القصاص يوم القيامة وكيفيته

كتابة:
القصاص يوم القيامة وكيفيته

مفهوم القصاص

لكلّ إنسان حقّه في الحياة، وفي العيش الكريم، وفي التّملّك وفي التّعليم وفي الصّحّة وفي حريّة الكلمة والتّعبير، وغير ذلك، ولكن كلّ ذلك ضمن ضوابط شرعيّة، إذ لا يحقّ له الاعتداء على حقوق الغير بغير وجه حقّ، فكما له حقوق، فعليه واجبات، ومتى وقع الاعتداء من أحد النّاس على غيره، من إعادة الحقّ إلى أصحابه، ويكون ذلك في القصاص، فما هو القصاص، فالقصاص:[١] هو عقوبة مقدّرة شرعًا تطبّق على الجاني بمثل فعلته أي: النَّفْسُ بالنَّفْس، والجرح بالجرح،[٢] ففي القصاص مصلحة للبشريّة جمعاء، وحفظ لحياتهم، وزجر للبغاة والمعتدين، وردع للعصاة والمجرمين، ومن خلال تطبيق القصاص، يصان المجتمع، وتحقن الدّماء وتتقلّص عمليات القتل والعدوان، وتحفظ حياة الأمة، فبالقصاص شفاء لما في صدور أولياء المقتول، وردع وزجر لمجرم يستبيح دمَ الأبرياء، ويتسبب في تيتيم الأطفال وترميل النّساء، فيتحقّق العدل والأمن، حيث قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.[٣] وسيأتي الحديث عن قصاص يوم القيامة وكيفيّته.[٤]

القصاص يوم القيامة وكيفيته

سبق الحديث عن مفهوم القصاص الدّنيوي، ولا بدّ هنا من معرفة القصاص الأخروي، قصاص يوم القيامة وكيّفيّته، فمهما وصل ميزان العدل الدّنيويّ فإنّه لا يماثل ولا يشابه ميزان العدل الإلهي، لأنّ الحكم في الدّنيا لمن هو ألحن بحجّته من خصمه، ولكنّ الله لا يخفى عليه خافية، فمن ظلمه قاضي الأرض، فليرفع شكواه إلى قاضي السّماء، فيوم القيامة سيضع الله الموازين القسط، وأوّل ما يقضى به الدّماء لحرمتها عند الله سبحانه، ويكون التّعامل هناك بالحسنات والسّيئات، فرأس مال العبد هناك حسناته، وسيكون القصاص على النّحو الآتي:[٥]

قصاص الإنسان من الإنسان

إنّ الله تعالى رصد للخلق كلّهم، مؤمنهم وكافرهم، إنسهم وجنّهم، عاقلهم وجاهلهم، يومًا يقتصّ فيه للمظلوم ممّن ظلمه، وأوّل ما يقتصّ للمؤمن المظلوم ممّن ظلمه مسلمًا كان أم كافرًا، لحديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: "إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ".[٦] ثمّ بعد ذلك يقتصّ الله تعالى للكافر المظلوم ممّن ظلمه، فيقتّص له من الكافر الظّالم، وكذلك يقتصّ له من المسلم الظّالم، لقوله، صلّى الله عليه وسلّم: "يَقتصُّ الخلقُ بعضُهم من بعضٍ".[٧] والمسلم لا يكون ظالمًا للكافر، إذا كان الكافر محاربًا له، أمّا إذا كان الكافر ذمّيًّا أو معاهدًا أو مؤتمنًا، فلا يجوز ظلمه، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}.[٨]

قصاص الحيوان من الحيوان

وبعد أن يقتصّ المؤمن ممّن ظلمه، أيًّا كان، ثمّ قصاص الكافر ممّن ظلمه، كافرًا كان أم مسلمًا، يأتي قصاص البهائم والدّواب من بعضها البعض، فهي وإن كانت غير مكلّفة، إلّا أنّ هذا القصاص الإلهيّ قصاص مقابلة واستحقاق، كي تتمّ عمليّة العدل الإلهيّ الذي قامت به السّموات والأرض، لا بدّ وأن ينال كلّ مخلوق حقّه الذي سلب منه، وينال المعتدي جزاءه الذي يستحقّه، حيث قال، الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنْ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ".[٩] وكذلك تقتصّ الحيوانات من البشر الذين ظلموها بضرب أو تجويع أو تحميلها أثقالًا فوق طاقتها، ودليل ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: "عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فيهِرَّةٍ حَبَسَتْها حتَّى ماتَتْ جُوعًا، فَدَخَلَتْ فيها النَّارَ قالَ: فقالَ: واللَّهُ أعْلَمُ: لا أنْتِ أطْعَمْتِها ولا سَقَيْتِها حِينَ حَبَسْتِيها، ولا أنْتِ أرْسَلْتِها، فأكَلَتْ مِن خَشاشِ الأرْضِ".[١٠]

مواضع ذكر القصاص يوم القيامة في الكتاب والسنة

بعد الحديث عن القصاص يوم القيامة وكيّفيّته، بقي الوقوف على مواضع ذكر القصاص يوم القيامة في الكتابة والسّنة، فالله سبحانه أوجب القصاص في الحياة الدّنيا، ليقتصّ المظلوم من الظّالم في الدّنيا، ولكن بعد تحلّل دول العالم الإسلاميّ من القوانين الإلهيّة، واستبدالها بقوانين وضعيّة، لم يعد هناك قصاص من الظّالم كما شرعه الله تعالى، ولذلك ستكون المحكمة العادلة التي ستعطي كلّ مظلوم حقّه من الظّالم على الوجه الأكمل يوم القيامة، والقاضي فيها لا يظلم عنده أحد، ولو كان مثقال حبّة من خردل. وممّا جاء في القرآن الكريم في القصاص يوم القيامة قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}.[١١] حيث يبيّن الخالق سبحانه في هذه الآية الكريمة موازين عدله، التي لا يضيع فيها ولو مثقال حبّة من خردل، وهي التي لا ترى بالعين المجرّدة، فيظهر وزنها في ميزان الله تعالى، فهناك سيأخذ كلّ مظلوم حقّه من ظالمه، مهما قلّ أو كثر، ومصداقًا لذلك روي عن عبد الله بن أنيس مرفوعًا: "يُحشَرُ العبادُ عُراةً غُبْرًا بُهمًا قلنا: ما بُهمًا؟ قال: ليس معهم شيءٌ ثمَّ يُناديهم ربُّهم تعالَى بصوتٍ يسمعُه من بَعُد كما يسمعُه من قَرُب: أنا الملِكُ أنا الدَّيَّانُ لا ينبغي لأحدٍ من أهلِ الجنَّةِ أن يدخُلَ الجنَّةَ ولأحدٍ من أهلِ النَّارِ عليه مظلَمةٌ حتَّى أقتصَّه منه, ولا لأحدٍ من أهلِ النَّارِ أن يدخُلَ النَّارَ ولأحدٍ من أهلِ الجنَّةِ عنده مظلَمةٌ حتَّى أقتصَّه منه حتَّى اللَّطمةَ قلنا: وكيف وإنَّما نأتي اللهَ عزَّ وجلَّ عُراةً غُبْرًا بُهمًا؟ فقال: بالحسناتِ والسَّيِّئاتِ فاتَّقوا اللهَ عبادَ اللهِ".[١٢] وهناك الكثير من الأدلّة في هذا الباب في السّنّة النّبويّة، ومنها حديث أبي هريرة: "مَن كانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لأخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْها، فإنَّه ليسَ ثَمَّ دِينارٌ ولا دِرْهَمٌ، مِن قَبْلِ أنْ يُؤْخَذَ لأخِيهِ مِن حَسَناتِهِ، فإنْ لَمْ يَكُنْ له حَسَناتٌ أُخِذَ مِن سَيِّئاتِ أخِيهِ فَطُرِحَتْ عليه".[١٣] فإنّه صلّى الله عليه وسلّم ينبّه على ردّ المظالم إلى أصحابها، قبل الوقوف أمام الله تعالى حيث لا درهم ولا دينار.[١٤]

المراجع

  1. "قصاص (إسلام)"، ar.wikipedia.org، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-20. بتصرّف.
  2. "تعريف و معنى القصاص"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-20. بتصرّف.
  3. سورة البقرة، آية:179
  4. "شبهات حول العقوبات في الإسلام والرد عليها"، www.saaid.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-20. بتصرّف.
  5. "القصاص يوم القيامة "، islamqa.info، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-20. بتصرّف.
  6. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي سعيد الخدري، الصفحة أو الرقم:2440، حديث صحيح.
  7. رواه السيوطي، في البدور السافرة، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:285، حديث إسناده صحيح.
  8. سورة المائدة، آية:8
  9. رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:2582، حديث صحيح.
  10. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبدالله بن عمر، الصفحة أو الرقم:2365، حديث صحيح.
  11. سورة الأنبياء، آية:47
  12. رواه شعيب الأرناؤوط، في تخريج مشكل الآثار، عن عبدالله بن أنيس، الصفحة أو الرقم:3527، حديث حسن لغيره.
  13. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:6534، حديث صحيح.
  14. "المجازاة يوم القيامة على المعاصي المتعلقة بحقوق العباد وظلمهم "، www.islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-05-20. بتصرّف.
4206 مشاهدة
للأعلى للسفل
×