أسس اختيار الصديق
يولد المرء مسيَّرا لا مخيَّرًا ويجد نفسه وسط أسرة لم يخترها ولوالدين لم ينتقهما ولم يختاراه ولإخوة ألزمته الحياة مودتهم بصلة الدم وحدها، ويكبر وفي نفسه حب الاختيار وشغف لانتقاء أناس يشبهونه بالميل والطباع والفكر حتى قبل أن يكون فكره، فيبحث عن علاقات لم تلزمها القرابة وعن مودة لا تقررها الأعراف ولا توجبها صلات الدم، إنما فيها ما هو أقوى من ذلك من صلة الروح بالروح وائتلاف القلب مع القلب والارتياح إلى فكر نأنس به وكتف نتكئ عليه، وهي أشياء تجتمع في كلمة دافئة مؤنسة تروي كل الحكاية حين نقولها، نعم إنها الصداقة.
الصداقة قنديل لا يضيء إلا بحسن اختيار الواحد لرفيقه، فإنها شجرة لا تؤتي أكلها إن لم تكن بذرتها صالحة، ولا تدوم إن لم تثبت جذورها في الأرض، وتلك أمور تستوجب اليقظة في انتقاء الخلان، فإن أول شعلة في مصباحها الصدق ولا تصلح صداقة لا صدق فيها ولا تقوم مودة بالكذب والمداهنة والنفاق وإن قامت فلا يطول عليها الزمان، فإن أول الفطنة في انتقاء الصديق التماس الصدق فيه ومبادلته إياه لبناء مودة صافية لا يشوبها ادعاء أو مداهنة، فالصدق سمة مقرونة بخلال حميدة تنطوي عليها في الصديق وتظهر في نقاء سريرته ووفائه وحفظه السر وحسن استماعه وإجادته في النصيحة وهي أمور لا تجتمع لإنسان كاذب.
إن أحسن خصال الصديق الصدوق حفظه صديقه في غيبته، وذكره بالخير حاضرًا كان أم لم يحضر، فليس صديقًا ذلك الذي يبدي المودة في حضرة الناس ويضمر خلافها في صدره ويتحدث بالسوء عنهم في غيبتهم، وليس بالصديق من يتيح للناس اغتياب صديقه ويسكت لهم عن ذمه، فإن الإنسان حين يخلص المودة لصاحبه يساويه بنفسه فيرتضي له ما يرتضيه لها وينكر عليه ما ينكره عليها، ولا يرتضي الإنسان الذم لنفسه ولا يقبل اغتيابه بالسوء، والصداقة جوهرة تحفظ بالرعاية والحماية فيظل بريقها الأول بقدر ما يحفظها أصحابها بالمعاملة الحسنة والنية الصالحة والكلمة الطيبة، فتلك أشياء تحظفها من أي شائبة تشوبها وتخطف لمعانها الأول وزهوتها البكر.
الناس ليسوا معصومين من الخطأ، ولا يوجد في الأرض إنسان لا يقع فيه إلا أن يكون نبيًّا مرسلاً، والصحبة لا تخلو من خلاف بين الأصدقاء أو سوء فهم أو إساءة في المعاملة مما يأتي مع المطاولة وامتداد في زمان الصحبة، وتلك أمور لا تلغي الصداقة بل تختبرها، فإن الصحبة القوية تدوم وتقهر الخلافات، لذلك فإن اختيار الصديق الصالح يعني اختيار صديق واسع الصدر يتجاوز عنا زلاتنا ويحتوي سقطاتنا ويعيننا على النهوض منها، فمن أراد صديقًا لا عيب فيه فقد أراد صديقًا لا وجود له، وفي ذلك قال الشاعر بشار بن برد:[١]
إذا كنتَ في كلِّ الذُّنوب معاتبًا
- صديقكَ لم تلقَ الَّذي لا تعاتبُه
فعشْ واحدًا أو صلْ أخاكَ فإنَّه
- مفارقُ ذنبٍ مرَّةً ومجانبُه
اختيار الصديق في الإسلام
قد وضع الإسلام علامات واضحة على صلاح أمر الصديق وحسن الصداقة، سواء كان ذلك بصيغة مباشرة أم غير مباشرة، ونجد هذه العلامات في القرآن الكريم والحديث الشريف، وقد نص القرآن في جملته على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كَشَرطين راسخين في صلاح أمر العلاقات الإنسانية وطيب ثمارها، ومن ذلك قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[٢] ففي هذه الآية إشارة واضحة إلى صلاح أمر الأمة وفلاحها بما فيه خير وبالأمر به والنهي عما سواه، وهو ما يعني أنّ اختيار الصديق ينبغي أن يبنى على هذه الأسس حتى تقوم الصحبة الصالحة وتعود بالنفع على أهلها.
كما أشار القرآن الكريم في غير موضع إلى وجوب التقوى بوصفها أساسًا لدوام الصحبة وبقائها حتى بعد الموت، فإن اجتماع الأصدقاء على مخافة الله ومرضاته هو خير بذرة وخير سقيا للصحبة النافعة، وهو ما يدل على ضرورة انتقاء الأتقياء الأنقياء من الناس لضمان صدق مودتهم والتأكد من سلامة نياتهم، وفي ذلك قال الله تعالى: {الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ}[٣]، فيوم القيامة يصير كل الأصدقاء أعداء لبعضهم ما لم يكونوا مجتمعين على تقوى الله ومخافته، فالتقوى هي عماد الصداقة وأصل قيامها وثباتها فإن لم تكن انهار صرح الصداقة مهما كان عظيمًا وكبيرًا ومهما طال عليه الزمان.
كذلك عني النبي الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم- بأمر الصداقة وصلاح الصحبة، وتحدث عن ذلك في مواضع كثيرة، ومنها قوله -صلى الله عليه وسلم-: "خيرُ الأصحابِ عندَ اللهِ خيرُهم لصاحبِه وخيرُ الجيرانِ عندَ اللهِ خيرُهم لجارِه"[٤] فإن أحسن الناس من كان خيرًا لصديقه، ولا خير في إنسان لا يحسن إلى صاحبه، كما ذكر النبي المصطفى شرطًا أساسيًّا في أصالة الصداقة وصدق المحبة بين الأصدقاء وهو حب الله الذي كلما ازداد ازدادت قوة الصداقة ورسخت أكثر من قبل، فإنّ مَن أحبّ الله حبًّا كثيرًا سيحبّ الناس حبًّا كبيرًا صادقًا لا نفاق فيه ولا مداهنة ولا غدر بعده.
الحب فضاء يتسع باتساع قلب حامله، ومن اتسع قلبه لحب الله لا بد هو على المودة أقدر، وفي ذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما من رجلين تحابَّا في اللهِ في ظهر الغيب، إلَّا كان أحبُّهما إلى الله أشدَّ حبًّا لصاحبِه"[٥] فقد جعل النبي المصطفى حبَّ الله ميزانًا لمحبَّة البشر فيما بينهم وتفاضلهم في ذلك، فإنَّ أوَّل الحكمة في اختيار الصديق التماس حبِّه لله بالقول والفعل معًا فهو الضمان الكبير لاستمرار وفائه ودوام مودته.
كيفية اكتساب أصدقاء جدد
ليس أمر الصداقة أمرًا متحصلًا لجميع الناس، فإنّ منهم مَن لا يُحسن المبادرة ولا يعرف إلى مفاتيح القلوب سبيلًا، فتلك مهارات لم يعطها الله لكل الناس، أو ربما أعطاها وأجزل إلا أن من الناس من لا يحسن استعمال ما وهب، فمهما ضاقت معارف الإنسان لا بد هو من الناس موصول، وحتى لو امتنعت عليه فرص المخالطة فليس بعاجز عن خلق مساحاته الخاصة للحب والصحبة والمودة والإخاء، وهي أمور لا بد حاصلة بلين القلب وسعة الصدر والكلمة الطيبة والوجه البشوش الباسم واليد الحانية الدافئة، فإنها جميعًا مفاتيح القلوب بيد صاحبها وسواها مغالق لا تصلح لبناء جسور الصداقة.
إنّ المبادرة هي أول مفاتيح الصداقة ممّا يكون بالقول الحسن أو المعونة أو المشورة الحكيمة وغير ذلك مما يزرع البشر والسرور في نفوس الناس، فأبواب القلوب سهلة الانفراج أول الأمر، والإنسان يأنس إلى الكلمة الجميلة والطرفة الحسنة والإطراء اللطيف، فمتى أردت صداقة أحد من الناس فعليك بهذه الأشياء لتبدأ بها المبادرة وتفتح باب قلبك للناس، وربما عسر على الإنسان إيجاد الصاحب الحسن في حيه أو منطقته، فإنّ الإنسان يأنس بمن يشبهه ولا تميل الروح إلا لمن يوائمها، فلا بأس في أن يسعى الإنسان إلى فتح فضاءات جديدة تفتح له أبوابًا جديدة للصداقة في الأندية الرياضية والمعاهد العلمية والمحافل الثقافية وغير ذلك من أماكن تتيح مجالات كثيرة للتعارف.
إنّ روح المبادرة لا تنفع دون وجود أجواء مواتية لإقامة صروح الود، كما لا تنفع المبادرة أيضًا ما لم يتحلّ الإنسان بالمرونة لتقبل الاختلافات الكائنة بينه وبين الناس، فليست الناس نسخًا مأخوذة عنا، ولا ينبغي لهم أن يكونوا هكذا، فمن حكمة الله تعالى أن خلق التنوع بين الناس وجعلهم على تمايز وتفاوت فيما بينهم ممّا يشكل فرادة وتميزًا في العلاقات تبعدها عن الرتابة والسأم الناجمين من التشابه، كما أنّ التمايز يجعل العلاقات في حالة تكامل لا تتحصل بالتشابه والتناسخ، فمن أراد أن يصنع صداقة ناجحة ويبني مودة راسخة فعليه بتقبل الآخر واستيعاب اختلافه عنه، ومحبة الناس على اختلاف أجناسهم وألوانهم وثقافاتهم وأفكارهم ما لم يؤذه هذا الاختلاف ولم يمسس بكيانه.
إذًا، ليست الصداقة أمرًا سهلًا، ولا يعني ذلك أنّها مسألة معقّدة، إنما هي علاقات خاصة فيها بهاء وجمال لا يحدث دون مبادرة ولا يستمر إلا بقلب وعقل كبيرين لإنسان فطين قادر على احتواء الناس والتّجاوز عنهم، وقويّ إلى الحد الذي يحفظ به نفسه من الذوبان في جو الجماعة، فليست جميع الصداقات نافعة وليس جميع الأصدقاء صالحين وإن أحبّونا، الأمر الذي يتطلب الحذر والحيطة في التعامل مع هذا النوع من العلاقات، وقد قال أحدهم في ذلك:[٦]
ومنَ العداوةِ ما ينالُك نفعُه
- ومنَ الصَّداقةِ ما يضرُّ ويؤلمُ
فبقدر ما في الصداقة من قداسة بقدر ما يمكن أن تحمل لنا من خراب، فتخيّر يا صديقي وافتح قلبك وعينيك وعقلك.
لقراءة المزيد من الموضوعات، ننصحك بالاطّلاع على هذا المقال: تعبير عن الصديق المفضل في المدرسة.
المراجع
- ↑ "شعر بشار بن برد إذا كنت في كل الذنوب معاتبا"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 27/01/2021م. بتصرّف.
- ↑ سورة آل عمران، آية:104
- ↑ سورة الزخرف، آية:67
- ↑ رواه ابن حبان، في صحيح ابن حبان، عن عبد الله بن عمرو، الصفحة أو الرقم: 518، صحيح.
- ↑ رواه الألباني، في صحيح الترغيب، عن أبو الدرداء، الصفحة أو الرقم: 316، صحيح.
- ↑ أحمد مختار عمر، معجم اللغة العربية المعاصرة، صفحة 283. بتصرّف.