مفهوم القناعة
إنّ القناعة هي الرّضا بما أعطى الله، وهي عند السيوطي: "الرضا بما دون الكفاية، وترك التشوُّف إلى المفقود، والإستغناء بالموجود"[١]، فما الفرق بين مفهوم القناعة الرضا؟ ليس بين الرضا والقناعة في المفهوم العام فرق كبير، فيُمكن استخدام أي مصطلح منهما بدلًا من الآخر. يُعدّ الرضا أعمّ وأشمل من القناعة، فالرضا حال من أحوال القلب يتعامل فيه الإنسان مع قضاء الله وقَدَرِهِ بالتّسليم المُطلق، أما القناعة فأغلبها في الرزق المادّي، فالمسلم يَقنَعُ بما قسمهُ الله له من رزق سواء كان قليلًا أم كثيرًا.
هناك فرق آخر بين الرضا والقناعة أنّ الرضا يسبق الحدث ويواكبه ويلحَقَهُ، فالرضا حال دائم من أحوال القلب ليس متعلقًا بزيادة أو نقصان، ولكنّ القناعة تكون بعد وقوع الرزق فالمسلم بعد أن يُقَدَّر له الرّزق يقنع به، ولكن الرضا قبل الرزق وأثناءه وبعده.[٢]
لقد كان رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلّم- مثالًا يحتذى به وقدوة في فضيلة القناعة، فيرضى بما عنده ولا يطمع بما في أيدي الناّس، فقد كان يعمل عند السيدة خديجة ويجني المال الوفير دون أن يطمع بمالها، وكانت تعرض عليه الأموال التي يغتنمها المسلمون في المعارك، فلا يأخذ منها شيئًا بل يوزّعها على أصحابه، وكان -عليه الصلاة والسلام- ينام على الحصير حتّى تؤثّر في جنبه، رافضًا مال الدنيا ونعيمها. وتكون القناعة في الإسلام في متاع الدنيا أمّا عن الآخرة والعمل الصالح والخيرات فقد أمر المؤمن بالاستزادة منها والإكثار.
آثار القناعة
تُسهم القناعة في جعل قلب الفرد مطمئنّاً ومؤمنًا بالله، راضيًا بالقضاء والقدر، وتُؤدّي إلى أن يحيا المجتمع حياة هنيّة طيبة، خالية من الكراهية والبُغض والضّغينة، فيرتقى الفرد والمجتمع إلى درجات عليا من التقدّم والنجاح، حيث إنّها تحمي الفرد من الذنوب المهلكة كالغيبة والنميمة والحسد، وتؤدي إلى أن تسود الألفة بين أفراد المجتمع وروح التكافل الإجتماعي، وتمنح الفرد حرّيتهُ وتقيه منالعبودية والمذلّة، بالإضافة إلى أنها تمنحه راحة نفسية وطمأنينة في العيش بسلام.
لا يُمكن أن نغفل أهمية القناعة في حياة الإنسان، فهي تؤدّي إلى الرخاء النفسي والجسدي، والتخلّص من العبودية للمادة، حيث تجعل الإنسان عزيزًا كريمًا مترفعًا عن صغائر الأمور، لذلك فإنّ العبد القانع هو أكثر سعادة واستقرارًا، وهو غنيّ النفس لا يطلب حاجته إلّا من الله عزّ وجل، وقد قيل إنّ السعادة كنز لا يفنى، لأنّها تُحرّر الإنسان من جبروت المادّة وتسلّطها، فالمال يزيد وينقص وربما يذهب كلّه، ولكن تبقى المحاسن والفضائل والقناعة تاجًا على رؤوس أصحابها.
من أهم ميّزات القناعة أنّها تؤدّي إلى تقوية الإيمان بالله وترويض النفس، والرضا بما قسمه الله تعالى في كل حال، والنظر في حال الصالحين وزهدهم وكفافهم وإعراضهم عن الدنيا وملذاتها، بالإضافة إلى تأمّل أحوال من هم أقلّ منّا، والتفكُّر في نعم الله عز وجل، ومعرفة الحكمة من تفاوت الأرزاق بين العباد، فالعلم بأنّ الرزق لا يخضع لمقاييس البشر وإنّما هو مقدّر من عند الله، وعلينا فقط السّعي من أجل الحصول عليه وعدم التراخي والتواكل.
إنّ من أهمّ أسباب عدم رضا الإنسان هو إكثارُه من مُجالسة الأغنياء وأصحاب الثروة والمال، والسعي الدائم للحصول على الزيادة، ثمّ تركه لقراءة القرآن الكريم وتدبّر آياته، وقلّة تذكّر الموت والحياة الآخرة والانغماس في شهوات الدنيا والتوسُّع في المباحات والإكثار منها، إلا أنّ رضا الإنسان وقناعته يؤدّيان إلى امتلاء القلب بالله تعالى والثقة به، من ثُمّ إلى الفلاح والبُشرى في الدنيا والآخرة والوقاية من الذنوب والمعاصي، إذ إنّ العزّ كلّه في القناعة والذلّ في الطمع، وتؤدي القناعة إلى العزوف أيضًا عن الدنيا وملذّاتها والسّعي الدائم إلى إشاعة الألفة والمحبة بين الناس.
أمّا الإسلام فقد حثّ على القناعة، فهو يتمثّل بالكثير من الصّوَر، ومنها حين أُهْدِيَتْ إلى السيدة عائشة -رضي الله عنها- سِلالًا من عنب، فأخذت تتصدّق به على الفقراء والمساكين، وكانت جاريتها قد أخذت سلّة من هذه السلال وأخفتها عنها، وفي المساء أحضرتها، فقالت لها السيدة عائشة ما هذا؟ فأجابت الجارية: ادخرتُه لنأكله، فقالت السيدة عائشة: أما يكفي عنقود أو عنقودان؟
قد كان سلمان الفارسي -رضي الله عنه- واليًا على إحدى المدن، وكان راتبه خمسة آلاف درهم يتصدّق بها جميعًا، وكان يشتري خُوصًا بدرهم، فيصنع به آنية فيبيعها بثلاثة دراهم؛ فيتصدق بدرهم، ويشتري طعامًا لأهله بدرهم، ودرهم يبقيه ليشتري به خوصًا جديدًا.
يُحكى أنّ ثلاثة رجال ساروا في طريق فعثروا على كنز، واتّفقوا على تقسيمه بينهم بالتساوي، وقبل أن يقوموا بذلك أحسّوا بالجوع الشديد، فأرسلوا أحدهم إلى المدينة ليحضر لهم طعامًا وتواصوا بالكتمان، حتّى لا يطمع فيه غيرهم، وفي أثناء ذهاب الرّجل لإحضار الطعام حدّثته نفسه بالتخلُّص من صاحبيه، وينفرد هو بالكنز وحده، فاشترى سمًّا ووضعه في الطعام، وفي الوقت نفسه اتّفق صاحباه على قتله عند عودته ليقتسما الكنز فيما بينهما فقط، ولما عاد الرجل بالطعام المسموم قتله صاحباه، ثم جلسا يأكلان الطعام فماتا من أثر السمّ، وهكذا تكون نهاية الطامعين وعاقبة الطمع.
قصة عن القناعة
يُحكى أنّ شابّاً في الثلاثين من عمره قد أنهى دراسته الجامعية في الهندسة المعماريّة في جامعة ذات سمعةٍ مرموقة، ثمّ بدأ مشوار البحث عن عمل حتى يبدأ ببناء مستقبله في الحصول على وظيفة توفّر له أساسيّات الحياة، تكون عونًا له على تحصيل المال من أجل طلب الزّواج من الفتاة التي أحبّها في الجامعة، وذات يوم كان هذا الشّاب راكبًا في القطار المتجه نحو مركز المدينة، عاقدًا العزم على التقدّم لشركة أجنبية مشهورة للبناء، متمنّيًا أن تكون الوظيفة الشاغرة التي قرأ عنها في الصحيفة هذا الصباح من نصيبه.
فجأة دخل رجلٌ كبير بالسّن يحمل حقيبة سوداء دبلوماسيّة ووقف أمام مقعده، فما كان منه إلا أن قام وأجلسه مكانه احترامًا لسنّه وهيبته، فسُرّ الرجل الذي كان يلهث من التّعب والإرهاق، وعندما توقف القطار عند المحطّة التالية، نزل الرجل من القطار فعاد الشّابّ للجلوس مرّة أخرى، إلا أنّه تفاجأ بعد مرور عشرة دقائق بأن الرّجل قد نسي حقيبته، فاحتار في تركها أم بأخذها والبحث عن الرجل، فما كان منه إلا أن أخذها معه ثمّ توجّه إلى الشركة، فقدّم أوراقه وقام بعمل مقابلة هو وزملائه الذين لم يُلاحظ عليهم أثر الخوف، حيث إنّه اكتشف بعدها أن كلّ واحد منهم لديه واسطة كبيرة تمكّنهم من خطف هذه الفرصة من الجميع.
عاد الشاب حاملًا الحقيبة معه إلى المنزل ووضعها جانبًا ونام نومًا طويلًا بعد أن عرف أنّه لن يحصل على الوظيفة التي حلم بها، وبعد أن استيقظ من نومه قرر أن يفتح الحقيبة علّه يجد فيها ما يدلّ على الرجل الغريب، وعندما فتحها وجدها مليئة بالمال، ونازعته نفسه على أخذها وبناء مستقبله، كيف لا وقد تكفيه عمره بأكمله، إلا أنّه فكّر وجمع العزم على ردّها لصاحبها، فضميره لا يسمح له بأخذ ما ليس له، وأن يرتكب حرامًا كهذا، فالله تعالى يراه دائمًا، وقد وفّقه في كلّ خطوةٍ في حياته منذ أن كان صغيرًا.
بحث الشّاب في الحقيبة فوجد أوراقًا وجواز سفر، ففتحه ووجد صورة الرجل الذي قابله في القطار موجودة ، فعرف صاحبها وقرّر البحث عنه، توجّه إلى العنوان الذي وجده على الإنترنت، حيث ظهر له أنّ هذا الرجل هو المالك للشركة التي كان يطمح للعمل بها، وتمّ رفضه قبل عدّة أيام دون سبب، طرق الشّاب باب مكتب الرّجل ودخل وسلّم عليه فعرّفه بنفسه وأخبره بأنّه كان معه بالقطار الذي نسي فيه حقيبته، وأنّ المال محفوظ فيها ولم يتمّ المساس به، وجاء لإرجاع الحقيبة، قام الرّجل بشكره والثّناء عليه وعرض عليه مكافأة من المال إلا أنّه رفض ذلك، وخرج متوجّهاً إلى البيت.
استغرب الرّجل فعلة هذا الشابّ وقرّر البحث عنه والتقصّي عن أخباره، فاكتشف أنه كان من المتقدّمين للعمل في شركته، واطّلع على أوراقه وأرسل له للحضور لعمل مقابلة، فجاء الشاب وجلسا معًا، وأخبره بأنه قد وافق على تعيينه مهندسًا لشركة البناء الخاصة به لمّا وجد منه من عفّة وأمانة، ثمّ سأله عن سبب عدم أخذه المال أو المكافأة بعدها، فأجاب الشّابّ بأنّ والده أوصاه قبل وفاته بأن يكون قنوعًا وألّا يمدّ يده إلى الحرام، فالكنز الحقيقي هو القناعة والرضا عن الرّزق الذي منحه الله إيّاه، فالمال يأتي ويذهب ويبقى العمل الصالح والفضيلة.
المراجع
- ↑ "معنى القناعة لغةً واصطلاحًا"، الدرر السنية، اطّلع عليه بتاريخ 21/12/2020. بتصرّف.
- ↑ يحيى البوليني، " ماذا تعرف عن تعريف الرضا؟ وما الفرق بينه وبين القناعة؟"، مصري، اطّلع عليه بتاريخ 21/12/2020. بتصرّف.