تعاقب الفصول الأربعة
السرّ الأعظم في هذا الكون الكبير، وما اعتاد الإنسان على رؤيته حتّى ما عاد يتفكّر فيه، وما جهلَه قديمًا حتى استطاع العلم في تطوُّره أن يشكف سرّ ذلك وكنهه، تَعاقُب الفصول الأربعة وهو ما درسه العلماء واستفاضوا في شرحه فلكيًّا وجغرافيًّا وغير ذلك.
كلُّ الفصولِ جَميلة
- لِكلِّ فَصلٍ فضيلة
حَمْدًا لِرَبِّي وشكرًا
- على الـعطايا الجليلة
سُبْـحانه وتعالى
- أهْدى لِكلٍّ أصوله
ذات يوم جلست أسرة مازن لتستمع منه إلى ما قد أخذه اليوم في درس الجغرافيا، فقال لوالده: أبي استطعت اليوم تعلُّم شيء مهمّ في مدرستي، التفتَ الأب إلى مازن وقال له: تُرى ما ذلك الشيء الذي تعلّمته يا مازن؟ قال له ابنه: اليوم أخذت درسًا عن تعاقُب فصول السنة الأربعة، أبدى الوالد إعجابًا بكلام ابنه وقال له: حدّثني ماذا قالت لكم المعلمة عن ذلك يا ولدي؟
أجاب مازن: لقد قالت المُعلّمة إنّ سبب تعاقُب الفصول هو دوران الأرض حول الشمس مرّة كلّ عام، ونتيجة لذلك الدوران يأتي الصيف والربيع والخريف والشتاء، فرحَ الأب بتعلُّم ابنه مازن لمعلومةٍ علميةٍ جديدةٍ، وأثنى عليه ثم قال له: بُنيّ ألا ترى أنَّ شيئًا مُشتركًا ما بين حياتنا اليوميّة وتعاقب الفصول الأربعة؟، رفع مازن رأسه إلى أبيه بعد أن كان يُحاول تركيب اللعبة وإصلاحها، وقال: كيف يا أبي؟
قال له الأب: في فصل الصيف، تُقبل الحياة إلى الدّنيا فتكون إنعاشًا للأرض بعد أن أقحلت في فصل الشتاء، وذلك هو أوّل حياة الإنسان في هذه الدنيا، فيكون طفلًا رضيعًا يرى الشمس حديثًا وينبهر بكلّ ما فيها، والأرض مُخضرّة بين يديه.
ومن ثمّ يأتي الربيع وهو فصل الورود والفراشات والرياحين والأزهار، وفيه تزداد الأرض جمالًا وتكتسي بثوبها المزهر، وهكذا هو ازدهار الإنسان في شبابه وهو فصل الجمال في حياة الإنسان، إذ تشتدّ قوّته ويصلب عوده ويعمر أرضه وبيته ويستثمر أيّامه بكلّ خير وفائدة.
أمّا فيفصل الخريف، فتبدأ الأوراق بالتّساقط كما تساقطت أعمار ابن آدم، ويُقبل عليه خريف عمره بعد أن كان ربيعًا مُزهرًا، فالقوّة لم تعد نفسها، والأعضاء خارت قواها، والنّاس لم يعد إقبالها على الحياة كما كان، يُطلق على الخريف فصل الحزن ففيه تقترب الأرض من الشتاء كما يقترب عمر الإنسان من شتائه، وشتاء الإنسان هو شيخوخته وضعفه، ثم يأتي أخيرًا فصل الثلوج، وهو الذي تقلّ فيه أسباب الحياة ويُصبح الطعام أقلّ والحصول عليه يحتاج إلى جهد أكبر، الشتاء هو فصل السكون يا ولدي.
عندما يحين شتاء الإنسان يكتسي بالبياض كما الأرض تمامًا، ويُصبح هزيلًا ضعيفًا ساكنًا لا يقوى على الحراك، ولكن مع الأسف فإنّ صيفه لن يعود وهو ليس كالأرض لتتعاقب عليه الفصول، تأمَّلَ مازن كلام والده دون أن يُقاطِعه، رُبّما فهم منه شيئًا وربّما لم يفهم على الإطلاق، لكن ستتعاقب عليه الفصول فيما بعد؛ ليُعاين حقيقةً ما أسْهَبَ والده في الحديث عنه.
مظاهر الفصول الأربعة
الطبيعة هي الحضن الدافئ لكلّ من خلق الله، يأوي أيّ مخلوق إلى البحر أو الشّجر وهو ما كان عليه الإنسان القديم، إذًا فالطبيعة هي الأمّ الأولى لكلّ من خلق الله.
طيري أماني النفوس و غرّدي
- فلقد دعاك الروض خير دعائه
هذي عيون للطّبيعة قد رأت
- في الزّهر من أكمامه و خبائه
في أحد الأيام استأذن سامي والديه في الذهاب في رحلة إلى الغابة مع الأصدقاء، ابتعد سامي عن أصدقائه وسار في الغابة وحيدًا، وفجأة سمع همهمة بعض النَّاس من بعيد فخاف أن يكونوا لصوصًا، فاقترب منهم ووجد ثلاثة رجال وامرأة، ولكنّ لباسهم غريب جدًا، المرأة كانت ترتدي ثوبًا أخضر جميلًا تقف على آخره بضعة عصافير، وفي يدها عصا على رأسها بلورة تُشبه الشمس.
أمَّا الرجل الكهل فكانت تعتليه الثلوج ويتّكئ على عكّاز يعينه على حركته، وأمّا مَنْ يُشرف على إشعال النار كان شابًّا متلألئًا بالألوان المختلفة والمُتنوعة، فهو يلبس قُبّعة بلون أخضر وقفّازات من اللّون الزهريّ، ويقفز على الأرض بدل أن يمشي عليها لشدّة نشاطه وحيويّته، أمَّا الرجل الآخر فكانت ألوان ثيابه باهتة ووجهه أقرب إلى الشحوب والحزن.
بدأ الحديث بينهم فقالت المرأة: أنا أفضل الفصول بينكم ففيّ تتفجّر الأنهار ويُزقزق العصفور طربًا، ويحصد ناس محاصيلهم وتعمّ الحياة بالخير الوفير، وأشعّة شمسي دافئة للأطفال فيخرجون للّعب في الحدائق، أنا الفصل المحبوب بين الناس، ردَّ عليها الربيع: يا لكِ من امرأة، لأُذكّرك من أكون!، أنا فصل الربيع تزهر الورود فيَّ وتتعطّر الأرض، الفراشات لا تعرف فصلًا غيري، والعصافير تزداد نشاطًا على نشاطها وأشعة الشمس تخف فيَّ فلا تكون حارقة كما تكون فيك.
قاطعهم الخريف فقال: مهلًا ورويدًا وكأنكم نسيتموني، صحيحٌ أنَّ الأوراق تتساقط فيَّ أنا، والجو السائد حال قدومي يميل إلى الحزن والكآبة، ولكنّي أنا الفصل الأفضل بينكم فتتبدّل فيّ أوراق الأشجار لتسقُط تلك التي ما عادت صالحة لأن تعيش، ويبدأ الناس بالتحضير احتفالًا بي، فتفتح المدارس أبوابها وتنتهيان أنتما ليبدأ عهدي أنا، عهد الهدوء والسكون والجمال الصَّامت.
تحرّك الرّجل العجوز عن صخرته فقال: ويلكم أنسيتم وجودي، أنا الشتاء أنا الفصل الأجمل بينكم، فصل البياض والرّاحة، ويُحبّني النّاس فلا يُعانون من ارتفاع الحرارة والحرائق التي قد تنتج عنها، أنا الفصل الذي يستمتع بي الأطفال والكبار ويشعرون بالسّعادة معي، وما هي إلّا لحظات حتّى خرج صوت ضعيف فقال: إنّ الأرض لا تحيا من دونكم يا أصدقائي، أنتم الجمال كلّه ولكلٍّ منكم ميّزة حباها الله له، فأنتم أربعة إخوة تجودون على الأرض بما أكرمكم الله به، وكان ذلك صوت شجرة إلى جانبهم.
التفت مازن في هذه اللّحظة إلى يدٍ قد لامست كتفه فانتبه من غفلته، قال له مُؤيّد: أين تسرح بخيالك يا مازن؟، فانتبه مازن إلى أنّ جميع ما جرى كان من نسج خياله، حين أطال النّظر في ثمرة التفاح المتدلّية من الشجرة، وأنّ الحوار بين الفصول الأربعة لم يكن إلّا من نسْج خياله، ولكن مع ذلك فقد تعلّم درسًا مفاده أنّ الحياة لا يُمكن لها أن تسير بفصلٍ واحد دون آخر، فحمدَ الله على نِعمه.
أنشطة الفصول الأربعة
لقد منَّ الله على عباده بأربعة فصول مُختلفة؛ لأنَّ النفس تملّ من تكرار ما قد عهدته، فما يلبث أن يأتي الصّيف يعقبه الرّبيع ثم يحلّ الخريف فالشتاء، فلو أنَّ الدنيا كلّها شتاء لتجمّدت الأرض وما عادت تصلح للحياة.
فصول العام أربعة
- بها للنّاس مختبر
شتاءٌ باردٌ قارس
- به الأمطار تنهمر
فتملأ فيه آبار
- وفيه يرتوي شجر
ويتبعه الرّبيع الطلـ
- ـق منتزهٌ ومنتشر
فجوٌ دافئٌ تحيا
- به الدنيا وتزدهر
وفي فصل الخريف غمائمٌ
- تبدو وتنتشر
فيا لجمال الفصول التي تتنوّع مظاهرها، و يا لحكمة الله في ترتيب الفصول الأربعة، فالصيف أولًا يعقبه الرّبيع ثم الخريف وأخيرًا الشتاء، وباختلاف الفصول تختلف مظاهر العيش، فالصّيف هو فصل النشاط والحرارة، فتذهب فيه الناس إلى الشواطئ والبُحيرات، ويُمارس فيه الأطفال ألعابهم المختلفة، ومن مظاهر فصل الصيف أنّ المدارس تُغلق فيه أبوابها، لِينعم الأطفال في مختلف الرحلات في تلك الأجواء الجميلة.
أمَّا فصل الربيع فهو فصل الزهور والعَبق الجميل، تنكسر فيه حرارة الشمس قليلًا، ويُصبح الجوّ مناسبًا للذهاب في رحلات إلى الغابات أو الجلوس في المُنتزهات، ويعبق الجو برائحة عطرة ويكون الجو فيه مساءً أقرب إلى البرودة التي تُنعش الروح والفؤاد، وما أجمل زقزقة العصافير في ذلك الفصل، والفراشات المُلوّنة تكاد تكسو الأرض الخضراء فتمتزج الألوان مع بعضها في لوحة فريدة.
أمّا الشتاء فهو فصل السكون، والفصل الذي تفتح فيه المدارس أبوابها ويستعدّ الأطفال للدراسة، وتميل الكثير من العائلات في هذا الفصل إلى الذهاب في رحلات تزلُّج على الثلوج في أعالي الجبال، وتجتمع العائلة حول الموقد مساء فهو فصل الألفة والمحبّة، ويشتري الناس فيه الملابس السميكة التي لا بدَّ لهم من ارتدائها، وكثيرًا ما يُسمّي النّاس ذلك الفصل بفصل النعيم.
أمّا فصل الخريف وهو الذي يستعدّ فيه الناس إلى الدخول في فصل الشتاء، فتبدأ العائلات بادّخار الطعام فيه، وكثيرًا ما يكون الجو في أيامه لطيف، ممّا يُساعد على الذهاب في رحلات استجمام، بعيدًا عن حرارة الصيف وصقيع الشتاء، إنَّ الفصول الأربعة هي كَلَوحة لا تكتمل إلا بألوانها الأربعة؛ الأخضر والأبيض والبنفسجي والأصفر، فيُشكّلون باختلاطهم معًا رمز الجمال لهذا الكون، هذه نعم الله على عباده حتّى يتفكّروا فيها، فيحمدونَه ويشكُرونه، ويسعونَ إلى رضاه.