المهن كدٌّ ورزق وبركة
مِن نعم الله تعالى علينا، أنه جعل المهن متعددة ومختلفة، ومنها: ما هو شاقٌّ ومتعب مثل عمل الفلّاح والنّجار، ومنها ما يتطلب مهارة وذوقًا عاليًا مثل مهنة الدّهان والمصمّم الجر افيكي مثلًا، ومنها ما يتطلب علمًا وتدريبًا لمدى طويل ليصبح صاحبها ماهرًا في مهنته مثل مهنة الطبيب، ومهنة المعلم مثلًا. فكلّ المِهَن مهمة وتحقّق مجتمعًا متكاملًا، وفي أبنائه بركة وفائدة لبعضهم بعضًا، ولا غنًى أبدًا عن أي مهنة، فلا يستطيع الطبيب الاستغناء عن الممرض مثلًا، والممرض لا يقل عن الطبيب أهميّة، ولا يستغني المهندس مثلًا عن المعلم لأنه هو الذي علّمه.
المِهن جهدٌ يثمرُ ازدهارًا
المِهن كجذع شجرة لها فروع كثيرة تثمر رزقًا وثمرًا وفيرًا للإنسان، وكما يعتني الفلاح بالشجرة ويسقيها فعلى كل عامل أيضًا أن يعتني بمهنته كثيرًا ويهتم بأدائه، ويسعى إلى تطوير نفسه والاهتمام بمهنته، وكلما أخلص في عمله وأتقن مهنته أثمرت جهوده أكثر، وأحبه الناس وقصدوه دائمًا، وهذا بلا شك يؤدي إلى زيادة رزقه والبركة في عمله. كما أن الإخلاص في العمل يؤدي أيضًا إلى تطور المجتمع وتكافل أفراده وتبادل الثقة بينهم، وانتشار المودة والرحمة بينهم، ألا تسمّى الممرضات بملائكة الرحمة لأهمية دورها في العطف على المريض؟ وهذا لا يقل أهمية عن دور الطبيب، بل يكمّل دوره، ولا يمكن وصف الممرضات بملائكة الرحمة لولا إخلاصهنّ في العمل، وعطفهنّ ورحمتهنّ وشفقتهنّ بالمريض.
وإن اختلاف المهن في المجتمع مهمّ ؛ ليستفيد الناس من بعضهم بعضًا، إذ لا يستطيع شخص أن يستغني عن الآخر مهما كانت مهنته ذات سمعة ومكانة في المجتمع، فلا يوجد فرد يؤدي كل المهن ويخدم نفسه بنفسه، وقد قال الشاعر عبد العزيز عتيق في قصيدته حول الأيدي الماهرة:
فعاش الناس منّا في نعيم
- وكان مَناله قبلاً محالاً
مما يدلّ على أن المهنة الجيدة والمفيدة مهما كانت بسيطة فإنها تؤدي إلى تحقيق السعادة والنعيم لأفراد المجتمع كافة. فليس هناك مهنة أهمّ من مهنة أخرى، فالمعلّم مثلًا لا يستغني عن الطبيب، ولا عن النجّار الذي يصنع له أثاث بيته، وكذلك المهندس لا يستغني عن عامل البناء لأنه من سيبني له العمارة التي صمّمها المهندس، والمجتمع كلّه مهما تقدم وتطور فإنه لا يستغني أيضًا عن عمال النظافة الذين هم أساس للصورة البيئية النظيفة والصحية.
والمهنة الجيدة أو العمل الجاد لا يتحققان إلا بالإرادة، وفي ذلك يقول الشاعر أبو القاسم الشابيّ:
إذا ما طمحتُ إلى غايةٍ
- ركبتُ المنى ونسيت الحذر
فلا مكان للخوف ولا التردد ما دام العمل أو المهنة مخططًا لهما، فبالتصميم والإرادة والتخطيط الجيد يحقق العامل نجاحًا، ويصل إلى أمنياته من نجاح وشهرة، وتصبح مغامرته في بداية مهنته مضمونة إلى حد أكبر. كما أنّ بذل الوسع والاجتهاد في المهنة ضروري لتطوير المهنة وصاحب المهنة، لتواكب مهنته ما في البلاد من تطور واحتياجات باتت أساسية.
وقد حثّ الرسول -عليه الصلاة والسلام- على المهن اليدوية، مثل: الزراعة والنجارة والتجارة وغيرها، لما لها من نفع وفائدة بين أفراد المجتمع، فقال عليه الصلاة والسلام: "ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طيرٌ ولا إنسان إلا كان له به صدقة"[١]، وهذا يدل على عظمة العمل النافع وعلى أهمية مهنة الزراعة، لأنها تحيي الأرض وتجمّلها، وفي ثمرها النفع للعباد والطيور والحيوانات، وكان النبي نوح -عليه السلام- نجارًا، بنى سفينته بيديه، وكان النبي داوود -عليه السلام- يأكل من عمل يديه، وكان الصحابة يكسبون كسبهم ومالهم من عمل التجارة.
إن العمل مهما بدا أمام الناس بسيطًا فهو ليس عيبًا، وأي مهنة، إن كانت حلالًا وصاحبها يسعى بيده في طلبها فهي مهنة نافعة مفيدة، أما طلب المال من الناس فهو أمر مذموم، فقد روى أبو هريرة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده لَأنْ يأخذ أحدكم حبله، فيحتطب على ظهره، خيرٌ له من أن يأتي رجلًا فيسأله، أعطاه أو منعه"[٢].
إنّ مخافة الله تعالى وعدم الغش من أهم صفات صاحب المهن، ألم نسمع كثيرًا بقصة المرأة التي قالت لابنتها اخلطي الماء باللبن، فقالت لها ابنتها: إن كان عمر بن الخطاب لا يرانا، فإنّ ربّ عمر يرانا؟! مما يدلّ على رقابتها لله تعالى في السر والعلن وإخلاصها للعمل، فكم من بيوت هُدِّمت وسقطت ومات ساكنوها لخلل في البناء؟ وكم من مريض مات أو تأذّى نتيجة خطأ طبيب؟ وكم من تاجر أو عامل أو حداد أو نجار أو خياط لم يؤدِّ عمله جيدًا، واهتم أن يكون شكل ما يصممه جيدًا، لكنه يخرب بسرعة أو يهترئ بسرعة؟ أليس في هذا غش وتقصير، وعدم مراقبة الله تعالى؟
إنّ ازدهار البلاد لا يتحقق إلا من خلال تطور أفرادها، وغير خافٍ على كلّ ذي لبّ، أهمية المهن اليدوية وحاجة المجتمع إليها، فكيف للبلد أن يزدهر ويعمر إن لم يكن فيه عمال يبنون بأيديهم المنازل والبنايات، ومهندس يدير العمل ويشرف عليه؟! وقد قال الشاعر عبد العزيز عتيق:
وكنّا في الحياة بناة مجد
- وقضّينا معيشتنا نضالًا
كيف لأرض أن تحيا إن لم يحرثها الفلاح ويزرع البذور والأزهار والأشجار بيديه؟ وعامل يقود الجرافة مثلًا ويتحكم الرافعة؟! مما يدل على أنّ أيّ مهنة تتطور بالعلم، وبذل الجهد، وعدم التكاسل، والإتقان والإخلاص دون غشّ أو خداع، ويتحقق هذا الازدهار بالتعاون بين أصحاب المهن المختلفة، وقد قال الله تعالى: "وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان"[٣].
مهنتي المستقبلية
يقول الشاعر أبو القاسم الشابيّ:
إذا الشعب يومًا أراد الحياة
- فلا بدّ أن يستجيب القدر
ومن لم يعانقه شوقُ الحياةِ
- تبخَّر في جوِّها واندَثَر
لهذا سأحارب الصعاب، وأواجه كل التحديات لأصل إلى المهنة التي أحبها، وسأجتهد لأتقنها، وسأكتب طموحي لأراه دائمًا وأتذكره ولا أنساه، فمن يردْ شيئًا، يصل إليه إن كانت لديه الإرادة والشجاعة، والله سيستجيب لأملي ورغبتي.