محتويات
سورة النحل
سورة النحل من السور المكية في قول الجمهور وهو القول المنقول عن ابن عباس وابن الزبير، ولكن قد ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ في آياتها آيات مدنيّة وأخرى مكيّة، ووجه تسميتها بالنّحل هو أنّ لفظ النّحل لم يُذكر إلّا فيها، وترتيبها من حيث النزول الثانية السبعون، نزلت بعد سورة الأنبياء وقبل سورة السجدة، وآياتها مئة وثمان وعشرون بلا خلاف بين أهل الأمصار، واسمها -أي سورة النحل- هو الأشهر عند السلف والخلف، وقال بعض علماء السّلف إنّها تُسمّى كذلك سورة النِّعَم؛ لأنّ الله -سبحانه- قد عدّد فيها كثيرًا من النِّعَمِ على عباده،[١] وترتيبها في المصحف السادسة عشرة، وتقع بين سورة الحِجر وسورة الإسراء، وفي هذه السورة ثمّة سجدة تلاوة في الآية رقم 49، وفي هذه السورة آية كريمة يقول فيها الله تعالى: {وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ ۚ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}،[٢] وسيقف هذا المقال فيما يأتي من فقرات مع تفسير هذه الآية وشرحها بشيء من التفصيل.[٣]
معنى آية: وعلى الله قصد السبيل، بالشرح التفصيلي
تقف هذه الفقرة فيما يأي مع تفسير قوله تعالى في سورة النحل: {وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ ۚ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}،[٤] فيرى بعض المفسّرين أنّ هذه الآية جاءت تكملة لما جاء قبلها من آيات وهو قوله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ ۚ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}،[٥] فيرى المفسّرون أنّ الله -تعالى- بعد أن فرغ من ذكر الحيوانات التي تسير في السبل والطرق الحسيّة انتقل إلى ذكر الطرق المعنويّة الموصلة إليه سبحانه، وهذا الأسلوب -أي الانتقال من الحسّي إلى المعنوي- كثير في القرآن الكريم، ومن ذلك قوله تعالى في سورة البقرة: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}،[٦] وقوله تعالى كذلك في سورة الأعراف: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}،[٧]
فبعد أن ذكر -تعالى- الحيوانات وما تتحمّله والأماكن البعيدة الشاقة التي تبلغها فإنّه ذكَرَ الطرق الدينيّة المعنويّة التي توصلُ إليه، وبيّن أنّه طريق الحقّ لا غير، فقال بعض أهل التأويل من علماء السلف أنّ المقصود في قوله تعالى: {وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} هو أنّ طريق الحقّ على الله تعالى، بمعنى أنّ تبيين طريق الحقّ على الله تعالى، وأنّه ليس هنالك سوى طريق واحد، وما عداه هي طرق مسدودة لا تقبل فيها الأعمال.[٨]
وقوله تعالى {قَصْدُ السَّبِيلِ} يعني الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، فالسبيل هو الطريق، والقصد من الطّرق هو الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، فيقصد تعالى أنّ الطريق القاصد -يعني المستقيم- هو الإسلام، وما سواه هي طرق مردرودة، وأمّا قوله: {وَمِنْهَا جَائِرٌ}، فالمقصود أنّه من بين تلك الطرق هنالك طرق جائرة؛ أي: حائدة عن الطريق المستقيم، وهي الطرق التي يزيّنها الشيطان، وقال أهل التفسير إنّ المقصود بها الطرق الحائدة عن النهج القويم كاليهوديّة والنصرانيّة والمجوسيّة وغيرها من الطرق التي تكفر بالله تعالى، وقيل هي الطرق الزائغة المنبثقة من الطريق الأصل الذي هو الإسلام، وذلك قريب من قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}،[٩] ثمّ يختم تعالى الآية بقوله: {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}، فهو -تعالى- قد هدى جمعًا من خلقه ولم يهدِ آخرين حكمة منه وعدلًا لا ينبغي للبشر إدراكه، فهو -تعالى- أعلم به، ولا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسألون، وهذا التذييل قد مرّ في القرآن الكريم كثيرٌ مثله، فمن ذلك قوله تعالى في سورة يونس: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}،[١٠] وكذلك قوله تعالى في سورة هود: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}،[١١] والله -تعالى- أعلى وأعلم.[٨]
معاني المفردات في آية: وعلى الله قصد السبيل
تقف هذه الفقرة فيما يأتي مع بيان معاني المفردات في قوله تعالى في سورة النحل: {وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ ۚ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}،[١٢] ففي ذلك -أي بيان معاني المفردات- زيادة في الوضوح والبيان، ومن ذلك ما يأتي:
- قصد: القصد هو تبيين الطريق الذي يوصل إلى الحق، أو هو بيان الطريق المستقيم، والقصد في اللغة هو استقامة الطريق.[١٣]
- السبيل: هو الطريق، ومنه قيل لطريق الهدى الذي أوجده الله -تعالى- لعباده سبيل الله، والسّبيل في اللغة يُذكّر ويؤنّث، وقد جاء في القرآن الكريم بالصيغتين المذكّر والمؤنّث، ففي سورة الأعراف جاء مذكّرًا في قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}،[١٤] وأمّا في سورة يوسف فقد جاء مؤنّثًا في قوله تعالى: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}،[١٥] والله أعلم.[١٦]
- جائر: الجائر يأتي من الجور، وهو نقيض العدل والقصد في الطريق، فيقولون ترك القصد في الطريق إذا مال عنه، وجار عن الطريق إذا عدل عنه.[١٧]
- لهداكم: هداكم مشتق من الهدى، والهدى هي الدلالة والرشاد، تُؤنّث وتُذكّر، فالمقصود بقوله تعالى في هذه الآية ولو شاء لأرشد الخلق جميعًا إلى سبيل الرشاد والفلاح، ومن معاني الهدى كذلك البيان، وعلى هذا المعنى حمل العلماء معنى قوله تعالى في سورة السجدة: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ ۖ أَفَلَا يَسْمَعُونَ}،[١٨] والله أعلم.[١٩]
إعراب آية: وعلى الله قصد السبيل
هل لمفردات هذه الآية إعراب في اللغة العربية؟ فيما يأتي تقف الفقرة مع إعراب مفصّل من حيث المفردات والجمل في قوله تعالى: {وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ ۚ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}؛[٢٠] إذ بالإعراب يزداد الكلام وضوحًا وبيانًا:
- وعلى الله: الواو استئنافيّة، وعلى حرف جر، والله اسم الجلالة اسم مجرور بحرف الجر وعلامة جرّه الكسرة الظاهرة، والجار والمجرور متعلّقان بخبر مقدّم محذوف، وتقدير الكلام: قصدُ السبيلِ كائنٌ على الله، والله أعلم.[٢١]
- قصدُ: مبتدأ مؤخّر مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره.[٢٢]
- السبيل: مضاف إليه مجرور وعلامة جرّه الكسرة الظاهرة على آخره.[٢٢]
- ومنها: الواو اعتراضيّة،[٢٣] ومن حرف جر، وها ضمير متصل مبني في محل جر بحرف الجر، والجار والمجرور متعلّقان بخبر مقدّم محذوف لمبتدأ محذوف، والتقدير: سبيلٌ جائرٌ كائنٌ منها.[٢٢]
- جائر: صفة لمبتدأ محذوف قد جاء تقديره في المفردة السابقة، مرفوعة مثله وعلامة رفعها الضمة الظاهرة.
- ولو: الواو استئنافيّة، ولو حرف شرط غير جازم.
- شاء: فعل ماض مبني على الفتح الظاهر على آخره، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو عائد على اسم الجلالة الله سبحانه وتعالى.
- لهداكم: اللام واقعة في جواب لو، هداكم فعل ماض مبني على الفتح المقدّر على الألف للتعذّر، والكاف ضمير متصل مبني في محل نصب مفعول به، والميم للجمع.
- أجمعين: توكيد للمفعول به السابق منصوب وعلامة نصبه الياء لأنّه جمع مذكّر سالم.
- جملة {عَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ}: استئنافيّة لا محل لها من الإعراب.[٢٣]
- جملة {مِنْهَا جَائِرٌ}: اعتراضيّة لا محل لها من الإعراب،[٢٣] ويجوز أن تكون معطوفة على ما قبلها فهي مثلها كذلك لا محل لها من الإعراب وذلك رأي من عدّ الواو عاطفة.[٢١]
- جملة {لَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}: ابتدائيّة لا محل لها من الإعراب.[٢١] وعند بعضهم معطوفة على الجملة الاستئنافيّة السابقة فهي مثلها لا محل لها من الإعراب.[٢٣]
- جملة {هَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}: جواب الشرط غير الجازم وغير المرتبط بالفاء لا محل لها من الإعراب.[٢٣]
الثمرات المستفادة من آية: وعلى الله قصد السبيل
ما هي الثمرات المستفادة من هذه الآية؟ ختامًا تقف الفقرة مع الثمرات التي يمكن أن تُستفاد من قوله تعالى: {وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ ۚ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}، وستُضيء على ثمرة واحدة بما يتّسع له المقام، والثمرة هنا تدعو إلى زيادة الإيمان واليقين بحكمة الله -عزّ وجلّ- وعدلة في تسيير أمور الناس، ذلك أنّ الله -تعالى- لا يحكم بهوى ولا يُحابي أحدًا من مخلوقاته، ولكنّه يقضي بعلمه الواسع سبحانه وتعالى، فعندما يضع الله -سبحانه- طريقًا واضحًا لا للسير إليه فهو قد بيّن للإنسان كلّ الطرق في الحياة، وترك له مهمّة الاختيار بحريّة مطلقة؛ فإن شاء اتّبع طرق الشيطان وإن شاء سلك طريق الحقّ ليكون في زمرة عباد الله المخلصين الذين استثناهم الشيطان من قدرته على الإضلال حين قال مخاطبًا الله -تعالى- فيما جاء في القرآن الكريم في سورة ص: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}،[٢٤] فالحقّ -سبحانه وتعالى- قد أوضح للإنسان الطريق الحق الذي عليه أن يسير فيه إن أراد النجاة، وأمام هذا الطريق الخلق كلّهم واحد لا تمييز بينهم، والله أعلم.[٢٥]
المراجع
- ↑ "التحرير والتنوير - سورة النحل"، islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-28. بتصرّف.
- ↑ سورة النحل، آية:9
- ↑ "سورة النحل"، ar.wikipedia.org، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-28. بتصرّف.
- ↑ سورة النحل، آية:9
- ↑ سورة النحل، آية:5-8
- ↑ سورة البقرة، آية:197
- ↑ سورة الأعراف، آية:26
- ^ أ ب "تفاسير الآية 9 من سورة النحل"، quran.ksu.edu.sa، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-28. بتصرّف.
- ↑ سورة الأنعام، آية:153
- ↑ سورة يونس، آية:99
- ↑ سورة هود، آية:118-119
- ↑ سورة النحل، آية:9
- ↑ "تعريف و معنى قصد في معجم المعاني الجامع"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-28. بتصرّف.
- ↑ سورة الأعراف، آية:146
- ↑ سورة يوسف، آية:108
- ↑ "تعريف و معنى السبيل في قاموس لسان العرب"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-28. بتصرّف.
- ↑ "تعريف و معنى الجائر في قاموس لسان العرب"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-28. بتصرّف.
- ↑ سورة السجدة، آية:26
- ↑ "تعريف و معنى الهدى في قاموس مختار الصحاح"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-28. بتصرّف.
- ↑ سورة النحل، آية:9
- ^ أ ب ت محمد علي طه الدرة (2009)، تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه (الطبعة 1)، دمشق:دار ابن كثير، صفحة 155، جزء 5. بتصرّف.
- ^ أ ب ت "وَعَلَى ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ ۚ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَىٰكُمْ أَجْمَعِينَ (النحل - 9)"، www.quran7m.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-28. بتصرّف.
- ^ أ ب ت ث ج "الجدول في إعراب القرآن"، www.al-eman.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-28. بتصرّف.
- ↑ سورة ص، آية:82-83
- ↑ "سورة النحل - تفسير الشعراوي"، www.al-eman.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-28. بتصرّف.