مفهوم الكرامة الإنسانية
مفهوم الكرامة الإنسانية مفهومٌ هامٌ، فكل شخص مسؤول عن صيانة كرامته التي يجب أن يُدافع عنها، ويتعلّق بأحد أهم حقوق الإنسان، فالكرامة صفة ملازمة للإنسان وقد كرّمه الله تعالى وجعله أرقى المخلوقات وأكثرها سموًا، بدءًا من خلقه في أحسن تقويم ومرورًا بمنحه العقل الذي يميّزه عن سائر المخلوقات، ويقول تعالى في سورة التين: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}[١]، لهذا فالإنسان مكرمٌ من الله تعالى، وصفة الكرامة لا تفارقه أبدًا ويجب الحفاظ عليها في كلّ وقت وفي جميع التصرفات والسلوكيات التي يمرّ بها الإنسان، والإنسان هو المسؤول الأول عنها ويجب ألّا يسمح لأي شيءٍ أن يسيء إلى كرامته الإنسانية أو يعبث بها مهما كانت الأسباب.
أعلى الإسلام مكانة الكرامة الإنسانية وجعلها من الأولويات التي لا تنازل عنها، وألزم الجميع باحترام كرامة بعضهم البعض في جميع التصرفات والتعاملات، وأن يُحافظ كل شخص على المبادئ التي تضمن صيانة الكرامة من أي تعدٍ عليها، خاصة أنّها في كثير من الأوقات شهدت خرقًا واضحًا لكرامة الإنسان وجعلت منه عبدًا مسلوب الإرادة، وليس له أي حولٍ أو قوة، إذ إن الكرامة الإنسانية في ضوء المبادئ الإسلامية تحتّم على أن يكون الحفاظ على هذه الكرامة أمرًا واجبًا، ووأن تكون مبادئ هذه الكرامة هي انطلاقته في جميع تعاملاته، وهي مبادئ عالية وسامية بين جميع الشعوب.
متى تسقط كرامة الإنسان؟ هذا السؤال الذي يُطرح في كلّ يومٍ عندما يُشاهد الناس انتهاكاتٍ كثيرة في حق الإنسان ولا يستطيعون دفع هذه الانتهاكات، فاحترام الكرامة الإنسانية لا شأن له بالعرق أو اللون أو الجنس أو الدين أو المستوى المادي أو العلمي أو الثقافي أو الاجتماعي، بل ينبغي أن يكون احترام كرامة الإنسان نابعًا من كونه إنسان له هيبته التي يجب أن يتم الحفاظ عليها، ففي السابق كان هناك ما يُعرف بالعبيد والجواري، حيث كانت تُسلب حرية الإنسان لمجرّد أن لون بشرته أسود.
منذ مجيء الإسلام أرسى أهم القواعد التي يجب على الجميع احترامها وهي الحفاظ على كرامة الإنسان، وعدم التمييز بين أي عربي أو أعجمي أو أبيض أو أسود، فميزان التفاضل بين البشر يوم القيامة مبنيٌ على أساس العمل والإيمان والتقوى، وهو ميزانٌ عادلٌ يحفظ كرامة الإنسان، خاصة أن الشعوب الإنسانية عانت لفتراتٍ طويلة من امتهان الكرامة الإنسانية الذي يتعرّض لها الكثير من البشر دون أدنى شعور بتأنيب الضمير، ودون أي إحساسٍ بمقدار الأذى النفسي والجسدي الذي يترتب على هذا الفعل.
يتجلّى مفهوم الكرامة الإنسانية في صورة بهية عندما أتى رجلٌ بسيط إلى الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يشتكي ضرب ابن عمرو بن العاص له، فما كان من الخليفة عمر إلّا أن أمر بجلب ابن عمرو بن العاص وطلب من الرجل البسيط أن يضربه وقال له: اضرب ابن الأكرمين، وذهبت هذه القصة على سبيل المثال يرددها الناس إلى اليوم ليعرف الجميع ألّا فضل لأحدٍ على آخر حتى يضربه أو يتعامل معه بغرور أو يتعدى عليه.
مبادئ الكرامة الإنسانية
تقوم الكرامة الإنسانية على العديد من المبادئ التي لا يجوز التنازل عنها أبدًا، خاصة أنّ هذه المبادئ مستمدة من وجود الإنسان والحفاظ عليه وعلى قيمته كإنسان له كيانه واحترامه ووجوده الذي يجب أن يكون وجودًا عظيمًا ليس فيه أي تعدٍ على الحريات أو استباحة للكرامة، وأهم مبدأ تقوم عليه الكرامة الإنسانية هو مبدأ الحقوق التي لا يجوز التعدي عليها أبدًا، كالحق في الحياة وألّا يتم سلب أي إنسان حياته ظلمًا وعدوانًا، أو ظلمه بأي شكلٍ من الأشكال.
من مبادئ الكرامة الإنسانية الحق في المساواة، وهو حق ثابت لا يجوز المساس به، فجميع البشر من المفترض أن يكونوا مُتساوين بالحقوق والواجبات، ولا يجوز تكليف أشخاص بواجبات دونًا عن غيرهم، أو التعدّي على حقوقه مهما كانت، فللإنسان الحق في التعليم والحق في تقرير المصير والحق في الرعاية الصحية والحق في الحرية الدينية وحرية العبادة، والحق في التعبير دون التعدي على الآخرين، وغير ذلك من الحقوق لأنّ الحق في الكرامة الإنسانية لا بديل له.
ضمن الإسلام جميع مبادئ الكرامة الإنسانية، وجعل جميع هذه المبادئ عامة وشاملة وخاصة، لا تخصّ المسلمين وحدهم، فالتكريم لبني آدم مهما كان الاختلاف بينهم، فكل إنسان يولد حرًا مكرمًا له أن يقرر مصيره كما يشاء، ومن الدين الإسلامي استمدّت العديد من المنظمات تشريعات ومبادئ الكرامة الإسلامية ووضعتها في دساتير ألزمت بها الدول وطالبت المنظمات الحقوقية بها حتى يتم تعميمها والانتباه إليها، وعدم السماح بأي حالٍ من الأحوال تجاوز هذه المبادئ أو التغاضي عنها، وفي هذا يقول تعالى في سورة الإسراء: {وَلَقَد كَرَّمنا بَني آدَمَ وَحَمَلناهُم فِي البَرِّ وَالبَحرِ وَرَزَقناهُم مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلناهُم عَلى كَثيرٍ مِمَّن خَلَقنا تَفضيلًا}.[٢]
وصف التكريم في القرآن الكريم بأنه لجميع بني آدم وليس مقتصرًا على المؤمنين فقط، وهذا دليلٌ على العدالة الإلهية التي أرست حقوق البشر جميعًا من مبدأ العدل الذي يضمن الحفاظ على كرامة الإنسان بوصفها شيئًا ثمينًا له قيمة لا يجوز لأيّ أحد أن يخرقها أو يتطاول عليها أو يقلل منها، والالتزام بهذه المبدأ يعني الإقرار بتنفيذ ما أمر الله تعالى به، وجميع الجهات والمنظمات التي تُعنى بحقوق الإنسان ما هي إلا جهات تركّز على مبادئ جاء بها الإسلام وأكّد عليها، كما أكّد عليها الرسول -عليه الصلاة والسلام-.
يوجد العديد من صور الحفاظ على مبادئ الكرامة الإنسانية التي جاءت في عهد المسلمين تحديدًا، ومنها أنّ الإسلام أكّد على حرية الناس مهما اختلف لونهم أو عرقهم، ونهى عن التمييز بين الذكر والأنثى وأعطى كل أحد حقوقًا وواجبات مسؤول عنها، وحرّم وأد البنات الذي كان فيه تعدٍّ صارخ على حياة الأنثى وكرامتها الإنسانية، كما أن النبي -عليه السلام- أكّد على هذه المبادئ عندما نهى عن الكثير من الأفعال التي تُهين كرامة الإنسان كالضرب على الوجه.
المحافظة على الكرامة الإنسانية
المحافظة على الكرامة الإنسانية واجبٌ حتمي لا مفرّ منه ولا يجوز لأي جهة التخلّي عنه أبدًا، لأنّ هذا من واجب الجميع، وتبدأ المحافظ على مبادئ الكرامة الإنسانية من الإنسان نفسه الذي يجب عليه أن يترفع عن كلّ ما يؤذيه في كرامته الإنسانية، وأن يتجنب وضع نفسه في مواضع تُسبّب له الإهانة، وأن يقف في وجه كل من يُحاول أن يقلل من شأنه مهما كان هذا الشخص، ثم يأتي الدور على هيئات ومؤسسات المجتمع المدني التي يجب أن تقف جميعها صفًا واحدًا لإرساء مفاهيم الكرامة الإنسانية ودعوة الجميع للحفاظ عليها وعدم المساس بها.
من واجب المجتمعات أن تُحافظ على كرامة الإنسان وأن تعاقب كل من يعتدي عليها عقابًا صارمًا كي لا تضيع حقوق الناس، وعلى الحكومات أيضًا أن تضيع بنودًا في دساتيرها تُلزم الجميع باحترام مبادئ الكرامة الإنسانية وتحافظ عليها من أن تندثر، خاصة أن الكثير من الأشخاص يحاولوا أن يتجبروا ويفرضوا سيطرتهم على الناس ليهينوا كرامتهم ويسلبونهم حقوقهم التي ضمنتها لهم إنسانيتهم، لهذا يجب تفعيل العقوبات في حق كل من يتعدى على مبدأ من مبادئ الكرامة الإنسانية، مهما كان المبدأ صغيرًا أو بلا أهمية في نظر البعض، فالتعدي على كرامة إنسان واحد فيها إهانة لكرامة البشر جميعهم.
تزداد أهمية المحافظة على الكرامة الإنسانية إذا كان الإنسان لا يستطيع الدفاع عن نفسه، وكان ضعيفًا مسكينًا مسلوب الإرادة وليس معه ما يؤهله للدفاع عن كرامته، وهنا يأتي واجب المنظمات الحقوقية الدولية ومنظمات حقوق الإنسان والحكومات والناس جميعًا أن تتضافر جهودهم لعمل كل ما يمكن عمله لأجل صيانة الكرامة الإنسانية للضعفاء والمساكين، لأنّ مفهوم الكرامة الإنسانية لا يعني بأن يملك الإنسان جاهًا أو مالًا حتى تُصان كرامته، فالإنسان هو الثروة الحقيقة في الحياة، والحفاظ على كرامته الإنسانية يعني ازدهار المجتمع وتقدمه وزيادة المحبة والوئام والتكافل الاجتماعي فيه.
عندما يتم ضمان المحافظة على كرامة الإنسان يسود الأمن والسلام، ويُصبح للحياة معنى أسمى وأجمل، فالإنسان هو الأساس في الأرض، ووجود جميع المخلوقات مرتبطٌ بوجوده، والدول التي تحافظ على كرامة الإنسان هي الدول الراقية المتقدمة التي فهمت معنى الإنسان والإنسانية، والتي ينعم مواطنيها بحقوق أفضل من غيرهم، ففي الوقت الذي قطعت فيه الكثير من الدول أشواطًا في هذا الشأن، لم تزل بعضها ترضخ للمهانة والذل، فالدول التي صانت كرامة الإنسان نفّذت ما أمر الله تعالى به، ولم ترضَ بمساس آدمية الإنسان بالسوء لأنّ الله خلق الناس متساوين وفضّلهم بالعقل الذي يجب استخدامه بالشكل الذي يُحافظ على كرامتهم الإنسانية.