نشأة البنيوية وما بعد البنيوية في الأدب

كتابة:
نشأة البنيوية وما بعد البنيوية في الأدب

المناهج النقدية

عرفتْ أوروبّا عددًا كبيرًا من المناهج النقدية التي تناولت الأدب بالدرس والتحليل، وكانت هذه المناهج ترتبط بالمنطق، والإجراءات العقلية التي من شأنها إيصال الناقد لنتائج معينة، وارتباطها بحركة التطور العلمي التي أثّرت على المجتمع وقوانينه، وبالتالي كان على الناقد توظيف كل ما يمتلكه في دراسة النصوص دراسة الأدبية، ومعالجة مظاهر الإبداع الأدبى في النص وتحليلها في ظل منهج أدبي محدد من المناهج النقدية السائدة، ومن أبرز هذه المناهج كانت مناهج البنيوية وما بعد البنيوية، وهو ما يتناوله هذا المقال البنيوية وما بعد البنيوية في الأدب.

مفهوم البنيوية

تعرف البنيوية في الأدب والنقد على أنّها منهج فكري يبحث في العلاقات داخل نظام معين مما يعطي للعناصر الداخلية المتحدة لهذا النظام قيمة، تجعل من الممكن من خلالها إدراك ما لهذه العناصر من معان دالة، وقد حظيت البنية بعديد من التعريفات في البنيوية وما بعد البنيوية، فهي نظام عام لفكرة أو مجموعة أفكار مرتبطة بعضها ببعض ومؤثرة بتأثيرا منطقيا ببعضها بعضا على حساب العناصر المكونة لها، وقد امتدّ هذا التعريف إلى علم الأسلوب والتمييز بين ثنائية اللغة والكلام عند دي سوسير، أو الكلام والنص عند هيلمسلف، أو بين القدرة الكلامية والأداء الفعلي للكلام عند نعوم تشومسكي، أو بين مفتاح الكلام والرسالة الفعلية عند رومان ياكوبسن.

كما أنها تعني النظام أو النسق العقلي، والتعميم الكلي ذو التنظيم الذاتي الذي ترتبط عناصره الداخلية بشكل منطقي فيما بينها. وعليه فالنقد البنيوي هو الذي يهتم باللغة، وأساسه التحليل لا التقويم، والذي يفهم الشكل الأدبي على أنه يبدأ بالنص وينتهي معه، رافضا بذلك مصطلح المؤلف الذي يعني توحيد النصوص.

ويرى المنهج البنيوي العمل الأدبي كلًّا متكاملًا، مكونا من عناصر مختلفة ذات مستويات متعددة متكاملة الوظائف في النطاق الكلي الشامل للنص، ويقدم ترتيبا لهذه المستويات، اعتمدتها البنيوية وما بعد البنيوية في تحليل النص، وهي: المستوى الصوتي، والمستوى الصرفي، والمستوى المعجمي، والمستوى النحوي، ومستوى القول، والمستوى الدلالي، والمستوى الرمزي [١]، غير أن هذا المعنى بين البنيوية وما بعد البنيوية تغيّر كثيرًا بعد ما طبّقته ما بعد البنيوية من عمليات هدم وتفكيك لمفهوم البنية.

نشأة البنيوية وما بعد البنيوية في الأدب

نشأت البنيوية وما بعد البنيوية في الأدب في القرن العشرين، حيث بدأت البنيوية في فرنسا بعد انتصاف القرن العشرين، وقيام الناقد الفرنسي تودوروف بترجمة أعمال الشكلانيين الروس إلى الفرنسية في كتابه الموسوم بعنوان: "نظرية الأدب: نصوص الشكلانيين الروس". فكانت أعمالهم أول مصادر البنيوية، التي دعت إلى الاهتمام بالنص الأدبي، والبحث في النظام الألسني عن العلامات الإشارية المعبرة للواقع، لا العاكسة له، وبذلك همّشوا المناهج الأخرى التي نظرت للنص من الخارج.

وكان من المصادر التي أسهمت في نشأة البنيوية وما بعد البنيوية، حركة النقد الجديد في أمريكا في القرن العشرين، والتي رأت أن الغاية من الشعر هو الشعر نفسه. أما الرافد الثالث لنشأة البنيوية وما بعد البنيوية فهو علم اللسانيات الحديث، بل ويعد أهم روافدها خاصة محاضرات دي سوسير في اللسانيات العامة، التي فرّق فيها بين اللغة والكلام، مما فتح الطريق لاستقلال النص الأدبي وإن لم يتناول فيها مفهوم البنية، وإنما لفت النظر بأن للغة نظاما خاصا، ومن ثم كان لحلقة براغ، وآراء ياكبسون في اللغة أثر هام في نشر الوعي بالبنيوية، ومن ثم ترسيخها في الأوساط النقدية والأدبية. [٢]

وقد جاءت نشأة البنيوية وما بعد البنيوية بعد كل ذلك استجابة طبيعية التطور العلمي، وثقافة العصر، خاصة أن البنيوية جاءت بوصفها رد فعل لمغالاة الرومانسية في الهرب إلى الخيال، ومغالاة علم النفس في الاسقاطات النفسية على الأدب والأدباء، والتعسّف في ربط الأدب بالمجتمع والنزعة الماركسية، وشعور العالم بالإحباط والضياع من كل ما يدور حولة، فكان لا بد من البحث عن نظام كلي متناسك ومتماسك، يجعل العالم بيئة مناسبة للإنسان بعد ربط العلوم كلها ببعضها بعضًا. [٣]

وقد كانت فلسفة كانْت من أهم عوامل نشأة البنيوية في النقد الأدبي، بل وكانت الأساسي الفكري لها، لعدم إيمانها إلا بالظواهر الحسِّيَّة القائمة على الوقائع التجريبية، وأن الظاهرة هي بنية منعزلة عما يحيط بها، عن أسبابها، وتسعى إلى تفكيكها إلى عناصرها الأولية من أجل فهمها، ومن ثم تحليلها لإدراكها. وقد رفعوا البنيويين من هذا المنطلق شعار النص ولا شيء غير النص، بحثا عن كل ما يحقق أدبيته من أبنية داخلية، وعلاقتها ببعضها، وكيفية أدائها لوظائفها، وطبيعة اللغة الأدبية المختارة للكتابة، إلا أن البنيوية بعدما ملأت الآفاق، ما لبثت أن تراجعت في فرنسا عام 1968 بعد اضرابات الطلاب الراديكالية وأخذت بالانهيار في أوائل سبعينيات القرن العشرين، مما دفع بالعديد من البنيويين إلى مراجعة منهجهم البنيوي والعودة عنه لم رأوا فيه من تناقضات عدّة، فظهرت مناهج عديدة كالأسلوبية، والتفكيكية، والسيميائية، والنسوية، والعديد من النظريات الأدبية المختلفة، وهذا ما أدّى إلى ظهور مصطلح جديد هو مصطلح "ما بعد البنيوية". [٢]

ظهرت البنيوية وما بعد البنيوية، أخص "ما بعد البنيوية" على يد أكاديميين أمريكيين، أو ما عُرف بـ "ما بعد الظاهراتية"، وكان قريبا لحركة ما بعد الحداثة، وكان رولان بارت من أهم فلاسفته بعد أن تراجع عن البنيوية إلى ما بعد البنيوية هو وميشيل فوكو وجاك ديردا وجوليا كرستيفا الذين عُدّوا من أهم فلاسفة ما بعد البنيوية [٤]، حيث انتقل رولان بارت في كتابه متعة النص من نظريات الكتابة ودور الكاتب في تركيب النص من بنى جاهزة، ونظرية وموت المؤلف إلى نظرية التلقي ودور القارئ في توليد معانٍ جديدة في النص لا نهاية لها واللعب بها ن خلال تفكيف النص وإعادة بنائه بمعان جديدة. وجاء بعده جاك دريدا من أعلام البنيوية وما بعد البنيوية وطوّر نظرية التلقى وحوّل القارئ إلى منتج جديد للنص عوضا عن المستهلك، فكان ما طوّره هو الأساس الفكري للمذهب التفكيكي، وما بعد البنيوية[٢]، وكما أن كثيرا من النقاد لم يتقبلوا البنيوية، كذلك الأمر لما بعد البنيوية، فقد رفض عدد من النقاد هذا الاسم، وانتقدوها بأنها نسبية وعدمية ومتطرّفة، بالإضافة إلى تعقيدها اللغوي، ورأوا فيها خطرا مهددا للقيم التقليدية والمعايير المهنية العلمية. [٤]

أعلام البنيوية وما بعد البنيوية

عرفت البنيوية وما بعد البنيوية خمسة من كبار المفكرين الفرنسيين الذين ظهروا في النصف الثاني من القرن العشرين، وارتبطت أسماؤهم بالمدرسة البنيوية في البداية، ولكن ما لبث أن تحول عدد منهم عنها -باستثناء شتراوس- عنها لعدم رغبتهم بأن بأن يحسبوا على منهج شعروا بأنه يقيد حرّيتهم. وقد كان هؤلاء الكتاب رغم ما بينهم من تباين، يعملون في أصول مشتركة هي اللغويات البنيوية التي وضعها ديسوسير وقامت عليها البنيوية وما بعد البنيوية، فأخذوا فكرة اللغة المكتملة، وطبّقوها على ظواهر ثقافية مشابهة للغات بتشكّلها من نظم رمزية قابلة للتحليل والفهم كما اللغة البشرية. وتاليا عرض لخمسة من مفكرين البنيوية وما بعد البنيوية، وأبرز أفكارهم وإن كان يصعب الإلمام بها جميعها، لضخامتها وضخامة أعمالهم في البنيوية وما بعد البنيوية.

كلود ليفي ستراوس

كلود ليفي ستراوس أو شتراوس، عالم اجتماع فرنس، ولد عام 1908 وتوفي عام 2009، بدأ حياته بدراسة الفلسفة، ومنها انتقل إلى دراسة علم الاجتماع حتى شغل كرسي انثربولوجيا الاجتماع بعد أن قدّم أطروحته في فرنسا حول المشاكل النظرية للقرابة، وأفكار أخرى الكتفكير الجامح، والطوطمية والأسطورةوكان لأعماله أثر كبير في الأنثربولوجيا البنيوية [٥]، وقد بنى شتراوس أفكاره في علم الانثربولوجيا وطوّرها بناء على ثلاثة مبادئ في اللغويات البنيوية استفادت منها البنيوية وما بعد البنيوية، إذ رأى من خلالها أن الحضارات تماثل المنظومات، هي: [٦]

  • يجب دراسة اللغة نفسها والبنى الداخلية قبل دراسة علاقتها بالنظم الأخرى الخارجية، وطوّر أفكاره من هذا المبدأ من خلال تعميمه للموضوع الصحيح للدراسة العملية الذي جعله في التجانس الداخلي لمجموعة من المعطيات، واستقلالها الذاتي عما خارجها، وقد استفاد من هذا المبدأ في أفكاره حول الطوطمية.
  • الشكل المسموع من اللغة هو الكلام، ويجب تحليله إلى عدد محدود من العناصر البسيطة كالفونيمات على المستوى الفونولوجي. وقد لعب هذا المبدأ دورًا ثانويًّا في أعمال شتراوس، خاصة الأسطورة، وقد أكّد من خلاله وجود ذرات من القرابة، وهذه الذرات لا هي بالبسيطة ولا تشبه الفونيمات، ، ويصعب تحليلها لمجموعة من العناصر البسيطة، كونها مجموعة غير قابلة للعد، ولها وظائف متصلة، لذلك كان ربطه لهذا المبدأ بالأسطورة ربطا غير ناجح؛ لأن التوقعات البنيوية تقوم على التجانس والاستقلال الذي يقبل التقسيم إلى عناصر محدودة لا تسندها الوقائع.
  • تحدد عناصر اللغة بعلاقاتها المتبادلة، المتمثلة في العلاقات الجدولية التي تحل فيها العناصر محلّ بعضها، والعلاقات التركيبية التي ترتبط فيها العناصر معا، وأستفاد منه في أن جعل الوصف البنيوي هو الصف الذي تترتب فيه هذه العلاقات بترتيب الجدولية والتركيبية عندما تكون قابلة للانفصال عن بعضها بعضًا.
  • وهو مبدأ أضاف شتراوس، ودعا فيه بوجوب أن تكون البنى المتصلة ببعضها، هي تحولات شكلية سماها بالديالكتيكي، وأن القواعد التي تحكم هذه التحوّلات يجب أن تكون أعم من التحليل وأشد تجريدًا، وبالرغم من أن شتراوس كان يرى أنه ليس من الضروري اتباع هذه المبادئ، إلا أنها قدمها في ظل الجدل بين العقلانية والتجريبية، متجاوزا بذلك التجريبية عندما نسب التطوّر في الثقافات إلى الضوابط الداخلية للذهن البشري أكثر من الحاجات الخارجية؛ فالذهن البنيوي مرتب وواضح لا مكان فيه للملكات الكامنة.

رولان بارت

ناقد فرنسي من رواد علم الإشارات، ومن أعلام البنيوية وما بعد البنيوية، ولد عام 1915 وتوفي عام 1980، كان متأثرا بالفلسفة الوجودية السارترية المعادية للجوهرية، إذ نادت الأولى بحرية الإنسان في التغير المستمر والهرب من الماضي. كان له مؤلفات وأفكار عدة في البنيوية وما بعد البنيوية أبرزها نظرية موت المؤلف، وكتابه الكتابة بدرجة الصفر، وكتابه لذة النص[٧]، ولأنه من الصعب الإلمام ولو تلخيصا بكل أفكاره، فسيعرض المقال اعتراضاته على النقد المعاصر والنقد الأكاديمي، التي دفعته إلى البنيوية وما بعد البنيوية، وهي:

  • النقد في معظمه غير تاريخي، ويقوم على القيم الأخلاقية والشكلية في النص، التي لا تخضع للزمن أو لطبيعة المجتمع، الذي كتبت فيه النصوص، وبالتالي فإن الكتب التي تؤرّخ للأدب الفرنسي هي ركام تاريخي من الأسماء والتواريخ، محاولا لفت الانتباه بذلك إلى وظيفة الأدب، ومن أجل ذلك كتب كتابه الكتابة في درجة الصفر الذي تناول فيه الكتابة البرجوازية ثم اضمحلالها.
  • اشتغال النقد الأكاديمي بتفسير معطيات النص من خلال حياة الكاتب، والأصل أن تفهم عناصر العمل الأدبي من داخل النص لا من خلال سياقات خارجية، حيث ترتبط العلاقات بين بعضها بعضًا.
  • إصابة النقاد الأكاديميين بالعمى الرمزي -وهذا بعد تحوّله إلى التفكيكية-، إذ لا يرون إلا معنى واحدا حرفيّا في النصوص التي يدرسونها، وأي بحث عن معنى آخر هو مضيعة للوقت، ويرفضون تعددية المعنى في النص، مما يجعلهم في مرتبة أدني في تقصي الرموز. ولو بحثوا عن المعاني المتعددة، فيخضعونها للنقد المعياري كمعان صحيحة مأخوذة أو خاطئة مهملة، وبالتالي يذهب إلى ضرورة البحث عن المعاني المتعددة في النص التي تتخلل النص ولا يمكن الكشف عنها إلى بعد الانتهاء من قراءته وهو هنا يتحول من الحديث عن المعاني المتعددة للنص إلى نفي معنى النص على الإطلاق. وهذا ما جعله يحدد دور الناقد الأدبي عن البحث عن "كيف" تعني النصوص أي النظام، لا "ماذا" تعني النصوص أي الناتج. [٨]
  • ابتعاد النقاد التقليديين في البنيوية وما بعد البنيوية عن إعلان أيديولوجياتهم في النقد، وتبني القيم التي طبقوها عن إطلاق الأحكام على الأعمال الأدبية، فأوهموا الناس بأن قيمهم هي قيم كلية شاملة، وهذا ما سمّاه بالتعمية، وهذا ما جعل نهجه ينحو إلى البحق عن الأخلاقيات السريّة في النصوص التي بدت محايدة.

وتناول بارت فكرة ماهية الأدب، وجعل من أفكار الرومانسية والواقعيى تعبيرا فجا عن ماهيته، غير قادر على التفريق بين ما هو أدبي وما هو غير أدبي، ولا يمكن إثبات ماهيته إلا من خلال اللغة، ومن هنا ميّز بين نوعين من استخدامات اللغة: استخدامات الكاتب التي يستخدم اللغة لغاية غير لغوية، فيصفّ كلماته ليصل إلى ما يريد ويرغب بإخبار القرّاء عنه، وهذا الاستخدام لا يمكن اعتباره أدبي . والاستخدام الثاني هو استخدام المؤلّف الذي يهتم باللغة كوسيلة بدلا من اهتنامه بالمعنى والغاية، أي أنه مشغول بالكلمات لا العالم، لا يبدأ من المعاني، إنما يتجه إليها.

إن فكرة المؤلف التي قال بها "المؤلف يفهم الأدب على أنه غاية، ويعيده العالم له على أنه وسيلة"، هو ما دفع بارت للحديث عن الأسلوب، فالكتابة تكون من الجسد أي الأساليب التي تميز كاتبا عن آخر، لا من الذهن[٩].

ميشيل فوكو

وهو فيلسوف فرنسي، كان مهتما بتاريخ الجنون وموضوعات مثل الإجرام والعقوبات والجنس والمهمّشين والمنبوذين، ولد عام 1926 وتوفي عام 1984 [١٠]، من أبرز أعلام البنيوية وما بعد البنيوية، اهتم كثيرا بمفهوم الخطاب والسلطة والأخلاق في كتابه نظام الخطاب الذي تسيطر عليه المؤسسات والمعارف العلمية بعد تعارف المجتمع عليه، ففلسفة فوكو في قراءة الخطاب قائمة على الإجابة عن بعض أسئلة فلسفة اللغة، ومجموعة من الأسئلة في الفلسفة المعرفية والسياسية والأخلاقية، فهو يرى أن الخطابات التي دارت حول الإنسان القديم في القرن التاسع عشر، أصبحت خطابا حول الإنسان بشكل تام بسبب العلاقة الوثيقة بين المعرفة والقوة، وبناء عليها قدم المعرفة الإنسانية في ضوء تحليلات حفرية وجينيالوجية وعلاقتها بالسلطة.

وفي دراسته للخطاب في البنيوية وما بعد البنيوية يسعى إلى تحليل السلطة ومن ثم تفكيكها، يثور فوكو في البنيوية وما بعد البنيوية على التقسيمات الكلاسيكية التي وضعتها الفلسفة الغربية، جاعلا من يمتلك المعرفة هو من يمتلك السلطة. وقد ركّز في نظريته للخطاب على دور المؤسسات التي تمتلك المعرفة في امتلاك السلطة، فهو في كتابه المراقبة والعقاب يدرس نظام السلطة، باعتبارها مؤسسة للضبط والتأديب ومؤسسة مهيكلة ومنظمة، وتعبيرا عن المجتمع الليبرالي، ويصل فيه أن الانطلاق التاريخي لهيمنة السلطة الليبرالية في الدولة بدأ من مراقبة الأجساد إلى مراقبة العقول والسلوكيات، ويدعو هنا إلى ضرور تخليص الإنسان من قوة الدولة المؤسسلتية، وتحرير الإنسان من السلطة المسيطرة على الأجساد والعقول، ويظهر من خلال أعمال فوكو في البنيوية وما بعد البنيوية أن فلسفته هي فلسفة السلطة التي تمتلك خطابا مهيمنا في عصر من العصور، ويسعى إلى هدمها وتفكيكها، والدفاع عن حرية الذات، وبالتالي فهو يعلن عن أن نظام الخطاب هو حقيقة العالم، وأن هذا الخطاب هو ما يجسد معاييره اليقينية الثابتة.

إن اهتمام فوكو بالخطاب، جاء رفضًا منه بالتقيد بالمناهج الجاهزة، واستعمال آلياتها المكررة، فالنص بالنسبة له منفتح ومتعدد الدلالات، ولا يمكن قراءته قراءة أحادية، وبالتالي فالخطاب ليس خطابا أحاديا، وتتعدد القراءات بتعدد النقاد من واحد إلى آخر، وهذا ما دفع إلى البحث عن هيمنة السلطة في خطابات مختلفة كالجنوسة والنظريات الجنسية والمهمش والمنبوذ. [١١]

ومن أهم الأفكار التي تناولها فوكو في البنيوية وما بعد البنيوية العلاقة بين اللغة والصورة، وهو يجعل لكل منهما عالمه المتمايز والمستقل عن الآخر، ولا يرى في أن لأحدهما أولوية على الآخر، ويوضح سبب عدم التواصل بينهما بأن اللغة لها الخاص بها، وهي تحيل إلى موضوع بعينة أو ظرف بعينه من خلال عباراتها، في حين أن الصورة مرئية، وليس لها معنى أبكما يخرج بالقوة إلى الفعل متجسدًا باللغة. وهو ينفي قدرة اللغة في أن تحُلَّ محلَّ الأشياء، والصورة كذلك لا يُمكن أن تحُلَّ محلَّ اللغة، وهذا ما يجعل العلاقة بين اللغة والصورة علاقة صراع وعراك بلين المشهد واللغة، يحدث داخل عملية التفكير ذاتها، وهذا ما يدفعه إلى الربط بين إشكالية النَّص والصورة وسلطة المعرفة، فالمعرفة يشدّها طرفان: الرؤية واللغة؛ وعملية التفكير في أصلها هي صراع وتوتر بين المشهد باللغة، والصور بالكلام، وما يحدث بينهما من فجوات تفصل الكلام عن الرؤية.

جاك لاكان

من أعلام البنيوية وما بعد البنيوية، ناقد ومحلل نفسي فرنسي، ولد عام 1901 وتوفي عام 1980، وانشغل لأربعين عاما بدراسة فرويد، ودراسة علم النفس البنيوي لديه، فقال وصف فرويد لنظام ما قبل الوعي يمكن أن يعاد صياغته باستعمال عدد من المفاهيم اللغوية المحدودة نسبيا فاعتبر اللاوعي في أعماله بنية لغوية، فهو يقول بأن التوترات والصراعات النفسية هي التي أسهمت في تكوين البنية اللغوية عند الإنسان، واللغة هي الوسيط الوحيد للتحليل النفسي، واللاوعي لا يتبدى إلا في شكل واسطته اللغوية، فاللغة لديه هي ما يخلق اللاوعي، التوسط اللغوي يمتد خلف الحوارات التحليلية، إذ إن الذات الإنسانية باكتسابها ملكة الكلام، تدمج نفسها في نظام رمزي، وتخضع رغبتها (الليبدو) إلى ضغوط ذلك النظام، وعندما تكتسب الذات اللغة، فإنها تخضع طاقاتها الغرائزية للتنظيم.

لقد عمل لاكان في البنيوية وما بعد البنيوية كثيرا من أجل إعادة تفسير مقولات فرويد حول الغريزة الجنسية، من جهة اللغة وعلاقة الدال بالمدلول عند سوسير، وذلك يبرز مشكلة الوضع الديق للمدلول ودوره، فالبحث عن المدلول بشكله الخالص والبحث عن بنى الفكر الأصلية التي لا ترتبط بكلمات هو أمر عبثي، فللغة دور كبير في تشكيل التفكير الإنساني، وبالتالي فإن الموضوع الذي يستحق الاهتمام من المحلل النفسي وعالم اللغة هو سلسلة الدلالة نفسها، والعلامات الملاحظة داخلها، فهي أفضل دليل على البنية النفسية، وبنية الذات الإنسانية. [١٢]

جاك دريدا

ناقد فرنسي، ومؤسس للتفكيكية وتفكيك الثقافة الغربية تشتيتا وتأجيلا، ولد عام 1930 وتوفي عام 2004، من أهم أعلام البنيوية وما بعد البنيوية [١٣]، ويضع جاك دريدا كل مسلمات الفلسفة الغربية موضع شكّ وسؤال؛ بدأ من البنية التي افترضت معها وجود مركز للمعنى يحكمها، ومن ثم التشكيك بالمبادئ المركزية في الفكر الغربي؛ مثل: الماهية والوجود، والحقيقة والجوهر، والبداية والنهاية، والإنسان والوعي من خلال الدخول بين أقطاب الأنساق الجتمعة، وعدم السماح لأي منها أن يكون مركزا.

ويذهب ديريدا في البنيوية وما بعد البنيوية إلى مركزية اللوغوس/الكلمة في الفكر الغربي، التي ترى في مركزية الصوت تغييبًا للكتابة، على اعتبار الكتابة شكلاً غير صافٍ من الكلام، وأن الكلام أقرب ما يكون إلى تجسيد الفكر الخالص، بوصفه حضورا يستلزم وجود الذات المتكلمة، وعلى هذا الأساس اهتمت الفلسفة الغربية بالكلام وهمّت الكتاب باعتماد هذه التراتبية. وهنا يقترح دريدا مفهوم التكملة الذي تحل فيه الكتابة محل الكلام على اعتبار أنه مكتوب، فتصبح الكتابة وما كان منها مقموعا ومخفيا مما أخفى الجانب الاختلافي منها هي أصل اللغة، بينما اللوغوس/الصوت ليس الأصل.

إن فكرة الخفاء في الفكر الغربي الما ورائي هي ما دعت دريدا في البنيوية وما بعد البنيوية إلى هدم الميتافيزيقيا عن كل فكرة ثابتة معزولة عن شرطها التاريخي، وساعدت على قيام الثنائيات المتعارضة وظهورها، ثم الانحياز لأحدها، ومن هنا تحتم زعزعة المثالية الدينية التي حاولت توحيد العالم حول مركز عقائدي واحد، وحقيقة واحدة لا نقاش فيها، وتفكيكها، والبحث عن التعدد والاختلاف داخلها وعن احتمالات المعاني المختلفة والمتناقضة، وهدم الحضور الأحادي والتعالي، واستدعاء أكثر من قراءة للنصوص الدينية والأدبية وغيرها قراءات متعددة، وفق مستويات متعددة.

يظهر هدف دريدا الأساسي في وضع فلسفة تتحدى الثابت والمحدود والنهائي والصريح في النصوص، بل ويتجاوز ذلك كله من تحدي معنى النص إلى تحدي مفهوم الحضور المرتبط بالتأويل، والذي يحتم وجود مدلول نهائي في النص، ذلك أن المدلول النهائي يأخذ شكل من أشكال الامتياز والفوقية وممارسة السلطة، ويحتم على باقي المعاني الأخرى، أو حتى قطب من أقطاب أي نسق ثنائي إلى التغييب والتهميش والدونية، وهنا لا بد من نفي صحة هذه التراتبية التي تصبح فيها الثنائيات والازدواجات ثنائيات أسطورية، يمكن أن يحل فيها أحدهما محل آخر مثل مركز/هامش. [١٤]

الأسس الفكرية لما بعد البنيوية

بعد أن اشتركت البنيوية وما بعد البنيوية في مجموعة من المنطلقات، جاءت ما بعد البنيوية للارتكاز على مجموعة من الأسس الفكرية التي طبقتها في الأدب والنقد والفن، وهذه الأسس[١١]:

  • الهدم وتفكيك المقولات المركزية الكبرى: أي تحطيم الأصول الفكرية المركزية للفكر الغربي، وتشتيتها وتفكيكها، لكشف الإيديولوجيات السائدة البالية والمتآلة والمنهارة وذلك باستخدام لغة الاختلاف والتضاد والتناقض. كما عمدت إلى هدم المقولات المركزية الكبرى، والثنائيات المركز كالدال والمدول، والحضور والغياب، واللسان والكلام، بالاضافة إلى انتقادهم للفلسفة الجوهرية، ومفاهيم مقل الحقيقة، والعقل، والهوية، والوجود، والهوية، من خلال ما مارسوه من تشريح، وهدم، وتأجيل، وتفكيك، وتشتيت.
  • التشكيك: أي عدم التسليم بالمعارف اليقينية والتشكيك الدائم بها، وانتقاد المؤسسات الثقافية التي تملك الخطاب والسلطة والمعرفة والسلطة، وبالتالي التشكيك في الفلسفة العقلية. وهذا ما دفعها إلى القول بقوة التحرر، التي هدفت من خلالها إلى تحرير الإنسان من قهر المؤسسات التي تملك الخطاب والسلطة، وتحرره من الأيديولوجيات الواهمة، ومن الفلسفة المركزية، وإحاطته بالهامش، واليومي، والعرضي، والشعبي.
  • الفلسفة العدمية: ففلسفات ما بعد البنيوية هي فلسفات عدمية وفوضوية، تعمد بشكل أساسي على تغييب المعنى، وهدم العقل والمنطق والنظام والانسجام، دون أن تقدم بديلا نفعيا، مما جعلها فلسفات عبثية تنشر اليأس والفوضى في المجتمع.
  • التفكيك واللاانسجام: تسعى ما بعد البنيوية إلى هدم النظام والانسجام الذي نادت به البنيوية، وتفكيكه بشكل دائم، وتعارض مفهوم الكلية في البنيوية، وديدنها البحث عن الاختلاف والتنوع والتعددية واللانظام، وتشتيت المعنى وتغييبه كما في التفكيكية عند دريدا.
  • هيمنة الصورة وما فوق الحقيقة: إذ أصبحت الصورة البصرية بسبب التطور الإعلامي فيما بعد الحداثة علامة سيميائية فيما بعد النيوية، بل أصبحت الصورة هي المحرك الرئيس للوصول إلى المعرفة بعد اللغة وتعرف الحقيقة. بل وجعلوا من أخطاء اللغة سببا لغياب الحقيقة، والحقيقة تكم مفي الإعلام الذي يستعمل لغة الخداد والتضليل، وبذلك أنكروا كل حقيقة يقينية ثابتة.
  • الغرابة والغموض والدلالات العائمة: فقد تميّزت ما بعد البنيوية بالغموض في الأفكار والمواقف، فتفكيكية جاك ديريدا ما زالت غامضة لا يمكن فهمها واستيعابها وتمثلها. كما أن دلالت النصوص فيها غير محددة، ولا يمكن الإمساك بمدلول أو معنى واحد لها.
  • التناص: والتناص هو استحضار نصوص أخرى في نص المؤلف بطريقة واعية أو غير واعية. فأي نص يتفاعل مع نصوص أخرى ويتداخل معها امتصاصا وتقليدا وحوارا، مما يدل على التعددية، ورواسب الذاكرة، والمعرفة الخلفية. وقد ارتبط التناص نظريا مع النقد الحواري لدى ميخائيل باختين.
  • الانفتاح: فقد اتخذت ما بعد البنيوية الانفتاح الإيجابي التعددي وسيلة للتفاعل والتعايش والتفاهم والتسامح.
  • إعادة الاعتبار للسياق والنص الموازي: وذلك من خلال إعادتها الاعتبار للمؤلف والقارىء، وإحالة النصوص للمرجع الخارجي كما في نظرية التأويلية، ونظريات أخرى مثل المادية الثقافية، والنقد الثقافي، وجماليات التلقي، ونظرية ما بعد الاستعمار، والتاريخانية الجديدة.
  • تحطيم الحدود بين الأجناس الأدبية والتخلص من المعايير والقواعد:فما بعد البنيوية لا تعترف بالفوارق والحدود بين الأجناس الأدبية، وبذلك حطمت قواعد التجنيس الأدبي، وهزأت من نظرية الأدب. كما أنها تحطّم القواعد المنهجية، وتسخر من كل من يحلل الخطاب باعتماد قواعد منهجية للجنس الأدبي أو المعنى أو تحليل النص الأدبي، إذ لا يوجد هناك إلا المختلف والمتناقض.

المراجع

  1. "المنهج البنيوي"، www.uobabylon.edu.iq، اطّلع عليه بتاريخ 15-6-2019. بتصرّف.
  2. ^ أ ب ت "البنيوية: عوامل النشأة وأسباب التقوض"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 15-6-2019. بتصرّف.
  3. "بنيوية"، www.wikiwand.com، اطّلع عليه بتاريخ 15-6-2019. بتصرّف.
  4. ^ أ ب "ما بعد البنيوية"، www.wikiwand.com، اطّلع عليه بتاريخ 15-6-2019. بتصرّف.
  5. "كلود ليفي شتراوس"، www.abjjad.com، اطّلع عليه بتاريخ 15-6-2019. بتصرّف.
  6. جون ستروك، ترجمة: محمد عصفور، "البنيوية وما بعدها: من ليفي شتراوس إلى دريدا"، عالم المعرفة، العدد 206، صفحة 68-71. بتصرّف.
  7. "رولان بارت"، www.marefa.org، اطّلع عليه بتاريخ 15-6-2019. بتصرّف.
  8. "من ترهات النقد الحداثي الغربي"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 15-6-2019. بتصرّف.
  9. جون ستروك، ترجمة محمد عصفور، "البنيوية وما بعدها: من ليفي شتراوس إلى دريدا"، عالم المعرفة، العدد 206، صفحة 76-96. بتصرّف.
  10. "ميشيل فوكو"، www.marefa.org، اطّلع عليه بتاريخ 15-6-2019. بتصرّف.
  11. ^ أ ب "مدخل إلى مفهوم ما بعد الحداثة"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 15-6-2019. بتصرّف.
  12. جون ستروك، ترجمة: محمد عصفور، "البنيوية وما بعدها: من ليفي شتراوس إلى دريدا"، عالم المعرفة، العدد 206، صفحة 171-174. بتصرّف.
  13. "جاك دريدا"، www.marefa.org، اطّلع عليه بتاريخ 15-6-2019. بتصرّف.
  14. "تفكيكية دريدا والاحتفاء بالاعتبارات الهامشية"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 15-6-2019. بتصرّف.
4590 مشاهدة
للأعلى للسفل
×