نص وصفي عن الأم

كتابة:
نص وصفي عن الأم

كيف تختصر العالم فيها

ليس من المجاز أن نقول إنَّ الأم هي العالم بصورته البسيطة المجرَّدة من أيِّ تعقيد، بل إنَّها حقيقةٌ واضحةٌ لا مراء فيها ولا شكَّ في جوهرها، وليست هذه الحقيقة وليدة فكرة التَّكاثر التي تقوم على عاتق المرأة وجهدها الجسدي أكثر مما تقوم على عاتق الرَّجل، بل إنَّها فوق هذا وليدة الفطرة البشرية التي تحمِّل المرأة عبء النُّهوض بالمجتمع ابتداءً من وحدته الصغيرة التي تتمثل بالأسرة، فإنَّ البيت لا يقوم بلا قلب أم وإن الأطفال لا ينبتون نباتًا حسنًا إلا في تربتها الخصبة وريِّها ونور شمسها وفيء ظلِّها، ليرعاهم كلَّ ذلك حتى يزهروا ويثمروا وينفعوا في الأرض، فإنَّ الأم إن فسدت فسد الأولاد من بعدها.


لا تقتصر مسؤولية الأم على كونها المربية والقائمة على أمر الأطفال في الملبس والمأكل والمشرب والمنامة والصحوة، بل إنَّ نجاح الأم لا يكتمل ما لم تروِ قلوب أبنائها وتغذي عقولهم أيضًا، فإنَّ غذاء الروح وقوت القلب هما الأساس في صلاح الإنسان أو فساده، وهما الحكم ولهما فصل القول في مصائر الناس التي تقود بدورها مصير العالم بأجمعه، وإنَّ الإنسان لا قيمة له ما لم يكن مؤثرًا في البشرية، فإن لم تنجب الأم فردًا نافعًا وفاعلاً في المجتمع فكأنَّها لم تنجب، كالذي يزرع في أرضٍ قاحلة وينتظر الحصاد، فلا هو جانٍ حصاده ولا هو انتفع بالبذرة التي بذرها.


وبهذا يكون كلُّ عطاءٍ للأم عطاءً للعالم، فإذا سهرت ليلةً في راحة ابنها كأنَّها تسهر لتريح العالم، وإن أعطت من صحَّتها وعافيتها له فكأنَّها تدَّخرهما للدنيا كلِّها، وإن ضحَّت في سبيل هذا الفرد فهي تضحي بذلك للجماعة كلِّها وإن لم تكن تدرك ذلك، فهي كالعصفور الَّذي يحلق في السماء فيزينها دون أن يشعر، وهي الوردة التي تزهر فتضفي البهجة على المكان بغير قصد، وهي اللحن البديع الذي يطرب الآذان في تناسق نغماته ورقتها إلَّا أنَّه ليس إلّا أوتارًا تهزها أنامل العطف والحنو دون سلَّمٍ موسيقيٍّ ولا نوتة، فالحب فيها فطرةٌ والعطاء عندها طبعٌ وبذرة.

إذا أحسنت سقيها أجادت السقيا

وأصل الأم طفلة، تكبر في حضن أمٍّ أولى لتصير أمًّا ثانيةً تحمل الكون الكبير في طفلها الصَّغير، لذلك كان أساس صلاح الأمومة في صلاح طفولتها، فمن لم تلق الحنان لن تعطيه، ومن لم تذق العطف لن تسقيه، ولا يخرج من هذا إلا استثناءات قليلة تساعدها الظروف لتعي مسؤولية الأمومة وقداسة مهمة الأم، وقد تحدث الشعراء والأدباء والعلماء عن أهمية دور الأم وقيمتها، فوضعوا مسؤولية بناء المجتمع على عاتقها، لكنهم في المقابل وضعوا مسؤولية صلاحها على عاتق المجتمع بأكمله، وفي ذلك أقوال كثيرة، منها قصيدة للشاعر حافظ إبراهيم ومما جاء فيها:[١]

الأمُّ مدرسةٌ إذا أعددتَها

أعددتَ شعبًا طيِّبَ الأعراقِ


وهذا التأثير المتوارث في الأم لا ينتقل بفعل التربية فقط، بل إن علم الوراثة يقر بانتقال الطباع من جيل إلى جيل، وكما يثبت تأثير الجينات في تكوين الفرد النفسي الذي يتأثر أيضًا بالوسط الاجتماعي والتربية والتعليم، ليكون كل ذلك حصيلة تخرج الأم بصورتها التي هي عليها، فإن توفر لها كلّ ذلك أو جلّه فحقَّ لنا أن نحمِّلها مسؤولياتها، فطالما أنَّها فلَّة الدَّار وريحانته فمن حقِّها أن تُسقى لتزهر وأن ترعى لتفوح طيبًا في المكان، فإنَّ الأمومة اسمٌ مكتوبٌ بالحب ومنه يولد وبه يكبر وبه يعود ليس على الأبناء فقط بل على الناس كافة.

لكل أم قنديلها الذي يضيء

كيفما كانت أحوال الأم من فقرٍ أو غنى، ومهما كانت شكل الحياة التي تعيشها، فإنَّها لا بدَّ تجد طريقتها في الحب وطريقها الَّتي تسلك للتَّعبير عن هذه العاطفة والقيام بهذه المسؤولية العظيمة والجليلة، فلو ضاقت الحال بالأسرة وسعتها الأم بالصبر والتدبير والخبرة، ولو قلَّت المؤن في البيت باركتها الأم بدرايتها وحسن إدارتها، وإن الأسرة غنيَّةٌ بالأم وإن افتقرت وفقيرة دونها مهما اغتنت وأثرت، فالأم ثروة كلِّ بيت وواسطة عقده التي تحمل أثمن الجواهر، وهي الغطاء في البرد والهواء العليل في الحر، وبها تُزيّن الموائد وبلمساتها تسكن القلوب، كأنَّها ترياقُ العليل من كلِّ داءٍ ومستراح المنهك من كلِّ تعبٍ وملجأ التائه من كلِّ ضياع.


قد تحب الأم إذ تقسو على أبنائها فتكون القسوة سرَّ أمومتها وذروة حبِّها لهم، وقد تحنو وقد تلين فتضيعهم بذلك، فليس الحب أن أعطيك ما تريد بل ما يجب أن أعطيك إياه، وكثيرًا ما يكون المنع هو العطاء والعطاء هو المنع، وقد تصب زيت القنديل خارجه فتهدره دون أن يضيء وقد تقطر الزيت قطرًا فتبقي على الضوء وقتا أطول، والأم هي أول يد تضيء القنديل ومن بعدها يبقى للإنسان نفسه فقط يحاول أن يستوحي من تلك اليد الأولى أساليب العيش وسبل النور التي تبقى راسخةً في وجدانه إلى أن ينطفئ قنديله وتنتهي حياته ليظل هذا النور في أبنائه من بعده.


الأم جوهرةٌ تفسدها المقارنات والمفاضلات التي يلجأ إليها الأبناء، فيرون في آباء الآخرين ما لا يرونه في آبائهم، ويتحسّسون حنانًا في أمهات الآخرين غير حنان أمهاتهم، وهذه المقارنات لا تجوز في حال من الأحوال، فالناس طبائع ومن الظلم أن نقارنهم ببعضهم البعض، ولا شكّ أنّ بين البشر تفاضلًا وتمايزًا يرفع بعضهم على بعض، إلّا أنّ نبل الأمومة أسمى من أن يُقاس بالبشر، فهي شرف يرفع صاحبه وإن كان دنيئًا، وهي حظوة لكل أم مهما صغر مقامها بين الناس، فإن لم يكن للمرأة من ميزة تنماز بها عمن سواها فيكفيها من الدنيا أنها لولاها لما كانت الحياة هي الحياة التي نعرف.



لقراءة المزيد من الموضوعات، انظر هنا: نص أدبي عن الأم.

المراجع

  1. "كم ذا يكابد عاشق ويلاقي"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 06/03/2021م. بتصرّف.
7760 مشاهدة
للأعلى للسفل
×