موضوع إنشاء عن التواضع

كتابة:
موضوع إنشاء عن التواضع


التواضع

التواضع هو السمة التي يسعى إليها كلّ إنسان عاقلٍ يهدف إلى السعادة في الدّنيا ويسعى لأن يكون ذاك الصَّاحب الذي يتمنَّاه الجميع، فالتواضع ليست صفة جديدة أو دخيلة على المجتمع العربيّ، بل هي من مَكارم الأخلاق التي حضَّ عليها العلماء والأدباء والرسل والأنبياء، وكم يفخر الإنسان في داخله عندما تتجسّد به صفة التواضع فيُصبح ذا خُلق رفيع يسعى النَّاس إلى مصاحبته والحديث معه.



فلا أبغض على الإنسان من أن يكون مُتعجرفًا مُتكبرًا تكرهه الأرض التي يسير عليها، وعندما يهدف الإنسان إلى ترويض نفسه الدَّاخلية فإنَّه أول ما يُربّيها على التواضع مع الآخرين وكظم الغيظ واحترام مَن هُم أكبر منه سنًّا والعطف على من هم أصغر منه، إذَا التواضع هو سمة الأصفياء الأتقياء، وللتواضع أنواع مختلفة ومتنوّعة وكثيرة لو تبعه المرء في خُلُقه لصار ذاك البشريّ الذي يُحبّه الجميع.



أشكال التواضع

كما أنَّ المرء ينعم بمحبة الآخرين له ويسعى لاكتساب قلوب أفراد عائلته وأصدقائه ومَن يُصادفهم، ومن أشكال التواضع وأنواعه هو تواضُع المرء في مشيته ولباسه، ويحضرني الآن قصّة حصلت مع صديقي رائد منذ سنة أو يزيد، رائد كان معي في الصف الخامس وكان تلميذًا مُتكبرًا على أصدقائه ولم نكن نودّ التّعامل أو الحديث معه؛ لأنَّه يتعالى علينا في كلّ حين، وفي يومٍ من الأيَّام اشترى رائد ثيابًا لأجل العيد وتعمَّد أن يأتي بها بعد عطلة العيد في أول يومٍ من أيَّام المدرسة.



كان يمشي مُتفاخرًا بثيابه أمام أصدقائه وخاصّة مسعود الذي بالكاد تستطيع عائلته تأمين الحاجات الأساسيَّة لهم، يومها لم يُعجبني هذا التصرّف منه وتحدَّثت إلى المعلم عن فعل رائد وأخبرته بتفاخُره على مسعود، وفي تلك اللحظة نادى المعلم على رائد وخرج به من الصف مدة تُقارب العشر دقائق ثم عاد به، وإذا برائد تترقرق الدّموع من عينيه ويعتذر لمسعود ولجميع أصدقائه عن تصرُّفه الذي بدر منه، ثم تحوَّل بعد ذلك إلى طفلٍ متواضع يساعد الآخرين من حوله ولا يتعمّد إظهار ما لديه أمام الناس.



قد سمعت في يومٍ من الأيَّام جدّتي تتحدّث عن التواضع مع الذين هم أضعف منَّا وأقل منَّا حالًا، وكانت مُناسبة الحديث تلك عندما كان والدي يبني البيت الجديد لنا وقد استأجر عمّالًا حتى يقوموا بذلك، ولكنّي أذكر حتَّى الآن أنَّ والدي لم يكُن ليعاملهم وكأنَّه أعلى درجة منهم أو يتفضَّل عليهم على العكس تمامًا، فقد كان يأمر والدتي أن تصنع الطعام لهم ثم يحمله إليهم والابتسامة تعلو مُحيَّاه ويعطيهم الماء فيغسلون وجوههم وأيديهم ويدعوهم إلى الطعام ويأكل معهم أيضًا، فكانت تقول جدّتي: هكذا يتجسَّد خلق التواضع مع العمال والمساكين.



بعد فترةٍ وجيزة من الزَّمن قدمت عمّتي أم خالد من سفرها الطويل، فهي تُقيم في المملكة العربية السعودية تسعة أشهر ومن ثم تأتي لزيارتنا لمدة ثلاثة أشهر، وعندما أتت هذه المرة كان قد صار عمر ابنتها أحلام سنتان ونصف فكانت جدتي تضمّها إلى حضنها وتعطف عليها وتلعب معها بألعابها وتحكي لها الطَّرف والحكايات، وعندما سألتُ جدّتي عن فعلها ذاك وهل هي تستمتع فعلًا باللعب مع الصغار قالت لي: بُنيّ يجب أن يتلطَّف الإنسان دائمًا مع الأطفال والصغار، فلا يقاسيهم أبدًا بل يلعب معهم ويسأل عن حالهم ويقدم لهم ما يفرحهم ويسر قلوبهم.



تواضع التابعين

التواضع هو صفة الأنبياء والصالحين والرّسل ومن أحبّ التحلّي بالأخلاق الحسنة لينال من خير الدنيا والآخرة، وقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- هم خير من اتّصفوا بالتّواضع فقد استقوه من نبع النبيّ العظيم محمّد -صلّى الله عليه وسلّم-، فها هو أبو بكر يحلب شاته بنفسه وأبو الدرداء ينفخ النار تحت قدره حتى تسيل الدموع من عينيه بسبب دخانها.



من المذكور في تواضع الصحابة أنَّه قبل أن يُستخلف أبو بكر -رضي الله عنه- على المسلمين بعد موت رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وكان يحلب لبعض القوم أغنامهم فقالوا بعد أن أصبح خليفة: الآن أبو بكر لن يحلب لنا، فقال أبو بكر: "بلى لأحلبنَّ لكم وأرجو ألَّا يُغيرني ما أنا دخلت فيه".



لمَّا كان عمر بن الخطاب خارجًا من المسجد ومعه رجل فإذا بامرأة تُوقفه وتُحدّثه فتقول له: كنتُ أعهدك في سوق عكاظ صبيًا يُناديك الناس عُميرًا، ثم أصبحت بعد ذلك عمرًا ثم تتالت الأيَّام وقد أصبحت بعد ذلك أميرًا للمؤمنين فاتقٍّ الله في رعيّتك، فقال لها الرجل أن قد أغلظت عليه يا امرأة، فقال له عمر بن الخطاب: ويْحَك أتدري مَن هذه، هذه خولة بنت حكيم وقد سمع الله كلامها من فوق سبع سموات أفلا أسمعه أنا.[١]



لم يختلف تواضُع التّابعين عن الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين-، فها هو عمر بن عبد العزيز عندما تسلَّم الخلافة وأتاه رجل فقال له يا خليفة الله على الأرض فقال له عمر بن عبد العزيز: ويْحَك إني لمَّا ولدت في هذه الدنيا اختار لي والداي اسم عمر ولو ناديتني فيه ألا يكفيك، ولمَّا كبرت اخترت لنفسي كنية هي أبو حفص ولو ناديتني بها لأجبتك، ولمّا ولّيتموني أمركم وحكمكم اخترتم لي لقب أمير المؤمنين ولو ناديتني به لأجبت، أمَّا أنك دعيتني بخليفة الله على الأرض فلا والله لست كذلك، إنّما خليفة الله على الأرض داود عليه السلام ومَن شابهه.[٢]



إنَّ التواضع يرفع من صاحبه فكلما تواضع المرء درجة رفعه الله تعالى درجات، ويُحبّه النَّاس ويألفونه ويكرهون اللفظ غليظ القلب؛ لأنَّ النفس البشرية جُبلت على الألفة والمحبة، وللتّواضع العديد من الثمرات والفوائد التي يحصلّها الإنسان في الدنيا والآخرة.



فوائد التواضع

التواضع هو الخلق الذي يجب أن يتربّى عليه المسلم منذُ نعومة أظفاره، إذ إنَّ التواضع هو أولى الخطوات التي يسير عليها المرء في سبيل الخضوع للحق والركون إليه، فلا يكون الإنسان ميالًا إلى نفسه مُعزًّا إيَّاها على حساب الآخرين، فهذه ليست من الصفات النبيلة ولا الشيم الرفيعة التي يتغذّى عليها التواضع فيزهر أخضر يانعًا تطوق النفوس إليه وتهفو له القلوب.



عدا عن المحبة الكبيرة التي يحصدها الإنسان مِن حوله فيميل إليه الكبير والصغير، ولا يتعاضد المجتمع إلا بالحب والألفة، ولولا الحبّ لما كانت الدنيا، فالأم تعطف على صغيرها بالحب وتتحمّل المَشاق بالحب، والأب يُجاهد في حياته ودافعه هو حبّ أولاده والعطف عليهم، إذًا التواضع هو اللّبنة الأساسية التي يقوم عليها المجتمع بأكمله.



لو كان الكُره والحقد والضّغينة شجرة لكان التواضع هو المنجل الذي يقطعها، لذلك فعندما يريد أن يخرق الشيطان بين عباد الله فإنّ أول الأبواب التي يدقّها الكبر والخيلاء والمُباهاة والتّفاخُر، وذلك كلّه أبعد ما يكون عن النفس الطيّبة التي تهوى السلام وتدعو إلى العدل، فلو كان الملك مُتكبرًا لما طاق أن يُقال له أنت مُخطئ أو إنَّ مَن حولك قد أساؤوا في كذا؛ لأنَّ كبرياء نفسه يمنعه من الاستماع إلى مثل ذلك، ولكن يبقى السؤال المُعلّق الذي يحتاج إلى إجابة حاسمة، كيف يُمكن الوصول إلى التواضُع؟.

الطريق إلى التواضع

قد لا يتبين حتى الآن الطرق أو الخطوات التي يُمكن الوصول من خلالها إلى التواضع المَحمود، ولكن لمعرفة ذلك فإنَّ أوَّل ما يفعله المرء في سيره نحو التواضع هو جبر القلوب بالكلمة الطيّبة، ومَنْح الابتسامة لكلّ مَن يحتاجها، وألَّا يكون المرء مُتكبّرَ النّفس لا يصفو مع أحد ويرى نفسه أعلى من الآخرين؛ لأنَّ ذلك من شأنه أن يُوقع به في الهاوية.



يلتمس الإنسان خطوات التواضع عن طريق تتبُّع المُحتاجين الذين لا يسألون النَّاس أموالهم فيمتنون على أنفسهم بالصدقة عليهم وعدم تذكيرهم بها، بل يعطونهم المال أو المتاع دون أن يسألونهم دعاء أو شكرًا على ذلك، ويستطيع المرء أن يكون مُتواضعًا كلّ حسب المكان الذي يكون فيه، فتكون المعلمة متواضعة مع طلابها فتسمع شكواهم وتُشفق لحالهم وتأنس بالحديث معهم ولا تتذمّر من أمورهم التي تراها صغيرة.



يستطيع الطبيب أن يكون مُتواضعًا بالاستماع دون تملمُل إلى مرضاه، وأن يكون معهم حينما يحتاجون إليه ولا يعد الأطباء صنعتهم تجارة بالبشر لكسب المال الوفير، على العكس من ذلك يجب أن يعلموا أنَّها مهنة الإنسانيّة والترفُّق بحياة الآخرين، نعم إنّ التواضع يحتاج عزمًا وإرادة فهو لا يهبط على الإنسان هبوطًا كالوحي -حاشا وكلاّ-، بل يحتاج إلى مُجاهدة طويلة تُكبح بها جماح النفس وتعلو بها الروح حتى تصل إلى سموها مترفعة عن رذائل الدنيا برمتها.

المراجع

  1. "عمر بن الخطاب تواضع عمر بن الخطاب "، طريق الإسلام، اطّلع عليه بتاريخ 2020-12-03. بتصرّف.
  2. "نماذج في التَّواضُع"، الدرر السنية، اطّلع عليه بتاريخ 2020-12-03. بتصرّف.
5478 مشاهدة
للأعلى للسفل
×