معنى آية وسخرنا مع داود الجبال، بالشرح التفصيلي

كتابة:
معنى آية وسخرنا مع داود الجبال، بالشرح التفصيلي

سورة الأنبياء

سورة الأنبياء من السور المكيّة بإجماع أهل العلم، وقد نقل ذلك عنهم ابن عطيّة والقرطبي، ورجّح ابن عاشور أنّ سورة الأنبياء مكيّة بالكامل، ووجه تسميتها بسورة الأنبياء هو العدد الكبير من الأنبياء الذين ذُكروا فيها، وقد سمّاها السلف الصالح سورة الأنبياء كما نُقل عن ابن عبّاس أنّه قال: "بَنِي إسْرَائِيلَ، والكَهْفُ، ومَرْيَمُ، وطه، والأنْبِيَاءُ: هُنَّ مِنَ العِتَاقِ الأُوَلِ، وهُنَّ مِن تِلَادِي"،[١] وقد نزلت بعد سورة السجدة وقبل سورة النحل كما يروي الطاهر بن عاشور في تفسيره، وترتيبها من حيث النزول 71،[٢] وأمّا ترتيبها في المصحف فهو 21، وهي إحدى آيات السور المئين من سور القرآن الكريم، وترتيبها في المصحف يأتي بعد سورة طه وقبل سورة الحج، وردت في هذه السورة آية يقول فيها تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ۚ وَكُنَّا فَاعِلِينَ}،[٣] وفيما يأتي يقف المقال مع تفسير هذه الآية وإعرابها، وكذلك يقف مع شيء من الثمرات المكنونة فيها.[٤]

معنى آية: وسخرنا مع داود الجبال، بالشرح التفصيلي

فيما يأتي تقف هذه الفقرة مع تفسير قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ۚ وَكُنَّا فَاعِلِينَ}،[٥] وهذه الآية تكملة لآية تسبقها هي قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ}،[٦] وتفسير الآية ينقسم عدّة أقسام بحسب ما جاء فيها، فالقسم الأوّل يرتبط بما جاء في الآية السابقة إذ تبدأ بجملة معطوفة على الآية السابقة هي قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}، والمقصود بقوله تعالى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}؛ أي: إنّه -تعالى- قد فهّم سليمان القضيّة والحكم فيها،[٧] إذ يذكر المفسّرون أنّ قومًا احتكموا إلى نبي الله داود -عليه السلام- في قضيّة وهي أنّ رجلًا له أغنام قد دخلت أغنامه إلى أرض فيها ثمر فأكلت من ذلك الثمر وأفسدت الأرض، فقضى داود -عليه السلام- أن يأخذ صاحب الأرض الأغنام عقوبة لأصحاب الأغنام لأنهم تركوها تأكل وتُفسد الأرض، فهمّ القوم بالخروج فلقيهم سليمان -عليه السلام- وسألهم عن حكم أبيه، فلمّا علمَ بالحكم راجعَ والدَه وعرض عليه حكمًا آخر، وهو أن يأخذ صاحبُ الأرضِ الأغنام ينتفع بها ويأخذ أصحاب الأغنام الأرض كي يُصلحوها ويُعيدوها كما كانت، وبعدها يعود لكلّ واحد منهم ما أعطى الآخر، وكان ذلك من فطنته وحكمته عليه السلام.[٨]

فإذًا قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} يعني فهم الحكم والقضيّة الذي قد حكم بها والده داود عليهما السلام، فأثنى الله -تعالى- على سليمان ولكن لم يذمّ والده داود عليهما السلام، ولذلك فقد قال -تعالى- بعد ثنائه على سليمان عليه السلام: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}، وذلك قد أفاده الحسن البصري رضي الله عنه، وقال جماعة من العلماء إنّ داود لم يخطئ وكذلك سليمان، وإنّما حكم داود بوحي وحكم سليمان بوحي نسخ حكم أبيه، ولذلك قال تعالى: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}، وقيل إنّ داود اجتهد ولكنّ الذي أصاب سليمان عليهما السلام، وأمّا قوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ۚ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} فإنّ فيه أقوال منها أنّ صوت نبي الله داود -عليه السلام- كان عذبًا شجيًّا رائعًا فكانت الطير في السماء تقف لتسمع تلاوته وتردّد معه ما يتلوه من الزبور، وكذا الجبال تردّد معه، ولذلك فقد شبّه رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- صوت أبي موسى الأشعريّ وهو يقرأ القرآن بأنّ الله -تعالى- قد آتاه مزمارًا من مزامير آل داود، فقال عليه الصلاة والسلام: "لقد أوتي هذا مِن مَزاميرِ آلِ داودَ"،[٩] وقيل إنّ داود -عليه السلام- كان يمرّ بالجبال وهو يسبّح فتردّد التسبيح معه وكذا الطّير، وقيل إنّ داود -عليه السلام- كان إذا وجد في نفسه فترة أمر الجبال بأن تسبّح كي يشتاق للتسبيح، فهي -أي الجبال- تطيعه فتسبّح وكلّ ذلك بتسخير الله -تعالى- لها، وقيل إنّ التسبيح هو الصلاة فهي تصلّي معه فالله أعلم، وأمّا قوله تعالى: {وَكُنَّا فَاعِلِينَ} فهو أنّ الله -تعالى- قد قضى بذلك الفعل -أي تسبيح الجبال والطير مع داود -عليه السلام- في أمّ الكتاب كما يرى الإمام الطبري فيما ينقله في تفسيره، والله أعلم.[٧]

معاني المفردات في آية: وسخرنا مع داود الجبال

بعد الوقوف مع تفسير قوله تعالى في سورة الأنبياء: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ۚ وَكُنَّا فَاعِلِينَ}[١٠] تقف هذه الفقرة مع بيان معاني مفردات هذه الآية زيادةً في الإيضاح والبيان:

  • ففهمناها: الفهم معرفة المرء الشيء بالقلب، فيقولون فهّمه الأمر إذا علّمه.[١١]
  • آتينا: الإيتاء في اللغة مصدر الفعل آتى، أيّ أعطى.[١٢]
  • سخّرنا: معنى التسخير في اللغة يختلف بحسب سياق الحديث، وفي هذه الآية الكريمة يعني التذليل.[١٣]
  • يسبّحن: التسبيح في اللغة التنزيه، وتسبيح الله هو تنزيهه وتقديسه عن كلّ ما لا يليق أن يوصف به سبحانه وتعالى.[١٤]

إعراب آية: وسخرنا مع داود الجبال

بعد بيان معاني مفردات الآية الكريمة والوقوف مع تفسيرها فإنّ هذه الفقرة تقف مع إعراب كامل لقوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ۚ وَكُنَّا فَاعِلِينَ}،[١٥] وذلك فيما يأتي في هذه الفقرة:

  • ففهمناها: الفاء عاطفة، وفهمناها فعلٌ ماضٍ مبني على السكون لاتصاله بنا الدالة على الفاعِلِين، ونا ضمير متصل مبني في محل رفع فاعل، وها ضمير متصل في محل نصب مفعول به أوّل.[١٦]
  • سليمانَ: مفعول به ثانٍ منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة.[١٦]
  • وكلًّا: الواو عاطفة، وكلًّا مفعول به أوّل مُقدّم للفعل آتينا، منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة.[١٦]
  • آتينا: فعل ماض مبني على الفتحة المقدرة على الألف المحذوفة، ونا ضمير متصل مبني في محل رفع فاعل.[١٦]
  • حكمًا: مفعول به ثانٍ منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره.[١٦]
  • وعلمًا: اسم معطوف على "علمًا" فهو منصوب مثله.[١٦]
  • وسخّرنا: الواو عاطفة، وسخّرنا فعل ماضٍ مبني على السكون لاتصاله بنا الدالة على الفاعِلِين، ونا ضمير متصل في محل رفع فاعل.[١٦]
  • مع: ظرف زمان منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة متعلّق بالفعل سخّرنا.[١٦]
  • داودَ: مضاف إليه مجرور وعلامة جرّه الفتحة نيابة عن الكسرة لأنّه ممنوع من الصّرف.[١٦]
  • الجبالَ: مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة.[١٦]
  • يُسبّحنَ: فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة، والنون ضمير متصل مبني في محل رفع فاعل.[١٦]
  • والطّيرَ: اسم معطوف على الجبال فهو منصوب مثله.[١٦]
  • وكنّا: الواو عاطفة، وكنّا فعل ماضٍ ناقص مبني على السكون لاتصاله بنا الدالة على الفاعلين، ونا ضمير متصل مبني في محل رفع اسمه.[١٦]
  • فاعلين: خبر كان منصوب وعلامة نصبه الياء لأنّه جمع مذكّر سالم، والنون عوضًا عن التنوين في الاسم المفرد.[١٦]
  • جملة {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}: معطوفة على جملة {يَحْكُمَانِ} في الآية السابقة فهي مثلها في محل جر.[١٧]
  • جملة {آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}: اعتراضيّة لا محل لها من الإعراب.[١٧]
  • جملة {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ}: معطوفة على جملة {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} فهي مثلها في محل جر.[١٧]
  • جملة {يُسَبِّحْنَ}: في محل نصب حال من الجبال.[١٧]
  • جملة {وَكُنَّا فَاعِلِينَ}: معطوفة على جملة {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ} فهي مثلها في محل جر.[١٧]

الثمرات المستفادة من آية: وسخرنا مع داود الجبال

ختامًا تقف هذه الفقرة مع الثمرات التي يمكن أن يستفيدها المسلم من خلال قراءته لقوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ۚ وَكُنَّا فَاعِلِينَ}،[١٨] والحقّ أنّ في هذه الآية ثمرات كثيرة، ولكن يُذكر منها ما يناسب المقام على نحو موجزٍ دفعًا للإطالة التي هي مظنّة الملل، وإنّ من الثمرات أوّلًا أن يعلم الإنسان أنّ الاجتهاد في أمر مع امتلاك العلم فيه هو أمرٌ يُحسب للمُجتهد ولا يقدح فيه عدم موافقته لرأي بعض الناس، ولا يصحّ أن يوصف بالخطأ إلّا ممّن يمتلك القدر ذاته من العلم الذي يسمح له بأن يجتهد في الحكم مثله، فقد أقرّ الله -سبحانه- سليمان على حكمه ولم يُخطّئ داود عليهما السلام، فهما الاثنان قد حكما بموجب علمهما بالأمر، ولكن قد أشاد الله -سبحانه- بحكم سليمان عليه السلام.[١٩]

والثمرة الثانية تتعلّق بقوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ}، ففي هذه الآية يثبت -تعالى- اللغة للجمادات، فللجمادات لغة لا يفهمها البشر ولا يستطيعون سماعها، بل هي عند العلماء لا لغة لها، والحقيقة أنّ لها لغة لا يفهمها إلّا بنو جنسها، وإذا اعتقد الإنسان أنّها لا لغة لها لأنّها جماد فهو -لا شكّ- مخطئ لأنّ الله -تعالى- قد قال إنّها تسبّح {وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}،[٢٠] فمن هنا على المسلم أن يعلم أنّ كلام العلم في مثل هذه الأمور ليس كلامًا قطعيّ الثّبوت، ولكن قد يكون هذا الأمر ممّا يفوق طاقتهم على الفهم، وإن أنكروا حقيقة نطق الجمادات فهذا شأنهم، ولكن لا ينبغي موافقتهم في كلّ ما يذهبون إليه، والله أعلم.[١٩]

المراجع

  1. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبد الرحمن بن يزيد، الصفحة أو الرقم:4739، صحيح.
  2. "التحرير والتنوير - سورة الأنبياء"، islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-07. بتصرّف.
  3. سورة الأنبياء، آية:79
  4. "سورة الأنبياء"، ar.wikipedia.org، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-07. بتصرّف.
  5. سورة الأنبياء، آية:79
  6. سورة الأنبياء، آية:78
  7. ^ أ ب "تفاسير الآية 79 من سورة الأنبياء"، quran.ksu.edu.sa، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-07. بتصرّف.
  8. "تفاسير الآية 78 من سورة الانبياء"، quran.ksu.edu.sa، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-07. بتصرّف.
  9. رواه الألباني، في صحيح ابن ماجه، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:1110، حسن صحيح.
  10. سورة الأنبياء، آية:79
  11. "تعريف و معنى الفهم في قاموس لسان العرب"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-07. بتصرّف.
  12. "تعريف و معنى آتى في معجم المعاني الجامع"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-07. بتصرّف.
  13. "تعريف و معنى التسخير في معجم المعاني الجامع"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-07. بتصرّف.
  14. "تعريف و معنى تسبيح في معجم المعاني الجامع"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-07. بتصرّف.
  15. سورة الأنبياء، آية:79
  16. ^ أ ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص "فَفَهَّمْنَٰهَا سُلَيْمَٰنَ ۚ وَكُلًّا ءَاتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُۥدَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَٱلطَّيْرَ ۚ وَكُنَّا فَٰعِلِينَ (الأنبياء - 79)"، www.quran7m.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-08. بتصرّف.
  17. ^ أ ب ت ث ج "الجدول في إعراب القرآن"، www.al-eman.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-08. بتصرّف.
  18. سورة الأنبياء، آية:79
  19. ^ أ ب "سورة الأنبياء - تفسير الشعراوي"، www.al-eman.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-08. بتصرّف.
  20. سورة الإسراء، آية:44
4077 مشاهدة
للأعلى للسفل
×