محتويات
تعريف شيشرون لأنظمة الحكم ورأيه بها
تأثر الكاتب والفيلسوف والمفكر ورجل الدولة شيشرون في مسألة أنظمة الحكم تأثرًا كبيرًا بأفكار الفيلسوف أرسطو، حيث قسّم أنظمة الحكم إلى ثلاثة أقسام أساسية وهي: الأنظمة الملكية الفردية والأرستقراطية وأخيرًا الأنظمة الديمقراطية،[١] وعليه فالسلطة أو الحكم لديه هي عبارة عن سلطة سياسية مصدرها اجتماعي وإنساني، وأهم ما يميزها هو امتلاكها للسيادة، تلك السيادة التي يعود في تفسيرها إلى نظرية التطور التاريخي والدوري للدساتير، والتي اعتمد كذلك عليها في تفسيره لشكل السلطة السياسية في الدولة وهيكلها التنظيمي للوصول إلى تصور عام بشأن النظام السياسي الأمثل.[٢]
يرى شيشرون أنّ أنظمة الحكم على اختلاف أنواعها يمكن أن تتعرض للفساد، وهو أمر من شأنه أن ينهي وجود هذا النظام بالكامل، فوجود الفساد يؤدي بالضرورة إلى حدوث ثورة، لذلك يرى أنّ فساد النظام الملكي بحدوث ثورة ينتج عنه نظام استبدادي، في حين أن فساد النظام الأرستقراطي ينتج عنه نظام حكم الأوليغارشية، أما فساد النظام الديمقراطي فينتج عنه نظام حكم الرعاع.[٣]
رأي شيشرون بالملكية
في بادئ الأمر اعتقد شيشرون أن أفضل نظام هو نظام الملكية، لكنه وجد فيما بعد أن الملك ممكن أن يتحول إلى مستبد وفاسد لا يهتم بمن هم حوله من الرعية، وهو الأمر الذي من شأنه أن يثير الشعب الذي يرى شيشرون أنه هو المصدر الحقيقي لما يتمتع به الملوك من سلطة، فلا يكون أمام الشعب إلا الثورة ضد هذا الحكم الظالم، وبحدوث الثورة فإنها لن تأتي بنظام أفضل من سابقه، بل على العكس غالبًا ما تأتي الثورات في هذه الحالة بنظام دكتاتوري مستبد.[٣]
رأي شيشرون بالأرستقراطية
يرى أن الأرستقراطية نظام يتمتع بالكثير من الاستقرار والثبات، حيث إنّه نظام يحكمه أفضل الرجال، والسبب أنهم غالبًا ما يمتلكون الخبرة والحكمة التي تمكنهم من القدرة على إدارة الدولة بشكل سليم، ولكنه غالبًا ما يكون عرضة للمؤامرات والدسائس من قبل أشخاص يخططون من أجل الاستيلاء على السلطة الأوليغارشية، وبالتالي فالأرستقراطية كنظام حكم هو حاله حال الملكية قد ينتهي به الأمر بالتغير، وهو الأمر الذي يفسح المجال للمنتفعين والطامعين بالحكم للوصول إلى السلطة.[٢]
رأي شيشرون بالديمقراطية
رأى شيشرون أن الديمقراطية كنظام حكم جيد طالما كان الحاكم يقود الدولة بصورة جيدة ويتصرف بشكل سليم، وقادر على الحسم في حال حدوث حالة طارئة، كما رأى شيشرون أن الناس في ظل النظام الديمقراطي يتمتعون بالحرية وبالحقوق المتساوية، حيث يشارك الناس جميعهم في إدارة الحكم، ولكن ما لبث أن غيّر رأيه فذهب إلى القول إن أسوأ الدول الجيدة هي تلك التي كانت ذات نظام ديمقراطيّ لأنه في حالة فساد الحاكم لن يصل إلى الحكم إلا الغوغاء والرعاع.[٢]
رأي شيشرون بنظام الحكم المختلط
ذهب شيشرون إلى خطوة أبعد ممّا ذهب إليها المؤرخ والسياسي اليوناني بوليبيوس في وصفه لعملية انتقال الحكم أو السلطة، حين كتب هكذا تتجاذب الحكومة مثل الكرة، يتلقونها من الملوك والطغاة الأرستقراطيين أو الشعب، ومن الشعب إلى الأوليغارشية أو الرعاع، وبالتالي خلص إلى أن أنظمة الحكم الثلاث هي في الحقيقة أنظمة معيبة وغير مستقرة، واقترح نظامًا ثالثًا مختلطًا رأى فيه أن الحكومة المثالية هي تلك الحكومة التي تتشكل من توازن ومزج متساوٍ بين خصائص النظام الملكي والديمقراطي والأرستقراطي معًا، واقترح على الرومان إعادة النظام الجمهوري إلى شكله السابق، من خلال تقوية الأرستقراطيين ومجلس الشيوخ على حساب المجالس الديمقراطية.[٤]
رأي شيشرون بالقوة والسلطة
فيما يتعلق بالسلطة يرى شيشرون أنّ سلطة الدولة تنبثق من قوة الأفراد، فهؤلاء بمثابة منظمة تحكم نفسها بنفسها، ويملكون بالضرورة القوة اللازمة لحفظ كيان الدولة، ويعملون على استمراريتها وبقائها، ويرى كذلك أنه من الضروري استخدام القوة السياسية استخدامًا سليمًا وقانونيًّا، وهو في حقيقة الأمر استخدام لقوة الناس مجتمعين، وما الموظف الحكومي سوى شخص يمارس ويستخدم صلاحياته بناءً على ما لديه من سلطة منحها له الناس والقانون والدولة ذاتها تخضع لقانون إلهي طبيعي وأخلاقي وهو قانون يسمو بطبيعة الحال على القانون الذي يضعه البشر.[٤]
رأي شيشرون بالقانون والدستور
يقر شيشرون بوجود قانون طبيعيّ عامّ ينبثق من واقع حكم العناية الإلهية للعالم ككل، وهو القانون ذاته الذي ينبثق من الطبيعة العقلية والاجتماعية للبشر، كما ذهب شيشرون للاعتقاد بوجود قانون له طبيعة ثابتة وخالدة موافق لقانون الطبيعة وللعقل وينطبق على جميع البشر، وأهم مميزات هذا القانون أنه لا يتغير بتغير الزمان أو المكان وهو قانون عالمي، وقد كان يطلق عليه في ذلك العصر قانون الشعوب.[٥]
أما فيما يتعلق بالدستور فيرى شيشرون أن فكرة وجود الدستور في الدولة من الأفكار الصالحة لتنظيم شؤون الدولة والشعب، خاصة عندما تتولى الدولة القيام بمهامها، كما يأخذ شيشيرون بفكرة سمو وعلو الدستور على غيره من التشريعات القانونية، وهي من الأفكار التي ما تزال سارية المفعول لغاية يومنا هذا، وعليه فإنّ كل تشريع أو قانون يأتي بأحكام تخالف أحكام الدستور النافذ في البلاد لا يستحق أن يطلق عليه تسمية قانون من الأصل.[٥]
رأي شيشرون بالدولة والشعب
يرى شيشرون أنّ الدولة نشأت في زمنه نتيجة غريزة الإنسان الطبيعية التي تميل إلى تنظيم الأمور وبمساهمة الشعب ككل، فالدولة وفقًا له ما هي إلا كيان يملكه جميع المواطنين، وقد ذهب إلى تعريف الدولة بأنها عبارة عن جماعة معنوية، وبعبارة أخرى إنّ الدولة ما هي إلا مجموعة من الأشخاص يتملكونها بالمشاع فيما بينهم، ولا بد لهذا الكيان من قانون ينظمها وينظم علاقتها بأفراد الشعب، كما يرى أن الدولة تقوم في الأساس من أجل تمثيل مصالح الناس المشتركة وتقديم المساعدة لهم، وهي في الوقت ذاته تمثل الحكم العادل بين أفراد الشعب فيما لو حصل خلاف بينهم.[٦]
ميّز شيشرون بين الدولة والشعب، فالدولة في نظره يجب أن تمثل الشعب في القيام بالنشاطات العامة، كما قسّم حكومات الدول إلى ثلاثة أنواع: ملكية وديمقراطية وأرستقراطية وحكومات ذات نظام مختلط، وفضّل الأخير على الأنواع الثلاثة الأولى، كما نادى بالدستور ذي الطبيعة المختلطة من أجل تحقيق ذلك الأمر.[٦]
رأي شيشرون بالعدالة
طالما كان شيشرون وغيره من الفلاسفة يبحثون عن جوهر العدالة، متمنيين أن يسود أي مجتمع إنساني العدالة الحقيقة، لأن الإنسان جدير بأن يحيا حياة يسودها العدل، كما كان شيشرون مصيبًا تمامًا عندما تجاوز الاختلاف في الآراء حول المعنى الحقيقي للعدالة، وحول كيفية تطبيقها في المجتمع، مؤكدًا أن العدالة الحقيقية لا تبنى على آراء الناس بل هي تبنى على أحكام الطبيعة، فتلك الآراء والمعتقدات الزائفة التي يتبناها بعض البشر ما هي إلا نتيجة انحراف بعض العقول الضعيفة، وهي ذاتها التي سارت بهم على غير هدى، ولولا هذا الانحراف في الفكر والمعتقد لكان جميع الناس متشابهين وسواسية.[٧]
أثر المدرسة الرواقية في فكر شيشرون السياسي
إنّ مفتاح أفكار شيشرون هو القانون الطبيعي، وهي فكرة قديمة وردت عن المدرسة الرواقية، ومن ثم ألبسها شيشيرون لباسًا جديدًا من خلال اعتباره أن القانون الطبيعي أسمى قانون ينبثق من واقع العناية الإلهية للعالم بأسره، وهو الذي يجمع البشر فيما بينهم ويربطهم تحت سقف مدينة واحدة هي المدينة العالمية الكونية، وعليه تتجلى تأثيرات المدرسة الرواقية في أفكار شيشرون من خلال إعادة صياغته لنظريتهم في القانون الطبيعي وهو القانون الإلهي الخالد للأبد والصالح لكل شعوب، وهو يرى أن الناس متساوون ويمتلكون جميعهم القدرة العقلية ذاتها، وهو بذلك يختلف عما ذهب إليه أرسطو من القول إنّ هنالك أشخاصًا يتميزون عن غيرهم بقدراتهم العقلية، وكان يقصد اليونانيين.[٨]
بالتالي كان شيشرون يؤمن بفكر المدرسة الرواقية بشكل كبير من خلال إيمانه العميق بالقانون الطبيعي، وهو قانون صالح لتنظيم العلاقات بين الناس داخل المجتمع الإنساني في كل زمان ومكان، كما نادى شيشرون بالمواطنة في المجتمع الإنساني وأنّ الدولة بمثابة شركة مساهمة يحق لأي مواطن أن تكون له العضوية فيها دون أي تمييز.[٩]
مؤلفات شيشرون السياسية
يعد شيشرون أكبر خطيب روماني تميز بالبلاغة والفصاحة العالية، وكان له الفضل الأكبر في نقل كل ما جاء في الفلسفة اليونانية إلى اللاتينية، وأهم ما خلفه لنا من آثاره تلك: الخطب السياسية وكتاب الجمهورية وكتاب في القوانين، إذ حاول أن يجمع فيها أهم المذاهب اليونانية في السياسة، فأصبحت تلك المؤلفات بمثابة السجل للأفكار السياسية في روما، وهذه المهمة ظل شيشرون مكرسًا لها نفسه حتى تم قتله عام (43) ق.م على يد أنطونيوس، وقد عبّرت كتابات شيشرون عن كل من آراء أفلاطون وأرسطو والرواقيين وبوليبوس.[٢]
الخطب السياسية
في خطابات شيشرون السياسية التي ألقاها على الشعب الروماني ومجلس الشيوخ والتي كانت عددها (106) خطاب لم ينج منها سوى (58) خطاب، وبعضها جاء بصورة غير مكتملة، تلك الخطب التي أحدثت الكثير من اللغط في الدولة بسبب دفاعه المستميت عن حرية الشعب وحقوقه المهدورة، كما أخذ ينتقد الدولة وسلوكها ويهاجم الطبقة الأرستقراطية، وذهب إلى القول إنّ نجاح الدولة واستمراريتها مرهون بما تمنحه من حقوق وحريات لشعبها وبعكسه فإنها في طريقها إلى الزوال.[٧]
عن الجمهورية
لطالما كان شيشرون معجبًا بما طرحه أفلاطون فيما يتعلق بأفضل دستور أو نظام وطبيعة وأسس العدالة، فحاول صياغة تلك الأمور في كتابه عن الجمهورية الذي أصدره (54 /51) ق. م، وفيه أورد شيشرون أهم المذاهب اليونانية في السياسة، مؤكّدًا على فكرتين أساسيتين الأولى هي: أهمية الدستور المختلط للدولة، والثانية: نظرية التطور التاريخي الدوري للدساتير، وهما فكرتان استعارهما من أرسطو، وموادهما أن الحكومات لا تستمر على وتيرة واحدة على الدوام، فهي في الغالب لديها ميل للتدهور والذهاب نحو الأسوأ، وذلك بحسب ما تواجهها من مشاكل ومحن.[١٠]
إنّ هذا الأمر ينطبق على روما التي كان دستورها الأصلي يقوم على أساس الملكية، ثم لحقها التغيير حتى انتهى الوضع في النهاية بوجود نظام حكم استبدادي، ولهذا فإنه لا منفذ لها من هذا الوضع إلا من خلال إيجاد حكومة دستورية يتحقق في إطارها التوازن بين الديمقراطية والاستبدادية، بحيث يصبح الدستور في منأى عن التصرف والمغالاة في هذا الاتجاه أو ذاك، وفي هذا الكتاب رأى شيشرون أن هناك قانونًا أسماه القانون الحق؛ وهو قانون البداهة والتفكير السليم الذي يتماشى مع الطبيعة وينطبق على جميع الناس وهو قانون خالد لا يتغير.[١٠]
في القوانين
هو الكتاب الذي تولى إصداره عام (51) ق.م، ويبدو أنه العمل الأخير لشيشرون، وفيه يرى أنّ القانون الإلهي هو القانون ذو الطبيعة الخالدة وهو بمثابة العقل والبداهة والتفكير السليم القادر على الحد من جموع البشر ومن تصرفاتهم الخاطئة، والقانون الإلهي قانون لا يتخلله الخطأ أو السهو، والسبب في ذلك أنه يمتاز بصفتين أساسيتين، الأولى هي الثبات والثانية هي الإلزام، ويترتب على تلك الصفتين نتائج إيجابية تنعكس على حياة البشر تتمثل في عدة أمور: [٧]
- تجعلهم سواسية أمام القانون.
- تُحافظ على حقوقهم الأساسية.
- تضع العقاب الرادع لكل من يخرج عنها.
قد يهمك الاطلاع على هذا المقال: أشهر كتب شيشرون.
المراجع
- ↑ إبرادشة فريد (2020)، الفكر السياسي عند شيشرون(الطريق نحو الكوني)، صفحة 42. بتصرّف.
- ^ أ ب ت ث علي عبد المعطي (2000)، الفكر السياسي الغربي، الإسكندرية:دار المعرفية الجامعية، صفحة 105. بتصرّف.
- ^ أ ب عامر حسن فياض وعلي عباس مراد (2012)، مدخل إلى الفكر السياسي القديم والوسيط، عمان:دار زهران للنشر والتوزيع، صفحة 313. بتصرّف.
- ^ أ ب مريم الصادق محمد (2018)، شيشرون وفلسفته القانونية، ليبيا:كلية الآداب جامعة الزاوية، صفحة 13. بتصرّف.
- ^ أ ب ورزا لدين نوارة (2016)، مفهوم الدولة لدى الشباب الجزائري، الجزائر:جامعة محمد لمين، صفحة 75. بتصرّف.
- ^ أ ب نظام بركات وعثمان الرواف ومحمد الحلوة (1989)، مبادئ علم السياسة (الطبعة 2)، الرياض:مطابع الأيوبي، صفحة 55. بتصرّف.
- ^ أ ب ت مصطفى النشار (2005)، تطور الفلسفة السياسية من صولون حتى أبن خلدون، القاهرة:الدار المصرية، صفحة 210. بتصرّف.
- ↑ بلحنافي جوهر (2007)، الأخلاق الرواقية وتأثيرها على المسيحية والفكر الإسلامي، الجزائر:جامعة وهران، صفحة 96_ 97. بتصرّف.
- ↑ عبد النور منصوري (2020)، محاضرات في تاريخ الفكر السياسي، الجزائر:جامعة محمد بو ضياف، صفحة 36. بتصرّف.
- ^ أ ب عطية سلمان (2005)، فلسفة السياسة في العصور القديمة والوسطى (الطبعة 1)، ليبيا:مكتبة طرابلس العالمية، صفحة 98. بتصرّف.