محتويات
العفة في الغزل العذري: حقيقة أم ضرورة شعرية؟
إنّ الباحث في الغزل العذري يجد أنّ جذوره تعود إلى نهايات عصر صدر الإسلام، فهناك نشأ جيلٌ تربّى على القيم الإسلاميّة الأصيلة وهم في بُعدٍ عن تيّارات الحضارة التي صارت تتلاقى بعد الفتوحات، وبعيدة كذلك حياة اللهو والترف التي كان عليها المجتمع في نهايات عهد الخلافة الراشدة وبدايات العصر الأموي، فهو جيل لم تُفسِده الحياة.[١]
إنّما نشأ هذا الجيل مسلمًا في كلّ شيء؛ في الأخلاق والعادات والتزام العفّة في الشعر وفي الأدب، هناك في الحجاز في قبيلة عُذرة العربيّة نشأت ظاهرة شعريّة تُعرَف باسم الغزل العذري؛ نسبة لقبيلة عُذرة، ويُسمّى كذلك الغزل البدوي نسبة لحياة البداوة التي كان يعيشها العذريّون الأوائل، وكذلك يُسمّى بالغزل العفيف نسبة للعفّة التي كانت سمة ظاهرة على هذا الشعر مقابل الغزل الصريح الذي كان طاغيًا آنذاك.[١]
كان هذا الغزل يتّسم بالعفّة لأنّ الذين بدؤوا بقوله كانت تُلزِمُهُم تعاليم الإسلام بعدم التعريض بالفتاة أو وصف مفاتنها على نحو يهيّج المشاعر أو يضرِمُ فيها نارًا غير مرغوبة عند المجتمع المسلم الذي لا يقبل بوصال المحبوبة سوى تحت غطاء شرعي هو الزواج بها، فلم يستطع الشاعر العُذري -لمروءته- أن يصف مفاتن الفتاة التي يحبّها ويجعل الناس يتغنّون بشِعره فيها.[١]
من ذلك يتبيّن أنّ العفّة في الشِّعر العذريّ نابعة من شخصيّة الشاعر الذي عاصر الصحابة -رضي الله عنهم- وعاش في أكنافهم، وكان المجتمع الذي يعيش فيه مُنغَلِقٌ على نفسه فلم تَفسد أخلاقهم وحافظوا على الأخلاق العربية الممزوجة بتعاليم الإسلام، فكانت حقيقة واضحة وليست مجرّد نمط شعري فيه ردّ على الغزل الصريح أو الماجن.[١]
أشهر شعراء الغزل العذري
من أشهر الشعراء الذين حملوا لواء الغزل العذري في الشعر العربي ما يأتي:
- مجنون ليلى
هو قيس بن الملوَّح بن مزاحم العامري، لقِّبَ بمجنون ليلى لهيامه بها وليس لجنون أصابه، نشأ مع ابنة عمه ليلى بنت سعد، وعندما شبَّبَ بها حجبها أبوها عنه، فهامَ على وجهه ينشد الأشعار ويسكن البوادي، فحينًا كانوا يرونه في الشام وحينًا في الحجاز، ووجِدَ ميتًا في إحدى البوادي مُلقًى فوق أحجار نحو عام 68هـ وحُمِلَ إلى أهله.[٢]
- كُثَيِّر عَزَّة
هوكثير بن عبد الرحمن بن الأسود بن عامر الخزاعي، شاعر من المتيَّمين، اشتُهِرَ بحبّه لعزّة بنت جميل الضمريّة، أكثر إقامته كانت في مصر وكان كثير الوفود على عبد الملك بن مروان، توفي نحو سنة 105هـ.[٣]
- جميل بُثينة
هو جميل بن عبد الله بن معمر العذري القضاعي، كان من الشعراء العشّاق وارتبط اسمه باسم بثينة وهي إحدى فتيات قومه التي أحبّها وهامَ بها، أقام أواخر حياته في مصر وكان يفد على عبد العزيز بن مروان، ومات هنالك نحو سنة 82هـ.[٤]
نماذج من الغزل العذري
من أبرز نماذج الغزل العذري ما يأتي:
قصيدة قالوا لو تشاء لقيس بن الملوح
يقول مجنون ليلى:[٥]
وَقالوا لَو تَشاءُ سَلَوتَ عَنها
- فَقُلتَ لَهُم فَإِنّي لا أَشاءُ
وَكَيفَ وَحُبُّها عَلِقٌ بِقَلبي
- كَما عَلِقَت بِأَرشِيَةٍ دِلاءُ
لَها حُبٌّ تَنَشَّأَ في فُؤادي
- فَلَيسَ لَهُ وَإِن زُجِرَ اِنتِهاءُ
وَعاذِلَةٍ تُقَطِّعُني مَلاماً
- وَفي زَجرِ العَواذِلِ لي بَلاءُ
قصيدة بثينة قالت لجميل بثينة
يقول جميل بن معمر:[٦]
بُثَينَةُ قالَت يا جَميلُ أَرَبتَني
- فَقُلتُ كِلانا يا بُثَينَ مُريبُ
وَأَريَبُنا مَن لا يُؤَدّي أَمانَةً
- وَلا يَحفَظُ الأَسرارَ حينَ يَغيبُ
بَعيدٌ عَلى مَن لَيسَ يَطلُبُ حاجَةً
- وَأَمّا عَلى ذي حاجَةٍ فَقَريبُ
قصيدة ألا تلك عزة قد أصبحت لكُثيِّر عزَّة
يقول كثيّر:[٧]
أَلا تِلكَ عَزَّةُ قَد أَصبَحَت
- تُقَلِّبُ لِلهَجرِ طَرفاً غَضيضا
تَقولُ مَرِضنا فَما عُدتَنا
- فَقُلتُ لَها لا أُطيقُ النُهوضا
كِلانا مَريضانِ في بَلدَةٍ
- وَكَيفَ يَعودُ مَريضٌ مَريضا
المراجع
- ^ أ ب ت ث شكري فيصل، تطور الغزل بين الجاهلية والإسلام من امرئ القيس إلى ابن أبي ربيعة، صفحة 230 - 240. بتصرّف.
- ↑ الزركلي، الأعلام، صفحة 208. بتصرّف.
- ↑ الزركلي، الأعلام، صفحة 219. بتصرّف.
- ↑ الزركلي، الأعلام، صفحة 138. بتصرّف.
- ↑ "وقالوا لو تشاء سلوت عنها"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 23/2/2022.
- ↑ "بثينة قالت يا جميل أربتني"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 23/2/2022.
- ↑ "ألا تلك عزة قد أصبحت"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 23/2/2022.