانهم له تبارك وتعالى، وهو سيتولى محاسبتهم وعقابهم على ما اقترفت أيديهم من الظلم وما كان كفرهم وشركهم بالله لتُمحى منه الجبال أو تزول بل هم لم يضروا إلا أنفسهم وسيتولى الله أمرهم يوم القيامة، فالمكر هو الغدر والغدر هو الكفر بالله -تعالى- والإشراك به.[٧]


معاني المفردات في آية: وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال

إنَّ التعمق في تفسير كتاب الله والنظر في آياته يتطلَّب معرفةً في معاني مفرداته، ولا يتمُّ ذلك إلا من خلال البحث عن معاني المفردات بالاستناد إلى معاجم اللغة العربية، وبعد أن تمَّ تفسير قوله تعالى: {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}، بالاستناد إلى أقوال أهل التفسير والتأويل، لا بدَّ من شرح مفردات الآية الكريمة، وفيما يأتي سيكون ذلك:

  • مكرهم: المكر هو الخديعة والغدر والحيلة في الأيَّام الشديدة أو في الحروب، فيُقال عن الرَّجل إنَّه ماكرٌ إذا كان مُراوغًا أو مُخادعًا، ويُقال قد مكر الله بالمُذنب أي أمهله في الحياة الدُّنيا ومكنه منها.[٨]
  • تزول: وهو الفعل من المصدر زول، فيُقال زال الشيء من مكانه أي اختفى واندثر، وهذا الرجل أُزيل من مكانه أي نحّوه من مكانه، والزوال من البلد هو الانتقال منها.[٩]
  • الجبال: الجبل هو ما علا من الأرض وكان أعلى في الارتفاع من التل.[١٠]


إعراب آية: وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال

إنَّ الإعراب هو أحد العلوم التي لا بدَّ من التطرُّق إليها والوقوف عليها عند النظر في تفسير آيات كتاب الله؛ لما له من أهميةٍ في تحديد موضع الكلمة من غيرها ومعرفة إعرابها وتشكيلها وتفسيرها بناءً على مكانها، فعلم النحو هو أحد العلوم التي لا ينكرها إلا كل جاهل بأهميتها غير متفهمٍ للتغيير الذي سيجري على المعنى إذا ما تقدَّم مبتدأ أو تأخر خبر، وستقف هذه الفقرة مع إعراب قوله تعالى {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}:[١١]

  • و: الواو حرف عطف.
  • إن: حرف نفي.
  • كان: فعل ماض ناقص مبني على الفتحة الظاهرة على آخره.
  • مكرهم: مكر اسم كان مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة، وهم ضمير متصل مبني في محل جر بالإضافة.
  • لتزول: اللام لام التعليل، تزول فعل مضارع منصوب بأن المضمرة بعد لام التعليل والتقدير لأن تزول.
  • منه: من حرف جر، والهاء ضمير متصل مبني في محل جر بحرف الجر، والجار والمجرور متعلقان بالفعل تزول.
  • الجبال: فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره.


الثمرات المستفادة من آية: وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال

لقد أنزل الله العزيز كتابه؛ ليتلوه المؤمنون آناء الليل وأطراف النهار فيكون دستورًا لهم في الحياة الدُّنيا ومرساة النجاة يوم القيامة، وبما أنَّ الدُّنيا هي دار الصَّبر والبلاء فإن المسلم سيجد تسليةً له في كتاب الله -تعالى- فينسى مصائبه ويتذكر حال الأنبياء والرسل مع أقوامهم، فلا بدَّ للمؤمن من أن يتعرض لألوان الامتحانات في دار الدُّنيا، وبعد أن تم الوقوف مع قوله تعالى: {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}، من ناحية التفسير والتأويل لا بدَّ من محاولة استنباط بعض الثمرات كما بينها الأئمة المجتهدون، وفيما يأتي سيكون ذلك:

  • إنَّ ذكر مواضع مكر العاصين بالصالحين هو لتثبيت قلب المؤمن وتقوية عزيمته، وتبيين أنَّ أمر الله نافذٌ ولو حال أهل الأرض دون ذلك، فإخوة يوسف مكروا له لكنَّ العاقبة الحسنى كانت ليوسف، ومشركي قريش مكروا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومكر قوم إبراهيم بنبيهم، لكنَّ الله متمّ نوره ولو كره الكافرون، وفي نهاية الأمر لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.[١٢]
  • إنَّ دأب أعداء الله هو المكر بأوليائه ومحاولة إفساد الأرض ومن عليها، وهم يمكرون لأجل ذلك ويُحاولون الوصول إلى أهدافهم بأي طريقة كانت، ولو نجحوا في مكرهم لزالت الجبال من أماكنها؛ لشدة ذلك المكر، لكنَّ الله موهن كيد الكافرين ومحبطٌ لمخططاتهم وهو -سبحانه- تكفل بتنجية من اعتصم به ولو كاد له أهل الأرض جميعًا.[٤]
  • إنّ الأحداث التي يشهدها المسلمون هي ليست إلا من مكر وكيد أعداء الدِّين، وهي امتحانٌ للمسلم في الدَّار الدُّنيا ليميز الله الخبيث من الطيب، وينجي من آمن به واعتصم بحبله، ويمحق الكافرين فلا يكون مكرهم إلّا عليهم، وفي ذلك بيانٌ لأهم الثمرات المستوحاة من قوله تعالى: {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}.

المراجع

  1. سورة إبراهيم، آية:46
  2. "سورة إبراهيم"، ar.wikipedia.org، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-20. بتصرّف.
  3. سورة إبراهيم، آية:46
  4. ^ أ ب "سلسلة المكر في القرآن (6) المكر إفساد في الأرض "، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-20. بتصرّف.
  5. "تفسير: (وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال)"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-20. بتصرّف.
  6. سورة مريم، آية:90
  7. ^ أ ب "تفسير الطبري تفسير سورة إبراهيم القول في تأويل قوله تعالى "وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم ""، islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-20. بتصرّف.
  8. "تعريف و معنى مكر في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-20. بتصرّف.
  9. "تعريف و معنى زال في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-20. بتصرّف.
  10. "تعريف و معنى الجبال في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-20. بتصرّف.
  11. "كتاب: الجدول في إعراب القرآن"، www.al-eman.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-20. بتصرّف.
  12. "القاعدة الثامنة عشرة: (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه)"، kalemtayeb.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-20. بتصرّف.
4077 مشاهدة
للأعلى للسفل
×