التعاون
التعاضد ومد يد العون للآخرين، هو ما يحقق المنفعة العامة التي تعود على الجميع، وبهذا المفهوم البسيط يُعرّف التعاون. فهو -إضافة إلى تحقيق المنفعة- يشمل المساواة بين جميع الأفراد في الحقوق والواجبات، ويحقق العدالة الاجتماعية اللازمة لبناء المجتمعات، وتطورها، وبذلك يتساعد كل الأفراد مع بعضهم البعض، ويقدم كل واحد منهم إمكاناته المتاحة، لتحقيق المنفعة الجماعية.
ولما كان للتعاون كل هذه الميزات، وكان له القدرة على تحقيق المنفعة العامة، فلا بد أن يكون له أنواع، وصور متتعددة، ومما لا شك فيه أنه يحظى بأهمية كبيرة، ومكانة عالية في المجتمعات جميعها دون استثناء، ومع أنه يخدم المجتمعات، إلا أنه يعود بخير على كل فرد متعاون، ويملأ قلبه بالحب والراحة والرضا، وثم يأتي يوم ويعود له هذا الخير الذي فعله بطريقة أخرى وفي الوقت المناسب.
أنواع التعاون
إن التعاون بين الأفراد يجعلهم متماسكين كما هي أصابع اليد، إذا اشتكى واحد من هذه الأصابع من ألم ما، تكاتفت باقي الأصابع لمداواته وتخفيف ألمه، وكذلك التعاون والمساعدة بين الأفراد، يجعل الجميع يظهر كالجسد الواحد، يقف صامدًا متغلبًا على كل الصعوبات والتحديات. فلم يكن هباءً ما قاله بيرتراند روسيل: "الأمر الوحيد الذي سيحرر البشرية هو التعاون"
فالتعاون يعني الحرية، والتعاون هو سبيل صحيح مستقيم قصير المسافة ونتائجه وأرباحه طويلة الأمد، بالتعاون تُنهى الأعمال أسرع، وبجودة أسرع، وبكفاءة أعلى، وبهمة أقوى، فإذا ضعف فرد قوّاه نشاطُ صديقه، وإذا توانى آخر شجّعه إصرارُ من بجانبه، فيبتعد الجميع عن التذلل للغير، ويُلغى الاستعباد والاستغلال، وتبقى الحرية والقوة.
وقد ورد في القرآن الكريم: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[١] ومن خلال هذه الآية الكريمة يتبين أن التعاون يمكن أن يسير في أحد الطريقين، إما تعاون على البر والتقوى والأعمال الجيدة التي تعود بالخير على الجميع، وإما تعاون في الأعمال المؤذية، والتي تسبب الحقد والكراهية ودمار المجتمعات، وتفرق أفرادها ،وتشتت شملها.
فالتعاون على الخير والأعمال الصالحة هو جوهر حقيقي يكمن داخل قلب كل إنسان، ولا يمكن لفطرة سليمة إلا أن تقوم به، إلا أن الحياة وملاهيها ومغرياتها قادرةٌ على تغيير النفوس البشرية، والعبث بقيمها وأصولها، ولذلك، لا بد أن يتخير الإنسان أقرانه، الذين يساعدونه في الحفاظ على فطرته وقيمه ومبادئه، وهذا أيضًا نوع من التعاون.
أما التعاون في الأمور المؤذية والمخالفة للدين الإسلامي وتعاليمه والتي تتجلى في: أكل أموال المظلومين، وإلحاق الضرر بالضعفاء، وعدم الورع من كسب مال بغير وجه حق، ومدح من لا يستحق المدح، وإهمال الواجبات في العمل، وعدم رد الأموال إلى أصحابها، وإيذاء الصغار وكبار السن من المستضعفين، فهذه وجوه لا بد أنها ستهوي بأصحابها وبالمجتمعات في قعر الهاوية.
وبذلك يتبين أن التعاون له سبيلان، وعلى المرء أن يختار الطريق القويم، ولا بد أن طريق الخير هو الذي ستميل له النفس، ويحبه العقل، وتُجذب له الجوارح، وتحت اسم التعاون على البر والتقوى يمكن ذكر صور للتعاون لا يمكن عدّها ولا إحصائها، ولا يكفي مداد الأرض قاطبة لكتابتها، ولكن يمكن عرض أبرزها وأكثرها يسرًتا وسهولة على كل إنسان.
صور التعاون
قمة السعادة والراحة والطمأنينة يشعر بعا المرء عندما يشارك أقرانه في إنجاز عمل مهم، أي عندما يتحقق التعاون، ولذلك قال النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- عن التعاون: "المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كالْبُنْيانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا ثُمَّ شَبَّكَ بيْنَ أصابِعِهِ"[٢]، فهذا يدل على مدى القوة والمتانة التي يكتسبها الأفراد باجتماعهم وتعاونهم، فالمرء يقوى بأقرانه، وهو قوي بغيره ضعيف بنفسه.
ولأن الإسلام هو دين القوة والشجاعة، فإن في شعائره وتشريعاته كثيرًا من صور التعاون، التي تجعل من أتباع هذا الدين أقوياء وأعزاء، فصلاة الجماعة، وشعائر الحج من صور التعاون، إضافة إلى صلوات وقت الشدائد مثل الاستسقاء والخسوف والكسوف، فهي كلها تحث على التعاون في الشدائد، وكذلك صلوات الأعياد فيها تعاون ومشاركة في الأفراح.
وما في تشريعات الدين من الزكاة والصدقات تعاون بين طبقات المجتمع المتعددة، ومحاولة تحقيق المساواة بين الجميع، ومن صور التعاون: الرحمة للأطفال، واحترام كبار السن، وإعطاء العمال حقوقهم. فليس التعاون فقط المشاركة في العمل، إنما يكون من خلال بث روح المساواة، ونشر المحبة والسلام والطمأنينة في كل مكان، فهو تعاون من كل الأفراد ولكل الأفراد.
ويمكن للتعاون أن يكون من خلال دفع الأذى عن مظلوم، وإرجاع الحقوق لأصحابها، وقول كلمة الحق وعدم الخوف من الجهر بها، وتقديم المساعدة لمن يحتاجها، وإطعام الطعام، والعطف على اليتيم والمسكين، والاكتفاء بالكسب الحلال، وإتقان العمل، والتحلي بروح الفريق في كل عمل ينجزه المرء، وهذه الأمور هي التي ترقى بالأفراد، ومن ثم بالمجتمعات.
وقد ضرب الله للناس أمثالًا كثيرة في الحياة عن التعاون، فكيف للإنسان الذي يرى خلية النحل، وكيف يتعاون كل أفرادها بتنظيم معقد ومنظم أبعد تنظيم، ألا يكون متعاونًا مع أقرانه، وكيف لمن يراقب أسراب الطيور في السماء وهي ترفرف محلقة جماعات جماعات بحركة منظمة، ومسار محدد ألا يدرك أهمية التعاون وعظمته، وما فيه من خير يعود على المجتمعات.
وكذلك عندما تتعانق حبات المطر مع البذور في جوف الأرض لتنتج ثمارًا طازجة يأكلها الإنسان، ويعيش من خيراتها الفلاح فهذا يمكن النظر إليه إلى أنه تعاون ما بين جميع عناصر هذه الحياة ومخلوقاتها، وهو في جزء منه إرادي وفي جزء منه مسيّر بأوامر إلهية، فكل هذه الصور والأمثلة التي تتجلى أمام الإنسان تجعل من التعاون أفضل وسيلة للعيش المتوازن السليم.
لما قال ألبرت شفايتزر: "غاية الحياة الإنسانية خدمة الآخرين والتعاطف معهم والرغبة في مساعدتهم"، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-21. فإنه ذكر صورًا للتعاون تلخص غاية الحياة الإنسانية، وبذلك يؤكد أن الإنسان الذي لا يعيش وفق هذه المبادئ فحياته بلا غاية ولا هدف، وبالتالي، لا قيمة لهذه الحياة، وقد وصل الدين الإسلامي إلى أبسط تفاصيل الحياة التي يمكن أن تُعد أيضًا من صور التعاون، ألا وهي اعتبار التبسم في وجه الآخرين صدقة، ولا يمكن إنكار أهمية هذه الابتسامة بالنسبة للآخرين.
فهذه الابتسامة البسيطة التي لا تكلف المرء أكثر من تحريك بعض عضلات وجهه، قد تسعد يتميًا، وتطفئ غضبًا، وتواسي مقهورًا، وتنصر مظلومًا، وتردع ظالمًا، وهي فقط: ابتسامة. أما عن علاقة هذه الابتسامة بالتعاون وصوره فهي شديدة الارتباط به، فالابتسامة يعين فيها المرءُ الإنسانَ الغاضب على التخلص من غضبه، والمقهور على نسيان همه، والحزين على الشعورة بالراحة والسعادة.
ومثل الابتسامة أيضًا، الكلمة الطيبة، وهي التي ذُكرت في القرآن الكريم أنها تشبه الشجرة الطيبة، التي تكون جذورها ثابتة متأصلة في الأرض، أما فروعها وأغصانها فترتفع إلى أعالي السموات، وهذا يدل على عظيم أثر الكلمة الطيبة، ومدى إثمارها في قلوب الآخرين، فكيف لا يُنظر إلى هذه الكلمة الطيبة على أنها صورة من أبهى صور التعاون.
فبالكلمة الطيبة يمكن أن يكسب الإنسان كل من حوله، ويحل أكبر المشاكل، ويجبر القلوب المكسورة، ويضمد الندوب التي تركتها الحياة في قلوب البشر، وهي كلمة طيبة صادقة خارجة من القلب لتدخل إلى القلب، لا مغالاة فيها ولا محاباة، إنما شعارها الصدق، وعنوانها البراءة، وغايتها نشر السعادة، وإبعاد الكآبة، وفي لبّها تعاون ومساندة ومآزرة.
أهمية التعاون
تلخيصًا لما سبق، يمكن القول إن التعاون بكل أنواعه، وبمختلف صوره وأشكاله، هو دعامة أساسية للحياة الناجحة، والأعمال المثمرة، وليست أعمالًا مثمرة في الدنيا فقط، إنما مثمرة في الدنيا والآخرة، فبالتعاون تُلغى كل أشكال الفريدة والأنانية في المجتمعات، وبالتعاون يُمحى من قاموس المجتمعات: التعصب والظلم وعدم الثقة والتكبر والاستعلاء والغرور، وتنتهي مظاهر السخرية والاستهزاء.
بالتعاون تصير المجتمعات أتقى، والقلوب أنقى، والعقول أرقى، يصير تفكير المرء وهمه ليس بنفسه بل بغيره ومجتمعه، فينبذ الذاتية، ويتخلى عن الشخصية، ويبتعد عن العنصرية، فما بال مجتمعات أفرادها مبعثرون كرماد سجائر عصفت به ريح في ليلة قمراء، هل لها من اجتماع، هل لهذا الرماد من التقاء، تفرّق بنفحة هواء، وكذلك التّخاصم والتنافر عندما يدخل بين أفراد المجتمع.
فطوبى لمن عاش حياته وهو يسعى لنشر السعادة والحب والخير في كل مكان، وهنيئًا لأولئك الذين لا يتوسدون فراشهم إلا عندما يطمئن قلبهم على أصدقائهم وجيرانهم وأهلهم وأقربائهم، فالتعاون هو العطاء، ولكن ليس مجرد عطاء، هو عطاء دون انتظار الرد، دون انتظار المقابل؛ ببساطة: عطاء وليس مقايضة، هو أن يعطي الإنسان لأنه خُلق لهذا العمل.