لم يكن صلاح يملك إلا أُجرة الحافلة التي استمع من مذياعها عن عدم توفر مصنعٍ للطباشير في بلده، وذلك عبر إحدى البرامج الصباحية، كان الركاب حينها يتزاحمون على ذات المقاعد، ويتأفف بعضهم ضجراً من الحياة، فيما ينشغل آخرون بعد النقود التي سوف يدفعونها للسائق، أما هو الشاب الثلاثيني فقد شرد بتفكيره إلى أبعد من المسافات التي تقطعها الحافلة العمومية المُتهالكة على الخط الصحراوي للمدينة.
توقفت الحافلة بعد ساعة إلا عشر دقائق في مركز المدينة، أو كما يصطلح العامة على تسميته بوسط البلد، بعدما ترجل صلاح من آخر مقعدٍ في الحافلة، توجه إلى عمله، وفي رأسه تساؤلٌ مُلِح عن سبب عدم وجود مصنعٍ للطباشير في بلدته.
جلس صلاح في مكتبه في إحدى المنشآت الصغيرة؛ حيثُ كان يعمل مهندساً كيماوياً، وكان غارقاً في حيرته، ومُنجذباً في الوقت ذاته نحو فكرةٍ لماعةٍ ومبتكرة بأن يسعى هو إلى بناء مصنعٍ للطباشير في وطنه، لكن قلة المال وفقر حاله كانا يمنعانه عن مواصلة التفكير في ذلك المشروع.
بعد انتهاء ساعات العمل أقفل صلاح عائداً إلى قريته النائية في إحدى المُحافظات الكبيرة، لم يرغب في تناول الطعام الذي أعدته زوجته، ولم يكن هناك حينها إلا شوربة من العدس المجروش مع القليل من البصل الأخضر، بالتزامن مع ذلك جاءت ديما ابنته الوحيدة لتطالبه بقليل من المال لتشتري كيساً من حلوى غزل البنات؛ حيث علق صاحب البقالة على واجهة المحل الكثير منها، لكن الأب الشاب لم يكن يملك إلا أُجرة ذهابه إلى العمل ورجوعه منه، ربت على كتف ابنته وهمس لها بكل حنانه: (سأحضر لك دُمية يا ديما عوضاً عن ذلك نهاية الشهر القادم).
دعا صلاح صديقه محمد في المساء، ليتباحث معه في كيفية إنشاء مصنعٍ للطباشير، وكانت المشكلة الكبيرة هي رأس المال، أما عن الخبرة فقرر صلاح اكتسابها مع تجاربه الشخصية بحكم أنه مهندسٌ كيماوي، فبادر صلاح إلى فكرة رهن منزله، ثم سارع صديقه محمد للانضمام إليه ودعمه برهن منزله هو أيضاً، لكن ما سيحصلان عليه جراء الرهن لن يُغطي الكلفة الكبيرة للمشروع، ولكن الحماس كان يشتعل في قلب صلاح، ولا يُريد التوقف عن البحث عن حلول، فأسرع إلى سماعة الهاتف الأرضي وكلم والدته سائلاً إياها عن توفر أي مبلغٍ بحوزتها، فردت بالنفي حتى توقف صلاح يائساً عن الكلام، بعدها بثوانٍ معدودة جاء صوتها بالمبادرة ذاتها، فرهنت منزلها هي أيضاً.
بعدما أنهى الشاب الطموح مكالمته مع أمه، أعاد مع صديقه الحسابات؛ ليجد كليهما من جديد أن المشروع يحتاج إلى رأس مالٍ إضافي، حينها قرر صلاح تأجيل الحديث عن المشروع، ومشاهدة التلفاز برفقة محمد، وما إن شغّله حتى بدأ الإعلان عن توفر قروضٍ مالية من إحدى الجمعيات جلياً على الشاشة؛ فصفق صلاح فرحاً، وقرر في اليوم التالي الانتفاع بقرضٍ من تلك الجمعية، لصالح مشروعه الإبداعي الجديد.
بعد مرور عامين على التجارب الكيماوية، أنشأ صلاح معملاً صغيراً لا يتعدى غرفةً واحدة، وتوصل إلى الخليط الكيماوي والمعايير الكيماوية الدقيقة لصنع الطباشير الصحية، ليشرع بعدها لإنشاء المصنع، وتوظيف بعض العاملين الأكفاء، وفي أول مرةٍ أنتج المعمل كمية قليلة من الطباشير، لكنها مدت السوق المحلي بحاجته، كان صلاح فرحاً بهذه النتيجة؛ حيثُ اشترى من الأرباح منزلاً جديداً، ومركبةً فاخرة، كما أحضر لابنته ديما الكثير من الدُمى، والعديد من أكياس غزل البنات، وتمكن من فك رهن المنازل الثلاثة، لكنه كان متخوفاً من فشل المشروع في أية لحظة.
في إحدى المرات كان يهم صلاح بمغادرة المصنع الصغير، لتبدأ عدسات المصورين والصحفيين فجأة بالتقاط الصور للشاب المُكافح، الذي تمكن من تحقيق فكرته رغم الصعوبات، وبعد أقل من عام تمكن صلاح من توسعة المصنع ليصدر الطباشير الصحية إلى خارج البلاد، ليأتي الخبر اليقين أن مصنعه بات يُشكل ثلثي إنتاج العالم من الطباشير الصحية.