نبذة عن كتاب تاريخ بغداد

كتابة:
نبذة عن كتاب تاريخ بغداد

الخطيب البغدادي

الخطيب البغدادي هو اللقب الذي يُشتَهر به الإمام الحافظ المحدّث أحمد بن علي بن ثابت البغدادي، وكنيته أبو بكر، يرى فيه الإمام الذهبي الإمام الأوحد وخاتمة الحفّاظ، ولد سنة 392هـ،[١] ولد في قرية من قرى الحجاز ولكنّه نشأ في قرية درزيجان من أعمال مدينة بغداد؛ إذ كان والده خطيب مسجد فيها لما يربو على عشرين عامًا، بدأ تعليمه في سنّ مبكّرة فصار يتردّد على حلقات العلماء في بغداد، وممّن حضر لهم الإمام العلّامة أبو حامد الإسفراييني والشيخ أبو الحسن بن رزقويه والشيخ أبو بكر البرقاني، وانتقل للبصرة فأخذ عن شيوخها ثمّ ارتحل بعدها إلى نيسابور، وبعد عودته إلى بغداد عاد وسافر إلى أصفهان وهناك التقى الإمام أبا نعيم الأصفهاني صاحب كتاب حلية الأولياء، ثمّ عاد وارتحل إلى الشام فتنقّل بين دمشق وصور وبيت المقدس وطرابلس، ثمّ استقرّ ببغداد إلى أن قُبض بها سنة 463هـ، وترك وراءه مصنّفات كثيرة لعلّ أشهرها كتاب تاريخ بغداد الذي سيقف معه هذا المقال.[٢]

مضامين كتاب كتاب تاريخ بغداد

كتاب تاريخ بغداد هو كتاب عظيم ألّفه الإمام الخطيب البغدادي -بحسب ما ذكر علماء التاريخ- بعد تغييرات طرأت على بغداد دار السلام ودار الخلافة بعد سقوط الدولة البويهيّة وقيام الدولة السلجوقيّة، وكذلك بعد الفيضانات والحرائق التي تعرّضت لها بغداد، وكذلك بعد بعض الحركات الانتقاميّة التي فعلها بعض السلاطين السلاجقة انتقامًا من أسلافهم من البويهيّين وغيرهم؛ إذ يذكر المؤرّخون أنّ 170 قصرًا كانت على ضفّتي دجلة ببغداد هدمها السلطان السلجوقي طغرل وبنى منها قصره، وقيل إنّ الخطيب البغدادي قد أتمّ كتابه هذا في مدينة صور في الشام وأهدى نسخة منه إلى أبي منصور عبد المحسن بن محمد المعروف بابن شهدانكه المالكي، وقد انتهى تأريخ الخطيب البغدادي في هذا الكتاب عند سنة 460هـ.[٣]

والكتاب في حقيقة الأمر ليس كتابًا في التاريخ، ولكنّه كتاب في التراجم موضوع لخدمة علم الحديث الذي اهتمّ به البغداديّ اهتمامًا واسعًا، وذلك يفسّر ضخامة عدد رجال الحديث الذين ترجم لهم، وقد بلغ عددهم خمسة آلاف رجل من أصل سبعة آلاف وثمانمئة وواحد وثلاثين رجلًا وامرأة قد جمعهم كتاب تاريخ بغداد،[٣] ويشمل الكتاب وصف مدينة بغداد وتخطيطها وبناءها وأخبار الخليفة أبي جعفر المنصور الذي بناها، ويتحدّث فيه كذلك الخطيب على الأقاليم السبعة للأرض التي كان يراها الخطيب البغدادي، ثمّ يتحدّث على تعريب اسم العراق وتعريب اسم بغداد ويصف كذلك المدن التي تقع ضمن مدينة بغداد كالرصافة والكرخ وغيرها ومساجدها "ومقدار ذرع جانبي بغداد طولًا وعرضًا ومبلغ مساحة أرضها وعدد مساجدها وحماماتها"، وتبدأ تراجم الكتاب بالصحابة الذين وردوا المدائن، ويبدأ بعلي بن أبي طالب -كرّم الله وجهه- ثمّ خمسين آخرين كالحسن والحسين وابن مسعود وعمّار بن ياسر وأبي أيّوب الأنصاري وحذيفة وسلمان وابن عمر وابن عبّاس وأبي سعيد الخدري والمغيرة بن شعبة ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين،[٤] ثمّ يترجم بعدهم للأعيان من الخلفاء والفقهاء والمحدّثين والشعراء وغيرهم من أهل بغداد خاصّة أو ممّن نبغ فيها أو يكون قد ورد عليها من غير أهلها وغير ذلك، وقد رتّبهم على حروف المعجم ولكنّه آثر البدء بمن هو اسمه محمّد تبرّكًا بالنبي الأكرم محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم،[٥] فبدأ بمحمد بن إسحاق لأنّه لم يجد من هو أكبر منه سنًّا ولا أعلى سندًا، وقد يكرر الخطيب ترجمة الرجل أكثر من مرة؛ ذلك أنّه يترجم للرجل باسمه ثم بلقبه المشهور، أو أن يكون للرجل اسمان.[٦]

وقد وُضِعَ على هذا الكتاب الكثير من الذيول، أبرزه ذيل ابن النجّار الذي سمّاه التاريخ المجدد لمدينة السلام، ويقع في ثلاثين مجلّد لم يصل إلّا بعض منها، وكذلك هنالك ذيل الدمياطي المسمّى المستفاد من ذيل تاريخ بغداد، وهذا الكتاب قد استفاده من ذيل ابن النجّار، وكذلك ممّن استفاد من ذيل ابن النجّار الإمام الحافظ بن رافع السلامي الذي ألّف كتابًا سمّاه المختار المذيل به على تاريخ ابن النجار، ثمّ جاء المؤرّخ التقي الفاسي فألّف كتابًا منتخبًا من مختار ابن رافع سمّاه المنتخب من المختار، واخيرًا جاء المؤرّخ ابن الدبيثي ووضع ذيلًا على تاريخ بغداد اختصره الإمام الذهبي في كتاب سمّاه المختصر المحتاج إليه من تاريخ الدبيثي.[٣]

منهج البغدادي في كتاب تاريخ بغداد

لقد حاول الإمام الخطيب البغدادي أن يترجم لكل العلماء الذين قطنوا بغداد منذ بنائها وإلى عصره، فاعتمد على الكتب التي سبقته ككتب تراجم المحدّثين والخلفاء والأدباء والشعراء وغيرهم، فاجتمع له عدد هائل من الكتب التي كانت متوفّرة بكثرة في عصره، ولم يبقَ له سوى جمع مادّة كتابه من تلك الكتب التي جمعها، حتّى إنّه يمكن القول إنّ مادّة كتابه تعود في ثلاثة أرباعها للكتب التي أخذ منها، واهتم اهتمامًا كثيرًا بتخريج الأحاديث، وكان يتعقّب بعضها وينتقدها كذلك، ولتعقيباته أهميّة كبرى نظرًا لاضطلاع الخطيب بعلم الحديث، وقد حاول أن يقدّم ترجمات كاملة لمن يترجم له، فيذكر اسمه ونسبه وكنيته وتلامذته وشيوخه وغير ذلك، ثمّ يسرد روايات تدلّ على مكانته وأخلاقه، ثمّ يسوق منزلته بين كتب الجرح والتعديل وأخيرًا يذكر تاريخ وفاته وقد يذكر موضع قبره، وكذلك فقد استدرك على علماء أجلّاء أوهامًا قد وقعوا فيها ربّما لعدم توفّر تلك المادة العلميّة الكبيرة التي توفّرت للخطيب، وأيضًا ذلك يدلّ على سعّة علمه واضطلاعه بالأمور التي يبحث فيها، ومن أهمّ العلماء الأعلام الذين استدرك عليهم يُذكر الإمام محمّد بن إسماعيل البخاري صاحب كتاب الجامع الصحيح، وأيضًا الإمام العلم أحمد بن حنبل إمام المذهب الحنبلي، وكذلك شعبة بن الحجاج وأبو عبيد القاسم بن سلام وابن أبي حاتم الرازي والجوزجاني وأبو القاسم البغوي والإمام الطبراني والإمام الدارقطني وأبو نعيم الأصبهاني صاحب كتاب حلية الأولياء وأبو القاسم الأزهري وغيرهم الكثير.[٧]

ويمكن القول إنّ الخطيب البغدادي كان له منهج واضح في الكتاب ويظهر ذلك من خلال ترتيب الكتاب، وقد كان من سبقه لا يلتفتون لهذا الجانب، فبدأ الكتاب بمقدمة عن بغداد نقل فيها أقوال العلماء عن بغداد وأرضها وحكمها وجواز بيع أرضها وكراهيته وغير ذلك، ثمّ تحدّث على خطط بغداد وبنائها ومن تولى بناءها وغير ذلك، ثمّ يقف على خبر المدائن ومن وردها من الصحابة رضوان الله عليهم، ويأخذ بعض الباحثين على الخطيب إغفاله ذكر المهندسين الذي صمموا القصور والحدائق والبرك وغير ذلك، وأيضًا قد أغفل ذكر الجرّاحين والصيادلة وغيرهم من الأطبّاء، واهتمّ فقط بالجانب الديني منها وذكر بعض الأدباء والشعراء ونحوهم، ثمّ إنّه قد رتّب التراجم على حسب حروف المعجم، والأشخاص الذين اسمهم محمد وأحمد وعلي وغيرهم من الأسماء التي يتسمّى بها المسلمون بكثرة فقد رتّبها على حسب أسماء آبائهم، وأحيانًا يُضطرّ إلى ترتيبهم على أسماء أجدادهم، وقد قدّم من مات من الرجال على غيره وإن كان أكبر سنًّا منه وأعلى سندًا، ثمّ في مجال عناصر الترجمة يمكن القول إنّ منهجه في الترجمة كان أن يذكر اسمه ونسبَه ونسبته وكنيته وما يُعرف به، ثمّ شيوخه الذين حدّث عنهم أو سمع منهم، ثمّ العلماء الذين رَوَوا عنه، ثمّ أقوال أئمة الجرح والتعديل عنه في حال كان محدّثُا، أو أقوال النقّاد فيه في حال كان من غير المحدّثين، ثمّ رواية حديث عنه أو حكاية أو شعر قد نظمه بنفسه أو رواه عن غيره، ثمّ مولده ووفاته ومكان دفنه.[٨]

وأيضًا ممّا يُحسب للخطيب البغدادي في كتابه تاريخ بغداد دقّته في النقل، فقد كان المتعارف عليه في القديم أن ينقل المصنّفون بالمعنى أو نقلًا حرفيًّا، وكان الخطيب ممّن ينقلون عن غيرهم حرفيًّا حتّى وإن كان الكلام الذي ينقله فيه أخطاء نحويّة أو لغويّة، فهو ينقله كما هو ثمّ يُضَبِّب عليه؛ أي: يضع صادًا صغيرة فوق الكلمة للتنبيه على أنّها منقولة بالحرف وإن كان فيها خطأ، وأمّا بالنسبة لطول الترجمة وقصرها عند البغدادي فمردّ ذلك -بحسب الباحثين- إلى أمور كثيرة من أبرزها توفّر المادّة العلميّة للرجل الذي يترجم له، وطبيعة الترجمة وكذلك تكوين المصنِّف الفكري وثقافته في هذا المجال، والخطيب البغدادي قد توفّرت عنده مادّة هائلة للشخصيّات التي ترجم لها، فاجتهد في اختصارها من خلال إسقاط المعلومات الأقل أهميّة وذِكر القليل منها، ولكنّه أيضًا قد ذكر ترجمات قصيرة تصل في بعض الأحيان إلى سطر؛ وذلك لأنّ الخطيب قد حرص على ذكر من له أدنى رواية من أهل بغداد أو ممّن قدم إليها، سواء وقف عليه بنفسه أو قد حُكي له.[٩]

وأيضًا قد رمى البغداديّ أحيانًا في بعض الترجمات إلى التطويل؛ وذلك للإحاطة بصاحب الترجمة من جميع النواحي، وذلك لأنّه قد يكون صاحب الترجمة ممّن أُثير حوله نقاشات طويلة كالحلّاج المتصوّف المقتول التي وصلت في بعض النُّسخ إلى ثلاثين صفحة، والإمام الأعظم أبي حنيفة الذي وصلت ترجمته كذلك في بعض النّسخ إلى مئة وأربعين صفحة، وكذلك ترجمة أبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة وأحمد بن أبي دؤاد أحد أقطاب المعتزلة وقاضيهم في بغداد وغيرهم، وكذلك قد رمى إلى تطويل الترجمة إن كان المُترجَم له أحد أعلام الأمّة كالإمام البخاري ووكيع بن الجرّاح وسفيان الثوري وابن إسحاق وغيرهم، والكلام على منهج البغدادي في كتابه يحتاج إلى صفحات مطوّلة وقد وقفت هذه الفقرة مع ما يتّسع له المقام، فليُنظر ذلك في مظانّه، والله أعلم.[١٠]

القيمة التاريخية لكتاب تاريخ بغداد

ختامًا تقف هذه الفقرة مع القيمة التاريخيَّة لكتاب تاريخ بغداد، فالكتاب كما مرَّ آنفًا ليس كتابًا في التَّاريخ كما يُتوهم من اسمه، وإنّما هو كتابٌ -إن صحَّ القول- في التراجم، وتأت أهميته من كونه قد خدم علم الحديث من خلال اهتمامه الواسع بالمحدِّثين؛ إذ قد بلغ عدد المحدثين الذين ترجم لهم قرابة خمسة آلاف مُحدِّث، وكذلك تأتي أهميتهم من كونه قد عرَّف بالكثير من الكتب المفقودة في معظم المجالات المختلفة، وقد ذكر قرابة 29 كتابًا لم يذكرها ابن النَّديم في فهرسته، وقد بلغت الكتب التي ذكرها في كتابه حوالي 446 كتابًا، وقد استفاد أكثر مؤرخي الإسلام من هذا الكتاب وأصبح من المراجع الرئيسة لهم، وقد أثنى عليه الإمام السُّبكي وطاش كبرى زاده وابن ماكولا وأبو يعلى وابن عساكر وابن الجوزي وغيرهم.[١١]

أمَّا أهمية الكتاب في تاريخ الحياة الثقافية والتعليمية، فإنَّها تَظهر في هذا الكتاب من خلال الكشف عن مناهج العلماء ومقاييسهم والعلاقة بينهم وبين تلاميذهم، وكذلك من خلال تبيين طرائق التدريس عند علماء ذلك العصر أو العصور، وأيضًا في التعريف ببعض مدارس المساجد التي تختصُّ بالفقه أو علم الحديث أو علوم القرآن تلك العلوم التي انتشرت في القرنين الرابع والخامس الهجري، وكذلك من خلال الكشف عن الحلقات العلميَّة التي كان يعقدها أئمة الأمَّة من الأساطين في المساجد، تلك الحلقات التي كان يُملى فيها الحديث أو كانت تدور فيها المُناظرات أو كانت تحدث فيها المذاكرات، وكذلك يُمكن القول إنَّ هذا الكتاب يعكس مدى نشاط العلماء واتِّصال الحركة الفكرية بين مدن الإسلام بعضها ببعض، وإلى غير ذلك ممّا جاء به هذا الكتاب العظيم الفائدة مما لا يتسع المقام لذكره، ولكن يمكن العودة إلى تلك المعلومات في مظانّها، والله -تعالى- أعلى وأعلم.[١٢]

المراجع

  1. "سير أعلام النبلاء"، islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-01. بتصرّف.
  2. "الخطيب البغدادي"، ar.wikipedia.org، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-01. بتصرّف.
  3. ^ أ ب ت "تاريخ بغداد مدينة السلام"، www.marefa.org، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-01. بتصرّف.
  4. "كتاب تاريخ بغداد ت بشار"، al-maktaba.org، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-01. بتصرّف.
  5. "تاريخ بغداد للخطيب البغدادي"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-02. بتصرّف.
  6. "تاريخ بغداد (كتاب)"، ar.wikipedia.org، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-02. بتصرّف.
  7. أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد مع الذيول والفهارس، صفحة 24. بتصرّف.
  8. الخطيب البغدادي (2001)، تاريخ بغداد مدينة السلام (الطبعة 1)، بيروت: دار الغرب الإسلامي، صفحة 75، جزء 1. بتصرّف.
  9. الخطيب البغدادي (2001)، تاريخ بغداد مدينة السلام (الطبعة 1)، بيروت: دار الغرب الإسلامي، صفحة 89، جزء 1. بتصرّف.
  10. الخطيب البغدادي (2001)، تاريخ بغداد مدينة السلام (الطبعة 1)، بيروت: دار الغرب الإسلامي، صفحة 91، جزء 1. بتصرّف.
  11. "تاريخ بغداد (كتاب)"، www.wikiwand.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-02. بتصرّف.
  12. الدكتور أكرم ضياء العمري (1985)، موارد الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (الطبعة 2)، الرياض:دار طيبة، صفحة 87. بتصرّف.
6370 مشاهدة
للأعلى للسفل
×