محتويات
فصل الربيع
الربيع هو واحدٌ من فصول السنة التي يُحبّها الصّغار الكبار، ويتغنّى به الأدباء ويفرح بقدومه الأهل والأصدقاء، ففيه تلتقي العوائل ويلقى المُحبّ حبيبه وزقزقة العصافير تنشد أجمل الأشعار فيه، وكما قال الشاعر في فصل الربيع:[١]
برق الرّبيعُ لنا برونق مائِه
- فانظر لروعةِ أرضه وسمائهِ
فالترب بين ممسك ومعنبر
- من نوره بل مائه وروائه
والماء بين مُصندل ومكفر
- من حُسن كدرته ولون صفائه
دائمًا ما يُترجَم الجمال بالكلمات سواء كانت باقات نثرية أم شعرية، والتغنّي بفصل الربيع ليس وليد اليوم أو اللحظة، بل هو تغنٍّ قديمٍٍ قدم الإنسان، فالعصافير ليست هي المرّة الأولى التي تطلق فيها زغاريدها بل في كلّ عام هي تُعيد تلك الزغاريد، فالأرض لا تتوقّف عن الدوران وتَعاقب الفصول ظاهرٌ ظهور الشمس بيِّن كَبيان وضح النهار، ويتمتّع الإنسان في ذلك الفصل بتوازن حياتيٍّ بالإضافة إلى التوازن العاطفي، فهو لا يشعر بكآبة الشتاء ولا بِفوران الصيف.
الربيع: يقظة الأرض بعد غفوتها
تُعاني الأرض في فصل الشتاء من الصّقيع والبرد الذي يعرّي الأشجار من أوراقها ويُكسب الأرض بردًا وزمهريرًا، ثم يحلّ بعد ذلك فصل الخريف الذي تلعب فيه الريح لعبتها فتسقط الأوراق تارّة وتحملها لتهوي بها في مكانٍ آخر تارّة أخرى، وتكون الشمس مُصفرّة حزينة وكأنّها تحكي للأرض حكايتها الحزينة فهي لا تقوى حتى على الشروق والسطوع في فصل الخريف، ومع أنَّ الصيف من الفصول التي يحبّها النَّاس ويلفونها إلا أنَّ شمسه الحارقة قد تمنع الإنسان من مُمارسة كافّة نشاطاته.
أمَّا الربيع وهو سيّد الفصول الذي يتربَّع على عرش الجمال فتزدهر شمسه فهي ساطعة رقيقة جميلة تهوي إليها القلوب والنفوس معًا، فتذهب العوائل إلى المشاتل وإلى المُنتزّهات والمسابح والأسواق، وتتزيّن الأرض بثوبها المُزدهر الجميل، وتبسط الحياة جمالها من الألوان المُختلفة على النَّاس، وقد يتبادر إلى بعض الأذهان لمذا نحب فصل الربيع؟ والجواب باختصارٍ لأنَّ هذا الفصل هو فصل الحياة الذي يتفتح فيه الياسمين ليتراقص مع النرجس فيكتبان معًا قصيدة العبق التي يقرؤها أي مارِّ من تلك الديار.
الأنهار في فصل الربيع لا تمتلئ بالماء فقط، وليس من المُدهش للنّاظر أن يرى الزهور تعتلي المياه وهي تتراقص على أنغام أوركسترا المياه العذبة، والغيوم تتعانق تعانُقًا جميلًا يبعث في الروح نشوة تساعد الرّائي على أن يتنفّس تنفُّس الصّعداء بعد يومٍ مجهدٍ طويل، الرَّبيع هو راحة النّفوس التي يعتليها الشحوب إثر يومٍ عكّرت صفوه الحياة، فتكون الطبيعة ملجأ الإنسان المرهق من العبء اليومي الذي يطوَّق به، وتُطلق الأرض زغاريدها مشتركة في ذلك مع الشمس والقمر والغيوم والسماء والحياة برمّتها، لا جمال يعلو على اليوم الربيعيّ المُبهج الذي تحيا فيه القلوب والأرواح.
هكذا تفترش المساحات بلون العشب
الأرض في فصل الربيع تختلف عن غيرها من الفصول، وقد يتساءل بعض من النّاس ما مظاهر فصل الربيع في بلدي فأقول لهم الرَّبيع عندنا هو عرسٌ شعبيٌّ يحتفل فيه الكبار والصغار، فيخرج النّاس من المساحات المبنيّة إلى المساحات الفارغة حيث البساتين المبهرجة، أمَّا إن أراد الرّائي وصف البساتين فلن يجد أجمل من قصيدة غزلية عفيفةٍ يتذكّر فيها الشاعر حبيبته لتخيَّل إليه من بين الزهور والورود، وكما قال الشاعر في الربيع:
مرحى ومرحى يا ربيع العامِ
- أشرق فدْتك مشارقُ الأيامِ
بعد الشتاء وبعد طولِ عبوسه
- أرِنا بشاشةَ ثغرِكَ البسّامِ
وابعث لنا أرجَ النسيمِ معطرًا
- متخطرًا كخواطر الأحلامِ.
يلجأ النَّاس إلى المساحات الخضراء فيأكلون ويشربون ويقيمون الرحلات على أطراف الأنهار التي تجري بالماء العذب البارد اللطيف، ولا يُخيّل للناظر إلى الطبيعة في ذلك الفصل سوى أنّه يتقلّب في رياض الجنّة فهو يرى الظلال والثمار والغيوم ولطافة الجو أينما التفت، وأمّا عن مُميزات فصل الربيع عن غيره من الفصول فيُمكن اختصار كلّ ذلك أنَّه فصل الأمل والفصل الذي تنتعش فيه الدواخل الإنسانيَّة، وفصل البهجة والزينة والمرح، فلا تخفى مظاهر الجمال في فصل الربيع عن أي أحد، بل وأكثر من ذلك، إذ إنَّ القلوب تلتفت إليه قبل العيون.
فلو تصوّرنا أنَّ الفصول قد تشكلّت على هيئات الإنسان فسيكون الرجل العجوز هو الشتاء، ويأخذ الصيف شكل الشَّاب الأنيق، والخريف سيكون للرجل الأربعينيّ، أمَّا الربيع فسيكون من نصيب الفتاة الساحرة الفاتنة، والتي تأخذ الألباب بجمالها، فإذا ما أدارت على نفسها ولوحت بشعرها أسرت القلوب والأرواح، الربيع هو الملجأ الذي يحتوي الإنسان كأنه الجنين في بطن أمه فالطبيعة الخلابة لا تقل دفئًا عن رحم الأم.
كما قيل عن فصل الربيع: "إنَّ الذي سواك ربّ مبدع يهب الجمال لمن يشاء جمالًا فأنّى وجدت الجمال فاسأل عن مبدعه، وأنّى رأيت الصنعة فاسأل عن صانعها، لا تجعل الجمال يحول بينك وبين من سواه، ولا تشغل نفسك بالرسالة وتغفل عن مرسلها، فالربيع له رسالة يبعث بها عبر نسماته وأزهاره وعبيره".
تنشط السياحة بشكلٍ كبيرٍ في ذلك الفصل، فالدول الأوروبيّة تُعاني من شتاءٍ طويلٍ، ولكن في فصل الربيع تتوقّف مظاهر فصل الشاء ليكون الجوّ الربيعيّ اللطيف هو سيّد الموقف، فيتبادل النَّاس الزيارات ويُترجم ذلك كلّه إلى ألفة وحب مودة، ويُفضّل بعض النَّاس في ذلك الفصل الذهاب إلى أعالي الجبال الشاهقة، ويُمارسون رياضة التسلُّق إذ لا تكون الشمس حارقة، ممّا يُساعد على قلّة الجهد الذي يبذله المُتسلّق، فكثرة التعرُّق تؤدّي إلى إرهاقه وبالتالي إلى خسارة كثير من قوّته.
تنشط في الربيع رحل التخييم سواءٌ كانت رحلة تخييم عائلية أم مدرسية، وتحلو الحياة بما يُرافق ذلك من أنشطة تُؤدّي إلى تنمية العقول والمهارات، وكثيرة هي الثّمار التي تنضج في فصل الربيع ويتمتّع الناس بها مثل الفريز والكرز وحبات الجارنك، إذًا لا يختلف اثنان على أنَّ فصل الربيع هو فصل الألوان والبهجة.
هل للشعراء قولُ آخر
الربيع هو الحياة الأخرى التي ينتظر الإنسان أن يعيشها كل أربعة فصول مرة واحدة، فالنفس تعشق الجمال وغنوان الجمال وأيقونته هو فصل الربيع، وكفاه شرفًا لو أراد النَّاس أن يعرفوا بفصل البيع أو يرمزوا له بشيء فإنهم سيرمزون له بالفراشات الملونة التي ينعكس جمالها على جماله فيصيران منبعًا لذلك الجمال،
وكما قال الشاعر صبري الصبري متغنيًا في وصف جمال فصل الربيع وبهائه:[٢]
فصلُ الربيع به الروضاتُ تزدهرُ
- بعبقه الورد في الساحات ينتشرُ
بحسنه الزهر في الدوحات عطَّرها
- جمالها العذب فيه المرتقى العَطِرُ
ويبسط الفلَّ والياسمينَ يسطرها
- بدائع العبق بالألوان تُسْتَطرُ
قد يتعجّب الإنسان من كثرة الأشعار التي تتغنّى في فصل الربيع ووصف الطبيعة الخلّابة فيه إذ تبرز فتنة الطبيعة في فصل الربيع فتلبس حليها وزينها وتعرض بهرجتها في ذلك الفصل الأخَّاذ، كيفَ لا وهو الفصل الذي تتفجر فيه المواهب عن بكرة أبيها، فلا تعشق الدواة والحبر سوى ما يجعلهما مُرتاحين في يد الكاتب، وأكثر ما يُريح الكاتب هو الجو الجميل والرائحة العطرة وهما نواة فصل الربيع، إنَّ دخول فصل الربيع بعد الشتاء وقبل الصيف هو من الحكمة العظيمة بمكان، فتكون النّفس قد ملّت الأجواء الباردة وتريد أن تغفو بين أحضان الجو المعتدل.
قيل في فصل الربيع: "الربيع عالم ساحر مُشرق، وهو جنّة الدنيا، وهو دائمًا مغمور بوروده، وهو الجنة الضاحكة، وإن الله وهب أرضه زهورًا أكثر من سواها، وملأ سماءه نجومًا أغزر، وبث في بحاره لآلئ أوفر".
إنَّ جمال فصل الربيع لا يقتصر على جمالٍ خارجيٍّ فقط، بل يعلو عليه ذلك الجمال الداخليّ الذي ينعكس على الإنسان فيزيده جمالًا ولطافة، ولا يستطيع أيّ أحد أن يُنكر تأثير الفصول على بني البشر من الناحية النفسية، ولو حاول المرء تكذيب جميع الدراسات العلميّة التي أثبتت ذلك فإنَّه لن يستطيع تكذيب تجربته العمليّة، فالربيع خالٍ من المشكلات التي تخلفها عادة الفصول ويتأثّر بها الإنسان، وعلى سبيل المثال فإنَّ فصل الربيع لا يحتاج إلى مدفأة وتأمين وقود لها، ولو لم يستطع أي أحد تأمين ذلك لشظف العيش ويُعاني من البرد والصقيع.
قال الشاعر في فصل الربيع:
ورد الربيع، فمرحبًا بوروده
- وبنور بهجتهِ ونورِ وروده
وبحسن منظَرِهِ وطيبِ نَسيمهِ
- وأنيقِ ملبسهِ ووشي برودهِ
فصلٌ إذا افتخرَ الزمانُ فإنهُ
- إنسانُ مُقلتهِ وبيتُ قَصيدهِ
ممّا يزيد الربيع جماله أنه يُمكن للإنسان أن يستغني عن المظاهر التي تُعين على التبريد في فصل الصيف، فهو فصل معتدل، ومع ذلك وذاك لا يستطيع الإنسان أن يستغني عن أيّ فصل من الفصول، فهم من النّعم التي حباها الله لعباده حتى يتفكّروا في خلقه فيحمدوه ويشكروه.
المراجع
- ↑ "برق الربيع لنا برونق مائه"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 2020-11-30. بتصرّف.
- ↑ مجموعة من المؤلفين، أرشيف منتدى الفصيح 3. بتصرّف.