محتويات
الفلاح صديق الفجر السعيد
إنّ الفلّاح صديقٌ للفجر، يستيقظ قبله وينتظر بزوغه ليستقبله بابتسامة وسعادة تجعل الفجر يتراقص حتى تبدو نواجذه وتشرق شمسه لتُحيي الفلاح النشيط، من هو الفلاح، مَن هو هذا الرجل الجنديّ المجهول الذي يُطعمُ نفسه والآخرين من كدّ يمينه وتعبه؟، هو باختصار حارس الأرض والطبيعة المشرف على سلامتها الحافظ لرونقها بعد الله رب العالمين، وصْف الفلاح هذا لا يُعطيه شيئًا من حقّه الذي يستحق، وإذا أردنا وصفه بصورة أدقّ فيمكن أن نقول هو خازنُ الحياة الذي قد أوكل إليه الله تعالى هذه المهمّة، فيولد وقد قُدِرَ عليه أن يتولّى تلك المهمّة الصعبة.
إن كان هناك من يسأل ماذا يفعل الفلاح في فصل الخريف، فليعلم أنّه في هذا الفصل لديه عملٌ كبير وهو الاعتناء بالتربة وتقليبها جيّدًا وتهويتها ومن ثَمّ رشّ بذور القمح الذي يكون موسم زراعته الأمثل في شهور الخريف التي تلي الصيف مثل شهر تشرين الثاني/نوفمبر، فيخرج الفلّاح قبل الفجر ويجهّز أدواته وعدّته ومن ثمّ يبدأ ببركة الله بممارسة مهامه في الحقل، فيقلّب الأرض بمساعدة حماره الوفيّ، ويبذر البذور ويغطّيها.
يخرج الفلاح إلى الحقل حاملًا معه أدوات الفلاح المعروفة من الفأس والمعول والمجرفة، فيضعها على خصرِه ويحمل بعضها على ظهره، ويكون قد ترك في غرفة حماره الوفيّ في الأرض المحراث وبعض المعدّات الثقيلة التي يصعب عليه حملها كلّ يوم، ويبدأ الفلّاح عمله مع الفجر وينتهي مع الغروب؛ لأنّ الحقل لا يكون فيه كهرباء لتضيء له كلّ الحقل، وكذلك ليرتاح من تعب يوم طويل.
الفلاح يسقي الحقل بماء الحياة
بعد أن يزرع الفلاح بذور القمح فإنّه لا بدّ من أن يسقيه من ماء الحياة الذي يساعده على النموّ ليُطعم النّاس الفقير منهم والغنيّ؛ فالخبز هو قُوت الحياة الذي يأكله البشر بحبّ وسيعدون به، ومن دقيق القمح تصنع الناس أفراحها، ويرسمون البهجة على وجوههم ووجوه الآخرين، فيعتني الفلّاح كثيرًا بسقايته لحقول القمح، فبعد أن يزرع البذور ويُغطّيها بثلاثة أسابيع يسعى إلى الحقل فيسقي القمح ويغمره بالماء وبالمحبّة، ثمّ يتركه ثلاثة أسابيع أخرى ويعود فيسقيه من ماء المحبّة والحياة الدافئ.
هكذا يترك القمح بين الريّة والأخرى بين 3 إلى 4 أسابيع حتّى يمتصّ الماء جيّدًا من التربة ويرتوي على آخره، فالماء كالدّواء كالهواء ككلّ شيء في الحياة إن اجتاز حدوده صار نارًا تؤذي من حولها، وترسل الموت مع الهواء يقتلع الحياة من أفئدة كلّ شيء يراه ولا يراه، وإنّ أعمال الفلاح في الحقل لا تقتصر فقط على السُّقيا والإبذار، وإنّما هي في حراسة بوّابة الحياة -بإذن الله- من أن تَلِجَها ظِلال الموت وأسبابه.
يقف الفلاح وملء يديه الحياة، يحنو على الأرض ويحتضن الغراس الصغيرة بيديه ثمّ يلثمها لتنمو بحبٍّ وعطف، وبعد تلك الشهور من السقاية والرعاية وذلك الحبّ الذي ينثره الفلّاح في الحقل لينمو هو والغراس معًا جنبًا إلى جنب، فإنّ السنابل الصغيرة الخضراء تعلو وتعلو لتغمر الحقل بطولها الفارع وحَبِّها وحُبِّها الذي تنثره بين الفلّاحين والمارّة، وهنا يكون قد آنَ أوان حصاد القمح الذي انتظره الفلّاح والناس كافّة.
لعلّ من واجبنا نحو الفلاح أن نساعده وأن نحترمه وأن نقدّر له تلك الجهود الجبّارة التي يقوم بها بينما نلهو نحن في ثنايا هذه الحياة، فالفلّاح يصنع الفرح ويسقي أسباب الحياة بماء قلبه الذي لا ينضب كالنّبع العظيم الذي تنبثق منه الأنهار معلنةً نهاية رحلة الشقاء للأرض اليابسة العطشى لمعنى الروح المنبعث من تلك القطرات المتناغمة التي قد شكّلت النهر من اجتماعها، ومن واجبنا أيضًا ألّا نعطّل عليه عمله أو أن نخرّبه بقصد أو من غير قصد، وأن ننصاع لما يريد إن كان في ذلك مصلحة الأرض التي منها يأكل الجميع.
حان موسم الحصاد!
إنّه وقت نهاية الربيع واقتراب فصل الصيف، وهذا الوقت عند الفلّاح هو العيد الذي يرجوه كلّ عام لأنّ فيه سيحصُد القمح، فيه سيحصدُ ثمار ذلك التعب الطّويل الذي امتدّ على نصف عام أو أكثر، فيه سيحصدُ ثمار الاستيقاظ المبكّر والسهر الطويل وهو يفكر في سنابل حقله كيف صارت، وذلك الشوق الطويل لمُعانقة هذا اليوم الجميل، يوم لُقيا المنجل بالسنابل، ويوم لُقيا الحاصدين يقفون جنبًا يعملون بتناغم وكأنّهم فرقة أوركسترا يديرها فنّان موهوب.
يجتمع الفلّاحون وأصدقاؤهم وكلّ أهل القرية في حقول القمح ليبدؤوا بالحصاد، ذلك العرس الذي يترقّبه الناس ليجتمعوا ويزيدوا من أواصر المحبّة حين يجتمعون ويدقّ الكتف بالكتف، فينسج الحبّ بينهم كلامًا طويلًا لا ينتهي ما دام النّسيم يُداعب وجه الفجر، فيغدو الحقل خليّة نحل، ويصير الناس عنادل صوتهم يوحي بأنّ الأملَ والناس صديقان لا يفترقان.
يغدو الناس إلى الحقل تُرافقهم زغاريد النساء التي تشيّعهم إلى الحقل وأحاديثهنّ تدور حول الحقول التي قد سقاها أزواجهنّ، وتُشبّه كلّ واحدة منهنّ سنابل القمح بما تراه فتّانًا ويثير عندها مَكامن الجمال، منهنّ واحدة تُشبّه السنبلة بالقائد الأشمّ الذي يرفع رأسه عاليًا بشموخ، إلى أخرى ترى السنبلة كالقرط الذي يُزيّن أذن الصبايا اللّواتي ما زِلنَ في ربيع العمر من الشباب.
موسم الحصاد هذا الموسم كان مختلفًا؛ فصديقنا الفلاح النشيط قد اصطحب معه هذا الموسم ولديه اللّذَين قد كبرا وصارا يُساعدان والدهما في شؤون الزراعة والحصاد والبذار وأسباب المعيشة، لقد كان منظرهم وهم يَغدون إلى الحقل من أجل الحصاد كالسّباع التي تغدو من أجل الصّيد، أو لنقل هم كمجتمع النمل الذي لا يكلّ ولا يملّ حتى ينجز ما عليه، أو هم كالقنادس الذين لا تراهم إلّا مجتمعين من أجل بناء السدود العظيمة.
ماذا يحكي المنجل للسنابل؟
بعد أن تصل وفود الفلاحين وأبنائهم وأصدقائهم وكلّ المشاركين في عرس الحصاد إلى الحقل يتناول كلّ رجل من الحاصدين منجلًا يكون قد سَنّه قبل مدّة حتى يكون حنونًا على السنابل التي يجزّها، ثمّ يتناول كلّ رجل منهم حزمة من السنابل يجتزّها في وقت يقول فيه المنجل للسنبلة لولا المحبّة ما أتيتك حاصدًا، لتردّ عليه بأنّ الحبّ هو أن نسير إلى بعضنا بعضًا بلهفة وإن كانت النهاية أن تجتزّني بأسنانك الحادّة، فللحبّ أشكال كثيرة وإن كان في ظاهرها الموت ولكنّ في الحقيقة إنّ حصادي حياة للقلوب والأبدان.
أشعّة الشّمس في هذا اليوم كانت حانية؛ ربّما كان ذلك من سَعد الحاصدين الذين كانوا يُشاهدون بريقها يلمع على المناجل وهي تجتزّ السنابل الطويلة من أعناقها الذهبيّة لتشكّل بذلك لوحةً لو أراد أعظم الرسّامين أن يرسمها لما استطاع؛ لأنّها لوحة ربّانيّة متناسقة قد شاء لها العليّ القدير أن ترتسم في الحقل في هذا اليوم، تعلو ضحكات الأطفال وهم ينظرون إلى الكبار وهم يحصدون بسرعة، فيظنّون أنّهم يلعبون أو يمارسون نوعًا من الرياضة التي تحتاج إلى حركات سريعة لكي تؤدّى على أكمل وجه.
كان في الحقل صبيحة يوم الحصاد طفلٌ قد جاوز السابعة بقليل اصطحبه والده معه إلى الحقل ليُشاهد النّاس وهم يحصدون القمح؛ لأنّه قد شاهد درس الحصاد في كتاب القراءة، فشاهد بعينه الفرح الذي يرتسم على وجوه الناس وعلى السنابل وعلى تلال القمح المرصوفة بعناية وكأنّ يد مهندس حاذقٍ قد أبدعت هذه التلال المنتظمة من القمح التي يضعها الناس بعد جنيها.
أغاني الفرح قرب البيدر
يرافق موسم الحصاد أغنيات يغنّيها الناس وهم يحصدون ليكسروا جمود الوقت والملل الذي قد يتسرّب إليهم من العمل الرتيب الذي يرافق جني المحصول، فيسمع جار الحقل أغاني الفرح التي يترنّم بها الناس في الحقول وقرب البيادر، فهنا الشباب يغنّون بعض الأهازيج الشعبيّة يردّدونها بانتظام مع الضّحك المرافق لهذه الأهازيج الذي يعطيها لحنًا كأنّه قد وُضعَ يوم أنشد الناس هذي الأغنيات أوّل مرّة.
على بُعد أمتار في القسم الآخر من الحقل نجد النساء قد تعالت منهنّ أصوات الزغاريد فيَعجَبُ من يسمعها من بعيد، ولكنّ الحقيقة أنّ النسوة قد أعددنَ أغنيات من تأليفهنّ على سبيل المزاح، فعندما تنتهي كلّ واحدة من ذلك المقطع الذي تنشده عاجلتها باقي النسوة بأصوات الزغاريد ثمّ تتعالى ضحكاتهنّ، فيُسمَع صوت الرئيس المشرف على الحصاد وهو يوبّخهنّ فيردنّ عليه بزغاريد لتتعالى ضحكات الرئيس والرجال والنساء جميعًا.
حقًّا إنّ موسم الحصاد هو موسم الفرح والأهازيج والأغنيات، هو موسم الألفة والمحبة والودّ، هو موسم البسمات والضحكات والعيون المرهفة، هو موسم رصّ الصفوف والتسامح، هو موسم ازدحام الأحباب على أبواب الحياة ليقطفوا ثمارها وينشروها في الدنيا.