الشعر في العصر الجاهلي

كتابة:
الشعر في العصر الجاهلي

تعريف الشعر الجاهلي

ما هي دلالة مسمَّى الشِّعر الجاهليّ؟

يمثِّل الشِّعر في العصر الجاهليّ نمطًا من أنماط الفنِّ التَّعبيريّ، اتَّسم بسماتٍ خاصَّةٍ ميَّزته عن سواه من حيث الشَّكل والأسلوب والرُّؤية، وسمِّي الشِّعر ما قبل الإسلام بالشِّعر الجاهلي لأنَّه يعبِّر عن أفكار الإنسان ما قبل الإسلام ومواقفه من الحياة ورؤيته للكون والوجود، ولا يقتصر هذا على الموقف الدِّينيِّ فقط بل على المناحي السِّياسيَّة والاجتماعيَّة والفلسفيَّة أيضًا، والقصيدة الجاهليَّة هي كلُّ قصيدةٍ كتبت قبل الإسلام، ويمكن تعريفها بأنَّها: التَّعبير الشِّعري عن رؤى ومواقف جاهليَّة باستخدام أدواتٍ تركيبيَّةٍ وبلاغيَّةٍ وإيقاعيَّةٍ ذات صبغةٍ جاهليَّة.[١]


يشكِّل هذا الشِّعر مرآةً للمجتمع العربيّ، بما ينقله من صورٍ دقيقةٍ للعادات والتَّقاليد العربيَّة، بالإضافة إلى ما يتمتَّع به من غنىً فنيّ لما فيه من قيمةٍ فنيَّةٍ وجمالٍ في الصُّور والمعاني الموحية، مما يجعله يجسِّد ذروة الشِّعر العربيّ، وقد تبوَّأ الشُّعراء في ذلك الحين مكانةً مرموقةً عالية بين النَّاس، فقد كانوا ألسنة لقبائلهم، والنَّاطقين الرَّسميين بأسمائهم في المحافل، فهم من يرفعون شأنها وينشرون فضائلها ويدافعون عنها في الخصومات.[٢]


نشأة الشعر الجاهلي

ما هي البوادر الأولى لكتابة الشِّعر في الجاهليَّة؟

فقد كشف الشِّعر الجاهليّ عن مظهرٍ حضاريٍّ ارتبط بحياة العرب الفكريَّة قبل الإسلام، حيث كشف عن معرفة العرب للكتابة الَّتي نقلها إلى قريش أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة، أو حرب بن أميَّة على اختلاف الرِّواية حول ذلك، وقد انتشرت الكتابة في مكَّة دون غيرها لكونها مركزًا تجاريًّا وحضاريًّا يرد إليه النَّاس من القبائل الأخرى.[٣]


أوَّل من سلك مسلك الشِّعر وسهَّل الطَّريق إليه -حسب رواية الجاحظ- هما امرؤ القيس بن حجر ومهلهل بن ربيعة، وإذا قيست المدَّة الَّتي ظهر فيها الشِّعر وجدناها تقدَّر بمئةٍ وخمسين إلى مئتي عامٍ قبل الإسلام، وهذا التَّّقدير لعمر الشِّعر تقدير حسابيّ بحت قد لا يكون دقيقًا كفاية، فمن غير الممكن أن يكون امرؤ القيس والمهلهل قد ابتدعا الأوزان الشِّعريَّة والقوافي دون أن يسبقهما إليها أحدٌ بأشعارٍ فتحت قرائحهم إلى سواها، فإنَّ حساب الجاحظ ذاك يسقط على ما وصل إلينا من أشعار المهلهل وامرئ القيس ولا يُسقط على عمر الشِّعر عامَّة، ويمكن الاستدلال بما جاء به الجاحظ إلى أنَّ امرأ القيس والمهلهل هما من أقدم شعراء الجاهليَّة.[٤]


يذكر ابن سلَّام في كتابه "طبقات فحول الشُّعراء" أنَّ العرب ابتدأت الشِّعر بأبياتٍ قصار يقولها واحدهم عند الحاجة، ثمَّ طوَّلت القصائد فيما بعد في عهد عبد المطَّلب وهاشم بن عبد مناف، كما يذكر أنَّ أوَّل من قصد القصائد وذكر الوقائع هو المهلهل بن ربيعة التَّغلبيّ، ثمّ جاء من بعده امرؤ القيس وقد سبق العرب إلى أشياء في الشِّعر لم تكن فيه وابتدعها فاستحسنوها من بعده وتبعوه.[٥]


موضوعات الشعر الجاهلي

ما الأفكار التي طرحها الشِّعر الجاهليّ؟

تحدث قدامة بن جعفر في كتابه "نقد الشعر" عن موضوعات الشِّعر الجاهليّ وأجملها في ستَّة موضوعات، من رثاءٍ وهجاءٍ ومديحٍ ووصفٍ ونسيبٍ وتشبيه، وقسَّم هذه الموضوعات السِّتَّة إلى بابين اثنين هما المدح الَّذي يضم الفخر والرِّثاء والشُّكر والنَّسيب، والهجاء الَّذي يضم الذَّم والتَّأنيب والاستبطاء والعتاب، ويضيف إليهما بابًا ثالثًا في الشِّعر هو الحكمة وما يندرج ضمنها من زهدٍ ومواعظَ وأمثال، ويقابلها اللَّهو بما فيه من موضوعات الغزل والمجون.[٦]


بينما يعدِّد ابن رشيق موضوعات الشِّعر في كتابه "العمدة" ضمن تسعة محاور تدور حولها، وهي المديح والافتخار والرِّثاء والنَّسيب والاقتضاء والاستنجاز والهجاء والوعيد والإنذار والعتاب والاعتذار، وهو ليس دقيقًا كفاية في هذا التّعداد خاصَّة وأنَّه قد أهمل ذكر الوصف وهو عنصرٌ أساسيٌّ في الشِّعر عامَّة والجاهليّ خاصَّةً، بينما يحصر أبو هلال العسكريّ أقسام الشِّعر في الجاهليَّة في خمسة موضوعاتٍ هي: الهجاء والوصف والمديح والتَّشبيه والمراثي، وقد زاد النَّابغة عليها الاعتذار، ويضاف إلى هذا التَّقسيم المذكور موضوع آخر هو الحماسة، فقد كان منتشرًا في الشِّعر الجاهليّ أكثر من سواه.[٦]


لا يمكن استقصاء التَّرتيب الزَّمني الدَّقيق لهذه الموضوعات، ولا يمكن معرفة كيفية البدء في تداولها على وجه الدِّقة، فقد تطوَّرت هذه الموضوعات عن صيغتها الأولى، وأغلب الظَّن أنَّها تحوَّلت من أدعية للآلهة وتعويذات من الكهنة وابتهالات فصارت قصائد واتسعت موضوعاتها وتحوَّلت إلى شكلها المعروف بالنِّسبة إلينا، وربَّما ظلَّت هذه الصِّلة القديمة بين الشِّعر والتَّعاويذ لصيقةً بشعراء العصر الجاهليّ حيث كان بعضهم يدَّعي أنَّ له تابعًا من الجن، وكانت بعض الأساطير تقول إنَّ لكلِّ شاعرٍ شيطان، ومما يؤكِّد ذلك اتهام الرَّسول الكريم محمَّد -صلَّى الله عليه وسلَّم- بالشِّعر والسِّحر حين أتى برسالة الإسلام، مما يؤكِّد ارتباط الشِّعر لديهم بالسِّحر والتَّعاويذ.[٧]


خصائص الشعر الجاهلي

ما المزايا الَّتي تفرَّد بها الشِّعر الجاهليّ؟

اتَّسم الشِّعر العربيّ في العصر الجاهليّ بسماتٍ ميَّزته عن سواه من حيث المعاني والألفاظ، حيث يلاحظ في بنية القصيدة الجاهليَّة:


  • وضوح المعاني وبساطتها وبعدها عن التَّكلف والخيال: فالشَّاعر الجاهليّ لم يعرف الغلو والمبالغة، ويعود هذا الوضوح والبساطة إلى رغبة الشَّاعر في نقل أحاسيسه ووصفه للأشياء نقلاً واقعيًّا، مما جعل الشِّعر الجاهليّ وثيقةً تاريخيَّةً لمعرفة الحياة في ذلك العصر.[٨]


  • تقديم المعاني الذِّهنيَّة في قالبٍ محسوس: حتى يغدو المعنويُّ ماديًّا ملموسًا للمتلقِّي لا غموض فيه ولا وجود للخيال إلَّا قليلاً. مما جعله بعيدًا عن التَّحليل، فهو يغذِّي خياله بالعالم الحسِّي الَّذي يحيط به، مما يجعله دقيقًا في وصفه وكأنَّه نحَّاتٌ يشرف على تمثاله بكلِّ عناية.[٩]


  • الدوران حول معانٍ واحدةٍ: حيث يشتركون في طرائق وصف النَّاقة وبكاء الدِّيار ومعاني الحماسة والغزل والرِّثاء وغيرها، فنرى في قصائدهم تقليدًا واضحًا سببه ضيق المعاني، إلَّا أنَّهم قدَّموها في قالبٍ حيويٍّ فيه الكثير من الحركة التي تشبه نمط حياتهم.[١٠]


  • السُّرعة في تناول المعنى: مما جعل واحدهم لا يقف على معنىً واحدٍ طويلاً، وهو ما جعل الأبيات الشِّعريَّة الجاهليَّة تتَّسم باستقلاليَّة كلٍّ منها، فنجد البيت الشِّعري وحدةً معنويَّةً مستقلَّةً بذاتها فاتَّسعت القصيدة الطَّويلة إلى عدَّة موضوعات مختلفةٍ مما ألبس أشعارهم طابعًا قصصيًّا.[١١]

[١٢]

  • متانة السبك ووضوح التراكيب: وهي من الخصائص اللَّفظيَّة للشِّعر الجاهلي إلَّا أنَّ الشُّعراء كرَّروا ألفاظهم وأعادوا استعمالها فيما بينهم كما كانوا يكرِّرون التَّصريع في القصيدة الواحدة، إلَّا أنَّ ذلك لم يمنعهم من إحكام القصيدة وضبط صيغتها، كما استعانوا بالمحسِّنات اللَّفظيَّة والمعنويَّة والاستعارات والتَّشابيه.[١٢]


لقراءة المزيد حول الخصائص، ننصحك بالاطّلاع على هذا المقال: ما هي خصائص الشعر الجاهلي.


أغراض الشعر الجاهلي

ما هي الغايات التي قصدها شعراء العصر الجاهلي؟

رصد الشَّاعر الجاهليّ الَّنفس البشريَّة وانفعالاتها في جميع الظُّروف، فكان شعره بجملته مجموعةً من العواطف والانفعالات ضمَّت جميع الموضوعات الَّتي احتواها الشِّعر الغنائيّ. فنجد فيه:


  • الوصف للطَّبيعة الصَّامتة والمتحرِّكة: وكلّ ما فيها من حيوانٍ وجمادٍ ومظاهرٍ أخرى من رياحٍ وسحابٍ وأمطار. فقد ضمَّن شعره جميع ظواهر الحياة، فوصف ديار الحبيبة وآثار الدِّيار ورحلة الصَّحراء والحيوان والمرأة والطَّريق وغير ذلك من دقائق.[١٣]


  • الفخر: وهو عنصرٌ أساسيٌّ ويتضمَّن فخر الشَّاعر بنفسه وفخره بقبيلته، ومنه التَّغني بالبطولة وكثرة الإغارة والحروب والقوة وعدد المقاتلين والخيل وكثرة الغنائم، وغيرها من صفاتٍ شخصيَّةٍ كالكرم وأصالة الرَّأي وكمال العقل.[١٤]


  • الهجاء: للخصوم فيعدِّدون نقائص الخصم ويذكرون مخازيه ويلصقون بهم قبيح الصِّفات والعادات ويجرِّدوه من المآثر، فينعتون العدوَّ بالجبن والضّعف وضعة الأصل ونكران الجميل واللُّؤم وغير ذلك من المساوئ.[١٥]


  • المديح: واختلفت الأهداف المنشودة من هذا المديح، فمنه ما كان إعجابًا بعملٍ جليل، أو إكبارًا لشخصٍ ما، أو رغبةً في العطايا وكسب المال من الممدوحين، وقد يكون المديح اعترافًا بجميل أسداه الممدوح إلى المادح.[١٦]
  • الرِّثاء: حيث كان تخفيفًا لآلامهم ولفجيعتهم في الفقد، فكانوا يذكرون مناقب الميِّت ويبثُّون ما في صدورهم من حزنٍ وأسى ويعدِّدون ما كان في ميِّتهم من خصالٍ حميدةٍ وصفاتٍ كان العربيُّ يمتدح بها، ومن أشهر شعراء المدح في العصر الجاهلي زهير بن أبي سلمى والنابغة والأعشى.[١٦]


  • الاعتذار: وهو قليلٌ في شعرهم، وكان تعبيرًا عن النَّدم أو طلبًا لإصلاح الأمور، وكان ممن عرف بالاعتذار من الشُّعراء النَّابغة الذُّبياني، ولم يكن غرضًا شائعًا حينها.[١٧]
  • الغزل: كان مطروقا من جميع الشُّعراء، حيث كانوا يحلُّون قصائدهم به، فبدأوا به مطالع قصائدهم، حيث كانت المقدمات الغزلية للقصائد كالمقدمات الموسيقية للأغاني، وهو ما يظهر فيما وصلنا من الشِّعر الجاهليّ في الحب وغيره مما استفتحوه بالغزل.[١٧]


لقراءة المزيد حول أغراض الشعر الجاهليّ، ننصحك بالاطّلاع على هذا المقال: أغراض الشعر الجاهلي.


فن المعلقات الجاهلية

ما هي قصائد المعلَّقات وما عددها؟

كان حمَّاد الرَّاوية من كبار حفظة الشِّعر ممَّن عرف عنهم ضخامة المخزون الَّذي يحفظه من شعر الأقدمين، وكان الملوك يبعثون وراءه ليروي لهم مما يحفظ فسمِّي بالرَّاوية، ويقال إنَّه أوَّل من دوَّن الشِّعر، فجمع القصائد الجاهليَّة المشهورة وسمَّاها "المعلَّقات" أو "السُّموط"، وثمَّة اختلاف في عدد تلك المعلَّقات، فمنهم من يذكر أنَّها خمسٌ وآخر يقول إنَّها سبعٌ وغيرهم ممن يقول إنَّها عشرٌ، وقد جمع حمَّاد الرَّاوية خمسًا منها، وهي معلَّقات امرئ القيس وطرفة بن العبد ولبيد وزهير بن أبي سلمى وعمرو بن كلثوم.[١٨]


أمَّا المعلَّقتان الأخريان اللَّتان لم يذكرهما حمَّاد فهما لعنترة والحارث بن حلزة، ومنهم من قال إنَّهما قصيدتا النَّابغة الذُّبيانيّ والأعشى، بالإضافة إلى قصيدة عبيد الأبرص، وقد لقيت هذه المعلَّقات من اهتمام الدَّارسين ما لم تنله غيرها من القصائد، ولعلَّ أهم الشُّروح الَّتي تناولت هذه المعلَّقات هي شروح الحسين بن أحمد الزَّوزني، وأبي بكر الأنباريّ، ويحيى بن علي التَّبريزي.[١٩]


لقراءة المزيد عن فنّ المعلقات، ننصحك بالاطّلاع على هذا المقال: المعلقات العشر.


شعر الصعاليك

ما هي مزايا الصعلوك؟

إذا أردنا تعريف شعر الصَّعاليك، فعلينا التَّعريف بالشُّعراء الصَّعاليك، وهم فئةٌ من الفقراء لهم طريقتهم الخاصَّة في الحياة، وسلوكٌ معيَّنٌ وسماتٌ خاصَّةٌ كالأنفة والإباء والترفع عن الصَّغائر، وقد كانت حياتهم تعتمد على القوَّة والبطش وخفَّة الحركة والسُّرعة في الجري والسَّلب والنَّهب والفتك بالعدو، بالإضافة إلى أعمال البرِّ والاهتمام بالضُّعفاء والمحتاجين، وهذه فلسفتهم الخاصَّة في الحياة نقلوها في أشعارهم، ومن ذلك قول أحدهم وهو عروة بن الورد:[٢٠]

لَحَى اللهُ صعلوكًا إذا جنَّ ليله

مَضَى في المشاشِ آلفًا كلَّ مجزرِ

يعدُّ الغنى من دهرِه كلَّ ليلةٍ

أصابَ قراها من صديقٍ ميسَّرِ

قليل التماسِ المالِ إلَّا لنفسِه

إذا هو أَضحَى كالعريشِ المُحوَّرِ


قد عُرِفَ عن الصَّعاليك بسرعة الجري والعراك العنيف وانتهاز الفرص مع تمسُّكهم بسمات البطولة والشَّهامة، ومن ذلك قول تأبَّط شرًّا يصف سرعته في الجري:

لا شيءَ أسرعَ منِّي ليسَ ذا عذرٍ

وذا جناحٍ بجنبِ الرِّيد خفَّاق


ويقول الشَّنفرى الأزدي واصفًا سياسة الصَّعاليك وحياتهم:

وأمُّ عيالٍ قد شهدتُ تقوتُهم

إذا أطعمتْهم أوتحتْ وأقلَّتِ

تخافُ علينا العيلَ إنْ هي أكثرتْ

ونحنُ جياعٌ أيُّ آلٍ تألَّتِ

وما إنْ بها ضنٌّ بما في وعائِها

ولكنَّها من خيفةِ الجوعِ أبقتِ

فهو يصف حياة الجوع الَّتي يعيشها الصُّعلوك، وكيف كان ولي أمرهم يقتِّر الطَّعام عليهم خشيةً عليهم من افتقاد الطَّعام فيما بعد.[٢١]


لقراءة المزيد حول شعر الصعاليك، ننصحك بالاطّلاع على هذا المقال: خصائص شعر الصعاليك.


قضية الانتحال في الشعر الجاهلي

كيف عالج النَّقد القديم قضيَّة الانتحال؟

الشك في الأدب القديم مسألة منتشرة عند سائر الأمم لا تقتصر على الأدب العربي فقط، ولم تكن مسألة الانتحال أو الوضع مقصورة على الشعر فقط بل ضمت كل نواحي الأدب وضروبه، وقد كان الشعر عرضة للنحل من أيام الجاهلية وأول عهد الإسلام في الأرض، وفيما وصلنا من أخبار أدلة واضحة على ذلك منذ القدم.[٢٢]


قد تنبه الرواة والعلماء القدماء إلى هذا الأمر، فذكروه في أخبارهم وعالجوا قضيَّة الشَّك في الشِّعر الجاهليّ، ومن ذلك ما ورد على لسان الأصمعيّ، ومن تلك الأخبار قوله: "أقمتُ بالمدينة زمانًا ما رأيت بها قصيدةً صحيحةً إلا مصحَّفة أو مصنوعة"، كما يذكر في موضعٍ آخر أنَّ كثيرًا من شعر امرئ القيس ليس له بل لصعاليكٍ كانوا معه، والأخبار الواردة في هذا كثيرةٌ، منها ما ورد على لسان أبي عمرو الشَّيباني مشكِّكًا في مطلع معلقة عنترة ونسبتها إليه، وغيرها آراءٌ أخرى يوردها أبو عمرو بن العلاء حول بعض القصائد.[٢٣]


كان للمحدثين من المستشرقين آراء في قضيَّة النحل في الشعر الجاهلي، لعل أبرزها رأي مرجوليوث الذي نشر مقالةً كاملةً تتناول هذا الموضوع، حيث قال إنَّ الشِّعر الَّذي نقرأه مما يحسب على الشِّعر الجاهليّ هو شعرٌ نظم في العصور الإسلاميَّة لكنَّ الواضعين نحلوه لشعراء جاهليين، فقد شكَّك بالأخبار الَّتي تقول إنَّ الشِّعر العربيّ بدأ قبل الإسلام بأجيالٍ قليلة.[٢٤]


أمَّا المحدثون من العرب، فقد كان أوَّل من فتح هذا الباب من العرب المحدثين هو مصطفى صادق الرَّافعي في كتاب "تاريخ آداب العرب" وفيه يذكر ما أورده المؤلِّفون القدماء، واكتفى في كتابه هذا بالِّرواية والسَّرد عن القدماء، فدار في فلكهم وسرد ما جاء في كتبهم من أحاديث، أمَّا الدكتور طه حسين فقد كان أبرز الباحثين في هذا الشَّأن من المحدثين، فقد ولَّد جديدًا في ذلك على ما قدَّمه القدماء، ففتح سبيلاً جديدًا لم يسبقه إليه أحدٌ في هذا الباب وتبع مرجوليوث في المنهج والبحث والاستقصاء والرأي وأضاف عليها جميعًا من خلاصة بحثه ورؤيته في عدة مؤلفات له كانت من أفضل كتب الشِّعر الجاهليّ.[٢٥]


أهم شعراء العصر الجاهلي

من هم كبار شعراء الجاهلية؟

كان الشِّعر في العصر الجاهلي قاعدة بنى عليها الشُّعراء من بعده، ومن أبرز أشعراء ذلك العصر ما يأتي:

امرؤ القيس بن حجر

وهو من قبيلة كندة، وهي قبيلةٌ يمنيَّةٌ. طبع ديوانه مرارًا، وقد شكَّ الكثيرون في أشعاره وذلك لبعد عهده عن عهد التَّدوين ولوجود الكثير من الشُّعراء في عهده ممَّن تسمُّوا باسمه فتداخل شعرهم جميعًا مع بعضه، وقد أنكر الكثير من شعره فلم يبق منه إلَّا القليل مما ينقسم في موضوعاته إلى قسمين أوَّلهما قبل مقتل أبيه والثَّاني بعده، ولعلَّ أشهر أبياته مطلع معلَّقته الَّتي يقول فيها:[٢٦]

قِفَا نبكِ مِنْ ذِكرَى حبيبٍ ومنزلِ

بسقطِ اللِّوى بينَ الدَّخُولِ فحوملِ


زهير بن أبي سلمى

من أبرز شعراء الجاهليَّة، وهو أحد شعراء المعلَّقات، وهو ربيعة بن رياح المزنيّ نسبةً إلى قبيلة مزينة، لكنَّه نشأ وتربَّى في غطفان، ولم تكن حياته مستقرَّةً فقد عاش حروب داحس والغبراء، وجمعت أشعاره في ديوانٍ طبع عدَّة طبعات، وفي أشعاره عنايةٌ في التَّنقيح لم تكن في سواه من الشُّعراء، فقد عاش للشِّعر يرويه ويعلِّمه، وقد تأثَّر في شعره بأشعار أوس بن حجر زوج أمِّه من حيث الصَّنعة الفنيَّة ومعالجة الموضوعات، ومن أبرز أشعاره معلَّقته في المدح التي يقول فيها:[٢٧]

يمينًا لنعمَ السَّيدانِ وجدتِما

على كلِّ حالٍ من سحيلٍ ومبرمِ

تداركتُما عبسًا وذبيانَ بعدمَا

تفانَوا ودقُّوا بينهم عطرَ منشمِ


الأعشى

هو بكريٌّ من بني وائل، وقد عاش في أواخر العصر الجاهليّ واسمه ميمون، ولقِّب بالأعشى لضعف بصره، وقد انتقل بالشعر الجاهلي نقلةً مهمَّةً، فقد كانوا يتغنَّون بشعره، ولم يكتف بشعره بالمديح والتَّكسب بل كان ينتصر لقبيلته ويهجو الأعداء ويتوعَّد لهم، وقد كانت حياته مغرقةً في اللَّهو والمجون وهو ما يظهر في أشعاره أيضًا، وقد جمعت أشعاره في ديوانٍ كبيرٍ نشر أوَّل مرَّة في لندن، ويمتاز بكثرة القصائد الطَّويلة وتنوّع موضوعاته، وقد تميَّز عن الجاهليين بكثرة الإسراف في المديح، ومن ذلك مدحه لقيس بن معد يكرب حيث يقول:[٢٨]

وسَعَى لكندةَ سعيَ غير مواكل

قيسٌ فضرَّ عدوَّها وبنى لها


نماذج من الشعر الجاهلي

  • معلَّقة عمرو ابن كلثوم الَّتي يقول في مطلعها:[٢٩]

أَلَا هُبِّي بصحنِك فاصبَحِين

ولا تُبقِي خُمورَ الأندرينا

مشعشعةً كأنَّ الحص فيه

إذا ما الماء خالطَها سخينا


  • قالت الخنساء في رثاء أخيها صخر:[٣٠]

أمن ذكر صخرٍ دمعُ عينِك يسجمُ

بدمعٍ حثيثٍ كالجمانِ المنظَّم

فتًى كانَ فينا لم يرَ النَّاسُ مثلَه

كفالاً لأمٍّ أو وكيلًا لمحرمِ


  • قال عدي بن ربيعة المهلهل في رثاء أخيه كُلَيب:[٣١]

أَجِبنِي يا كليبُ خلاكَ ذمّ

ضنيناتُ النُّفوسِ لها مَزارُ

أَجِبني يا كليبُ خلاكَ ذمّ

لقدْ فجعتْ بفارسِها نزارُ

سقاكَ الغيثُ إنَّك كنتَ غيثًا

ويسرًا حينَ يلتمسُ اليسارُ



لقراءة المزيد من النماذج الشعريّة، ننصحك بالاطّلاع على هذا المقال: أجمل أبيات الشعر الجاهلي.

المراجع

  1. سراته البشير، الشعر الجاهلي وتجاذبات البساطة والفخامة، صفحة 8-9. بتصرّف.
  2. عبد الله خضر حمد، قراءات أسلوبية في الشعر الجاهلي، صفحة 11. بتصرّف.
  3. ماهر أحمد علي المبيضين (2002)، مظاهر الحضارة المادية في الشعر الجاهلي، صفحة 225. بتصرّف.
  4. محمود محمد شاكر، قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام، صفحة 14. بتصرّف.
  5. محمود محمد شاكر، قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام، صفحة 18. بتصرّف.
  6. ^ أ ب شوقي ضيف، تاريخ الأدب العصر الجاهلي، صفحة 195. بتصرّف.
  7. شوقي ضيف، تاريخ الأدب في العصر الجاهلي، صفحة 196. بتصرّف.
  8. شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي في العصر الجاهلي، صفحة 219. بتصرّف.
  9. شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، صفحة 220-221. بتصرّف.
  10. شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، صفحة 221-223. بتصرّف.
  11. شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، صفحة 224. بتصرّف.
  12. ^ أ ب شوقي ضيف، تاريخُ الأدب العربي العصر الجاهلي، صفحة 226-227-228. بتصرّف.
  13. علي الجندي، في تاريخ الأدب الجاهلي، صفحة 345-346. بتصرّف.
  14. علي الجندي، في تاريخ الأدب الجاهلي، صفحة 364. بتصرّف.
  15. علي الجندي، في تاريخ الأدب الجاهلي، صفحة 373-374-376. بتصرّف.
  16. ^ أ ب علي الجندي، في تاريخ الأدب الجاهلي، صفحة 383-384-385. بتصرّف.
  17. ^ أ ب علي الجندي، في تاريخ الأدب الجاهلي، صفحة 405-413. بتصرّف.
  18. مصطفى الشكعة، مناهج التأليف عند العلماء العرب، صفحة 387-388. بتصرّف.
  19. مصطفى الشكعة، التأليف عند العلماء العرب، صفحة 388. بتصرّف.
  20. علي الجندي، في تاريخ الأدب الجاهلي، صفحة 438. بتصرّف.
  21. علي الجندي، في تاريخ الأدب الجاهلي، صفحة 440-441-442. بتصرّف.
  22. ناصر الدين الأسد، مصادر الشعر الجاهلي، صفحة 321-322-323. بتصرّف.
  23. ناصر الدين الأسد، مصادر الشعر الجاهلي، صفحة 325-326-327. بتصرّف.
  24. ناصر الدين الأسد، مصادر الشعر الجاهلي، صفحة 353-354-355. بتصرّف.
  25. ناصر الدين الأسد، مصادر الشعر الجاهلي، صفحة 377-378-379. بتصرّف.
  26. شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، صفحة 248. بتصرّف.
  27. شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، صفحة 306-307. بتصرّف.
  28. شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، صفحة 348. بتصرّف.
  29. "ألا هبي بصحنك"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 5/1/2021.
  30. "أمن ذكر صخر دمع عينك"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 5/1/2021.
  31. "أهاج قذاء عيني الإذكار"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 5/1/2021.
4971 مشاهدة
للأعلى للسفل
×