الوالدان مشكاة الطريق
إن الأب والأم هما نور الحياة، سراج الليل المظلم في حياتنا، نورهم لا ينطفئ، عطاؤهم لا ينفد، لا يتعبان ولا يملان، نراهم دائمًا على أهبة الاستعداد لكل ما نريده، فالوالدان هما مشكاة الطريق للأبناء، ما أعظمهم من أهل، وما أروع عطاءهم ونورهم وهو يضيء حياتنا، فكم من ابن سُدت كل طرق الحياة في وجهه، فجاء نور الحب من أبويه ليشع أمامه طريقًا جديدًا، طريق ملؤه التفاؤل والهمة والإصرار.
ما أعظمهم من أهل وهم ينيرون حياتنا بدعائهم وتوسلهم لله تعالى أن نبقى في توفيق وسداد وتميز دائمَين، ونرجو أن نكون حقيقين بما يقدمونه لنا، وإذا أمعنا النظر في الأهل فإننا لنجد أنهم في كل يوم يعطوننا جذوة من نور قلوبهم لتنير حياتنا، ويصلون إلى أرذل العمر وقد انطفأت جذواتهم ونفدت، فلا حبذا ذلك الابن الذي ينسى تضحياتهم، ويتغافل عن سبب انطفائهم، فهو الذي شبّ من نورهم وضوء حبهم وإشراق عطائهم.
كم من العقبات تجاوزناها ونحن ننظر مشدوهين ولسان حالنا يقول: كيف حصل هذا، كيف فعلناها؟ والسر الكامن وراء ذلك هو دعاء الأهل لنا في جوف الليل بينما نحن نيام غارقون بأحلامنا المستقبلية، فلا يستخفّنَّ ابن بدعاء أهله له، فهو الدعاء المستجاب عند الله تعالى، ولا بد أن يكون الابن بارًا بأهله سامعًا مطيعًا لكلامهم محترمًا لجهودهم، حتى ينال رضاهم ورضا الله تعالى والتوفيق في حياته.
لقد ربط القرآن الكريم رضا الله تعالى والتوفيق في الحياة برضا الوالدين، ولذلك لا بدّ أن يعلم الإنسان أن هذين الوالدين الذين يغرسان في كل يوم طريقه بالدعاء والرجاءات بالتوفيق والسداد هما السبب الحقيقي الكامن وراء نجاحه، وبرّه لهما هو الجوهر المكنون لنجاحه في كل تفاصيل حياته، وما أجمله من برّ عندما تقبّل جبين والديك صباحًا، وتطلب منهما الرضا والدعاء، وما أعظمه من عمل عندما تحضر لهما هدية في المساء تفرح قلوبهما.
إنّ هذا الرضا الذي تكسبه من الأهل، وتُحاول أن تنال برّهم به ما هو إلا نور يضيء قلوبهم من جديد، وعندها سيتسمرون بإضاءة طريق حياتك، لتبقى مشرقًا بالنجاح والسعادة والراحة أينما حللت، وكيفما استدرت والتفتّ، فهنيئًا لك أيها الابن البار، فحياتك ميسرّة ورزقك وفير، وعائلتك في المستقبل سعيدة، وأولادك لك بارّون كما أنت كنت بارًا لأهلك، فكما تكونوا يُولّى عليكم.
ولتطلب رضا أهلك في كل ثانية ودقيقة، فرضاهم هو شمس مشعة تنير الحياة حتى في ظلام الليل الدامس، ودعاؤهم نجم ثاقب يتربع في وسط حياتنا ويتلألأ مبتهجًا أنه يمدنا بقبس من الأمل والتفاؤل، فالأهل هم أنموذج العطاء، ومثل أعلى للتضحية والفداء، وحبذا لو يتعلم الأولاد منهم، ويردون لهم بعضًا من عطائهم اللا محدود.
يداهما مبسوطة حين تنقبض يد الحياة
إنّ الكرم والجود الذي يتصف بهما الأهل لم يُذكر في كل كتب التاريخ، حتى مع أشهر الشخصيات الكريمة، فلا حاتم الطائي ولا غيره جودهم كجود الأهل، فإنّ جود الأهل يتعدى الأمور المادية والطعام والشراب، لأنهم يرون هذا من واجباتهم، فهم يجودون بتعبهم ووقتهم وجهدهم وليلهم ونهارهم، لكي يعملوا ويقدموا لأولادهم الطعام والشراب والملبس على أحسن حال وأفضل هيئة.
عطاؤهم لا يتوقف عند هذا الأمر المادي، فإن يداهما مبسوطة حين تنقبض يد الحياة، فعندما تُسد كل ثغرات الأمل والتفاؤل في حياة الأولاد تجد الأهل يعطون الأولاد بارقة من أمل يتابعون بها طريقهم، ويفتحون لهم أبوابًا كانوا يرونها مغلقة بفضل نصائحهم وكلامهم الطيب، وتعزيز ثقة الأولاد بأنفسهم، وكلامهم لا يمكن أن يراه الأولاد كذبًا لأنه نابع من القلب، صادق في كل حرف.
ومن صور عطاء الأهل وكرمهم ما يشحذون به عزيمة أولادهم كل يوم عندما يثنون على أعمالهم، ويمدحون إنجازاتهم ويفخرون بمراتبهم التي وصلوا إليها وإن لم تكن عالية، فالفكرة أن الكلمة الطيبة والتعزيز والتشجيع هو الذي يجعل المرء يسعى للأفضل، ولأن القلب الرقيق للأهل يأبى أن يكسر خاطر ابنهم بكلمة قاسية، فإنهم لا يرون منه إلا العمل الجميل والإنجاز الرائع، ويحاولون حثه على الأفضل بأسلوب لطيف منمق محبب.
الأهل هم الذين يرسمون معالم واضحة للحياة أمام أولادهم، فلا يخدعونهم ولا يغشونهم، بل يقولون الحقيقة ويبينون لهم صعوبة الحياة ومشاقها، وفي الوقت نفسه يعطونهم شعور الأمان، أنهم معهم بدعائهم وتوسلهم إلى الله أن يوفقهم، وأنهم جاهزون لمد يد العون لهم عند أي عثرة تواجههم في الحياة، فما أعظم عطاء الأهل الذي لا ينضب، وما أروع حبهم الذي يتكاثر وينمو كل يوم وكل دقيقة.
كلما كبر الأولاد كلما أحبّ الأهل أن يعطوهم استقلاليتهم في اتخاذ قراراتهم أكثر، ويحاولون الانسحاب رويدًا رويدًا من حياتهم، إلا أن هذا لا يُعد تركًا لمهامهم ولا مللًا من الأولاد، بل هو تأسيس لشخصيات مستقلة واثقة بقدراتها، ومع ذلك هم يُراقبون عن كثب دون أن يشعر الأولاد، وعند أول منحدر يكاد يهوي بالابن إلى الحضيض ستنتشله يد الأبوين وتعيده إلى مكان يليق به.
الحب الذي يغرسه الأبوين في قلوب الأولاد لا يمكن أن يُنسى، ولا يمكن أن يكون أثره آنيًا، بل إنه حب متجذر متشعب في أعماق أعماق القلب، ينمو ويكبر ويمتد أثره إلى ما لا نهاية، فيكون الأولاد واثقين بأنفسهم، قادرين على اتخاذ قراراتهم، وكل ذلك بفضل الحب من الأهل، فكيف إذا ما جمع الأهل مع الحب أيضًا احترامًا وثقة وتعزيزًا ودعمًا وقوة شخصية وجرأة في قول الحق، كل هذه القيم تنمي شخصية الأولاد وتشحذ هممهم.
ومن المهم القول أنّ زرع كل هذه القيم ليس بالأمر البسيط على الأهل، لا سيما في عصور كثرت فيها الشبهات، وتكاثرت القيم المرذولة المزيّنة بأحلى العبارات على أنها عادات مجتمع، فطوبى لمن تمكّن من الثبات على قيمه، ونقلها إلى أبنائه.
عطاء الوالدين غير مشروط
كل عطاءات الأهل وجميع ما يقدمونه لا يطلبون مقابله مالًا ولا جاهًا ولا سلطة ولا مرتّبًا شهريًا، إنّما هم يعطون لأنهم يعطون قطعة من روحهم، فلذة كبدهم، نور عيونهم، أمل حياتهم، يعطون أبناءهم، فهم ينجحون لنجاح الأبناء، ويفرحون لفرحهم، ويحزنون لحزنهم، فنجد أن عطاء الوالدين غير مشروط ولا تحده حدود، لم يقل الأهل في يوم ما للأولاد نحن في السنة القادمة يتوقف عطاؤنا وابحثوا عن مصدر آخر.
إنهم شجرة مثمرة تُظِلّ في الصيف وتعطي هواء عليلًا في الشتاء، تغذي القلب، وتروي العقل، تسعد النفوس، وهم لا يطلبون إلا أن يروا الأولاد بأبهى مكانة وأرفع مرتبة، وما ذلك إلا لأنهم أصحاب القلوب الصافية، والعقول المشرقة بالحب، يزرعون حبًا وودًا ويحصدون حبًا وتعاونًا واحترامًا وبرًا من أولادهم لهم، فأجمِل بعطاءات لا تنتهي! عطاؤهم لا تحدده مواسم، ولا فترات استراحة عندهم، ولا إجازات.
لا بد أن يردّ الأولاد هذا العطاء أضعافًا مضاعفة، ومع ذلك لن يعطوه حقه، لكن لا بد من رد الجميل، وذلك يكون بأمور عدة أولها وأهمها الاهتمام برضا الأهل، وعدم الاستهزاء أو الاستخفاف بهما عندما يصبح شابًا يافعًا صاحب علم ومعرفة، فالاحترام والبر للأهل هو الذي جعله يصل إلى ما هو عليه فليحافظ على البر والرضا من الأهل، وليكن في غاية التقدير والأدب عندما يتكلم مع من أعطوه وما زالوا يعطونه ولم يطلبوا منه يومًا.
العطاء غير المشروط لا بد أن يوازيه نجاح وتميز من الأولاد، عندها فقط ينسى الأهل كل تعبهم، وكل جهدهم وكل سهرهم ويفخرون بأولادهم، ويتمنون لو يقدموا لهم المزيد والمزيد كي يستمروا بالنجاح والتميز والتألق في الحياة، ولا بد أن يجمع الأولاد إلى هذا النجاح دائمًا اعترافًا بفضل الأهل عليهم، وذكرهم وذكر جهودهم في وصولهم إلى ما هم عليه، فهذا الذي يثلج صدر الأهل ويفرحهم.
إنّ تحلّي الأبناء بالأخلاق الفاضلة والقيم والمبادئ التي يشكرها الناس ويتحدثون عنهم أنهم يتميزن بها، هو الذي يدل على عطاء الأهل في التربية، فكم حاولوا إبعاد أبنائهم عن قاذورات الحياة وفسادها، وكم اجتهدوا حتى يغرسوا بذور الهداية والصلاح في قلوبهم، وكم بحثوا لهم عن أصدقاء صالحين ودعوا تضرعًا وتوسلًا أن يُبعدهم الله عن أصدقاء السوء ومن يجرّهم إلى المنكرات.
هذا القلق المستمر على الأولاد وتربيتهم لا بد أن كان له نصيب من صحة الأهل وتفكيرهم وتوتّرهم، فما أعظمه من عطاء أن يربي الأهل أبناءهم على التقوى والأخلاق الإسلامية الصحيحة التي تجلعهم أبناء ناجحين في الدنيا والآخرة، فهو أفضل ما يقدمه الأهل لأولادهم، أن يربّوهم على مبادئ الدين الإسلامي التي تدخلهم الجنة وتحميهم من النار.
لقراءة المزيد من الموضوعات، انظر هنا: موضوع إنشاء عن بر الوالدين.