الظرفاء والمتماجنون
يمثِّلُ الظرفاء والمتماجنون في العصر العباسي إحدى الظواهر الاجتماعيَّة والحضاريَّة وخاصةً في بغداد، ويقترب معنى المجون من معنى الظرف، فالمجون هو أن لا يبالي الإنسان بما يصنع، وأمَّا الظرف فهو التورية عما يوجبُ الخجل وتجويد الكلام وتحسينه، ففي فترة ازدهار بغداد ظهرت هذه الفئة من الشعراء والأدباء وكان لهم أثر كبير في الحياة الاجتماعية الحضريَّة في ذلك العصر، وذلك بإضافة الظرافة والسخرية على الوجود الحضري في الشعر وبما يحمله هذا الشعر من احتجاج على الواقع الاجتماعي أحيانًا، ومن أشهر الظرفاء أبو دلامة الذي سيدور الحديثُ حولَه في هذا المقال.
من هو أبو دلامة
أبو دلامة شاعر ساخر من شعراء العصر العباسي، اسمه زند بن الجون وقيلَ: زيد، لكن أكثر المصادر تشير إلى أنَّه زند بن الجون، اشتُهرَ باسم أبي دلامة نسبةً إلى اسم ابنته التي كانت تُدعى: دلامة فكُنِّي بها، وقيلَ أيضًا: بأنَّ دلامة جبل مطلٌّ على الحجون بأعلى مكَّة، وهو جبلٌ أسود ذو صخرٍ أملس، فكُنِّي به لوجود شبهٍ بينه وبين هذا الجبل بالطول والسواد فقد كان طويلًا وأسودًا. ويقال أنَّه كان عبدًا لرجلٍ من أهل الرقة من بني أسدٍ وأعتقه في ما بعد، لم يُعرف تاريخ ميلاده فلم تُشِر المصادر إلى تاريخ ولادته، ولكنَّ أبا دلامة كان قد عُرف في عصرِ أبي العبَّاس السفاح، والغالب أنَّه قضى 20 سنة من عمره أثناء فترة حكم الدولة الأمويَّة، فمن المرجَّح أن يكون قد ولدَ عام 100هـ تقريبًا، وهو أحد الشعراء المعاصرين لخلفاء الدولة العباسية الثلاث الأوائل وهم: أبو العباس السفاح، أبو جعفر المنصور، المهدي. وكان يعتبر أبو دلامة شاعرهم ونديمهم الخاص وله قصص كثيرة مع الخليفة المهدي، لم يكن من كبار الشعراء لكنَّهُ كان خفيفَ الظلِّ، سريعَ الجواب، حاضرَ النكتة ما دخل على أحد إلا أضحكه، فكاهيًّا مرحًا، حسن الحديث، ذو روايةٍ ممتعةٍ. توفِّي عام 161هـ ويقال أنَّه عاش إلى أوائل دولة الرشيد [١].
أبو دلامة والمهدي
كان أبو دلامة الشاعر الساخر نديمًا للمهدي ومحبَّبًا إلى قلبه، وعندما يبعثُ الخليفة في طلبه يأتيه على جناح السرعة للتسريةِ عنه بأشعاره ودعاباته التي لا تنتهي، وقد كان له معه الكثير من الطرف والأحاديث والقصص، ويروى أنَّه عندما دخلَ على المهدي يهنِّئهُ قال له:
إنِّي حلفتُ لئِن رأيتُكَ سالمًا بقُرى العراقِ وأنت ذو وفرِ
لتُصلينَّ على النبيِّ محمَّد ولتملأنَّ دراهمًا حِجري
فضحكَ المهدي وقال له: أمَّا الأولى فنعم، فقال أبو دلامة: إنَّهما كلمتان لا يُفرَّقُ بينهما، فضحكَ الخليفة وملأ حجرَه دراهم [١].
وقد دخلَ أبو دلامة ذاتَ يومٍ على الخليفة فوجده مهمومًا مغتمًّا، فوقع أبو دلامة في حيرةٍ محاولًا إخراج الخليفة مما هو فيه، فأسعفته فطنتهُ ونباهته بفكرةٍ طريفةٍ وهي أن يسخرَ من نفسه، فيجدُ الخليفةُ في هذا اللون المبهج والفكاهيِّ ما يفرحُه ويفرج عنه همَّه وغمَّه، فأنشدَ أبو دلامة قائلًأ:
ألا بلِّغ لديكَ أبا دلامَةْ فلستَ من الكرام ولا الكرامَةْ
جمعتَ دمامةً وجمعتَ لؤمًا كذاك اللؤمُ تتبعه الدمامَةْ
إذا لبسَ العمامةَ صار قردًا وشيطانًا إذا نزعَ العمامَةْ
فضحكَ المهدي حتى قلبَ على قفاه، وأمر لأبي دلامة بجائزةٍ قيِّمةٍ. [٢]
طرائف أبي دلامة
كانَ أبو دلامة من الشعراء الظرفاء في العصر العبَّاسي ورويَ عنه الكثير من الطرائف والنوادر مع عدد من الخلفاء العباسيين، منهم أبو جعفر المنصور والمهدي وغيرهم، ومن طرائف أبي دلامة التي انتشرت عنه واشتُهر بها: [٣]
- خرجَ أبو دلامة مرةً معَ الخليفةِ المهدي في مصادٍ لهُم أي في رحلةِ صيدٍ، فعنَّ لهم ظبيٌ أي مرَّ أمامهم، فرماهُ المهديُّ بسهمٍ فأصابه، ورمى عليُّ بن سليمانَ فأخطأَ وأصابَ الكلب، فضحكَ الخليفة المهدي وقالَ لأبي دلامةَ: قُلْ، أي قُلْ شعرًا في ذلك، فقال أبو دلامة: قد رمى المهديُّ ظبيًا شكَّ بالسهمِ فؤادَهْ وعليُّ بنُ سليما نَ رمَى كلبًا فصادَهْ فهنيئًا لهمَا كُلُّ امرىءٍ يأكلُ زادَهْ!
- وكتب أبو دلامة إلى عيسَى بن موسَى، وهو والِي الكوفة في ذلكَ الوقت رقعةً فيها هذهِ الأبيات: إذا جئت الأمير فقُلْ سلامٌ عليكَ ورحمةُ اللَّه الرحيمِ وأمَّا بعدَ ذاك فلي غريمٌ من الأعرابِ قُبِّح من غريمِ لزومٌ ما علمت ببابِ داري لزوم الكلبِ أصحابَ الرَّقيم لهُ مئةٌ عليَّ ونصفُ أخرى ونصفُ النِّصف في صكٍّ قديمِ دراهمُ ما انتفعتُ بهَا ولكن حبوتُ بهَا شيوخَ بني تميمِ
- ودخل ذاتَ يومٍ أبو دلامة على المهديِّ فأسمعَه مديحًا، فأُعجِبَ الخليفةُ بهذا المدح وقال لهُ: سَلْ حاجَتك، قال أبو دلامة: كلبُ صيدٍ أصطاد به. قالَ: قد أمَرنا لكَ بكلبٍ تصطادُ بهِ. قالَ: وغلامٌ يقودُ الكلب. قال: قد أمَرنا لكَ بغلام. قال: وخادمٌ تطبخُ لنا الصيدَ. قال: وأمرنَا لك بخادمٍ. قال: ودارٌ نأوي إليها. قال: وأمرنَا لك بدارٍ. قال: بقيَ الآنَ المعاش. قال: قد أقطعنَاك ألفَ جريبٍ عامرة وألف جريب غامرة. قال: وما الغامرَة؟ قال: التي لا تعمُر. قال: فأنا أقطعُ أميرَ المؤمنينَ خمسينَ ألفًا من فيافِي بني أسدٍ، قال: فإنَّا نجعلها عامرةً كلَّها. قال: فيأذنُ أميرُ المؤمنينَ في تقبيلِ يدِه. قال: أمَّا هذه فدعْها، قالَ: ما منعتَني شيئًا أيسر على أمِّ عيالي فقدًا منه.
- ويروى عنه أيضًا أنَّه حضرَ جنازة حمادة زوجة الخليفة المنصور، فقال له المنصور: ماذا أعددت لهذه الحفرةَ يا أبا دلامة؟، قال أبو دلامة: حمادةَ يا أمير المؤمنين. فضحكَ الخليفةُ من قوله.
- ويروَى أيضًا أنَّه دخلَ يومَ وفاةِ الخليفةِ العباسيِّ أبِي العبَّاس السفَّاح على زوجتِه أمِّ سلمة بنتِ يعقوب المخزوميَّة يعزِّيها عنه، وكان هو أحدَ القلائلِ المُنتفعين من خلافتِه، فبكَى وأنشدَ قصيدةً هذه بعضٌ من أبياتها:
أمسيتَ بالأنبارِ يابن محمّدٍ لا تستطيعُ من البلادِ حويلَا
ويلي عليكَ وويلَ أهلي كلِّهم ويلًا وهولًا في الحياةِ طويلا
فلتبكينَّ لكَ النِّساء بعبرةٍ وليبكينَّ لكَ الرجــالُ عويلا
ماتَ النَّدى إذ متَّ يابنَ محمَّدٍ فجعلتَهُ لكَ في التُّراب عديلا
إن أجملُوا في الصَّبر عنكَ فلَم يكُن صبرِي ولا جَلَدي عليكَ جميلا
يجدُونَ منك خلائفًا، وأنا امرؤٌ لو عشتُ دهرِي ما وجـدتُ بديلا
إنِّي سألتُ النَّاس بعدكَ كلَّهم فوجدتُ أسمحَ من وجدتُ بخيلَا
فقالت له أمُّ سلمة: يا أبا دلامة والله ما أصيب "أي تضرَّر" أحدٌ بموتِ أميرِ المؤمنين غيرِي وغيرك؟ فأجاب أبو دلامة: لا والله ما أصيبَ أحدٌ سواي، أنتِ لكِ ولدٌ منهُ تتسلِّينَ به، وأنا لا ولدَ لي مِنه!، فضحكَتْ أمُّ سلمة ولم تكُن ضحكت منذ ماتَ أبو العبَّاس، وقالت له: يا زَند، ما تدعُ أحدًا إلَّا أضحكتَهُ.
المراجع
- ^ أ ب سير أعلام النبلاء, ، "www.islamweb.net"، اطُّلع عليه بتاريخ 10-12-2018، بتصرف
- ↑ الشعراء الظرفاء, ، "www.saaid.net"، اطُّلع عليه بتاريخ 10-12-2018، بتصرف
- ↑ العقد الفريد, ، "www.shamela.com"، اطُّلع عليه بتاريخ 10-12-2018، بتصرف