القناع في الشعر العربي الحديث

كتابة:
القناع في الشعر العربي الحديث

توظيف التراث في الشعر العربي

إنّ أهمّ ما يميّز الشعر العربي الحديث طريقة تعامله مع التراث بأبعاده وروافده المختلفة، وهي تختلف شكلًا ومضمونًا عن طريقة شعراء الإحياء الذين تعاملوا مع التراث بطريقة تسجيلية انحصرت في المعارضات الشعرية والتسجيل التاريخي للوقائع، والتأثر بالشعراء القدامى مثل: المتنبي والمعري، ولكن الشعراء اللاحقين وظفوا التراث توظيفًا مختلفًا، بحيث يتعايش الشاعر مع التراث، ويعيش فيه، ويوظفه في قصائده لأهداف إنسانية واجتماعية، ويعبر فيه عن الواقع باستيعاب وتفهم وإدراك للمعنى الإنساني والتاريخي له، فلم يتأثر في التراث فقط، ولكنه حاول التركيز على الأمور المضيئة فيه، وعلى القضايا النابضة بالحياة، فيوظفها بأسلوب إبداعي؛ ليصل الماضي بالحاضر، ولهذا السبب نجح الشاعر المعاصر في استخدامه للتراث، وتاليًا حديث حول القناع في الشعر العربي الحديث.[١]

مفهوم القناع في الشعر العربي الحديث

يعدّ القناع في الشعر العربي الحديث إحدى أدوات الشاعر في العصر الحديث التي يستعين بها -أحيانًا- في تشكيل نصه الشعري، من خلال النظر إلى التراث العربي واستحضار شخصيّة تاريخيّة قادرة بما ارتبط بها من دلالات ومواقف، أن تضيء تجربة الشاعر وتمكّنه من التعبير عن المواقف المختلفة التي يعيشها في عصره، فهو يربط بين الماضي والحاضر، ويجعل الشخصية تنطق بلسانه[٢]، وهو بذلك يسعى إلى توصيل ما يريده بسهولة إلى القارئ، واستخدام القناع في الشعر يضفي على النص الشعري تشويقًا، ويكون قابلًا للتأويل والتحليل، ويعرف القناع أنّه: "حالة من التّماهي أو التلبّس بشخصية أخرى، تختفي فيها شخصية الشاعر، وتنطق خلال النص بدلًا منه."[٣]

فالقناع في الشعر العربي الحديث هو نوع من استلهام التراث العربي الإسلامي، أو قد يلجأ الشاعر للحضارات الإنسانيّة الأخرى، اليونانية والفينيقية القديمة في كتابة القصيدة للتعبير عن الحاضر، وهذا يكشف العلاقة بين الشاعر ومجتمعه، ورؤيته للإنسان والحياة من حوله، وقد نبّه عددٌ كبير من الباحثين والنّقاد على العلاقة بين وعي الذات العربية، وصلتها بالتراث الذي ارتبط بوضوح مع الأزمات الكبرى والتحولات التي تمر فيها الأمة العربية، ممّا جعلهم يعودون إلى التراث ويستلهمون منه لصياغة صورة للتقدّم.[٤]

ويرتبط القناع في الشعر العربي الحديث بالرمز والأسطورة، فإذا استخدم الشاعر أيًّا منهما وجعلهما يشملان القصيدة كلها فذلك هو القناع، بمعنى أنّ الشاعر يمكنه أن يستخدم في شعره الرمز والأسطورة في بيت أو أكثر من القصيدة، وهذا لا يعدّ قناعًا، أما إذا جعل القصيدة مبنية بشكل كامل على هذا الرمز أو على هذه الأسطورة، فإن ذلك يصبح قناعًا.[٥]

وهذا ما جعل بعض الباحثين يربط بين القناع والأسطورة، بوصفها: "منجزًا إنسانيًّا بدأ منسجمًا مع الأحلام الأولى للعقل البشري، ومعبّرة عن اللاشعور الجمعي، في محاولة لتفسير مشكل الظاهرة الكونية المحيطة، ومع ذلك فإنها تستعاد متجاوزة الزمان -لا زمانية-؛ لأنّها قابلة للتكرار الدائم، ويلتقي القناع بالأسطورة من هذا الجانب، فالقناع المستمد من التاريخ يعود بالقارئ إلى الماضي؛ إذْ يُعاد به بناء الذات عن طريق الذاكرة.[٢]

وهذا يمثل حالة لا زمانية حين يعيد تشكيل الذات بعناصر تقوم على الذكريات والإدراكات والتوقعات، وهي عناصر تجمع الماضي والحاضر والمستقبل، مما يجعل أبعاد الزمن الثلاثة متزامنة، فالقناع يعدّ نمطًا من أنماط خلق الأسطورة، وهو ما ذهب إليه إحسان عباس حين عدّه خلقًا لأسطورة تاريخيّة؛ وذلك لأنّ الشاعر يعبّر عن ضيقه بالتاريخ الحقيقي بأن يخلق تاريخًا أسطوريًّا."[٢]

دوافع استخدام القناع في الشعر العربي الحديث

يستخدم الشاعر القناع في قصائده الشعرية، فيلجأ إلى شخصيات تراثية مختلفة كالمهلهل بن ربيعة، وسيف بن ذي يزن، وقد يستعين بشعراء تأثر بهم و بمواقفهم المختلفة في الحياة كالمتنبي والمعري وديك الجن الحمصي والحطيئة وغيرهم، ليعبر عن رؤيته للواقع، وقد يستشرف المستقبل، وثمة دوافع أخرى تجعل الشاعر يلجأ إلى القناع منها:[٦]

  • يدرك الشاعر هذا الواقع ويرفضه؛ فيذهب إلى التعبير المقنع عن الذات، والكشف غير المباشر عن استبداد الواقع وفساده، وإلى إطلاق الرغبة في التجاوز باتجاه الجديد المغاير في الحياة، وذلك عبر قصيدة مقنعة، يكشف تقنعها عن استبداد الواقع، وعن آلية مواجهته التي تُطلق أسئلتها عليه، وتكشف عن إجاباتها، على نحو غير مباشر، وتنطق صوت القناع.
  • الصراع بين ذات الشاعر والواقع المحيط به وما فيه من تناقضات.
  • استخدام القناع في الشعر يتيح للشاعر "تغطية" تُمكّنُه من التعبير عمّا يريد بصورة أكثر حرية.
  • يضفي استخدام القناع نوعًا من التشويق لدى القارئ، فهويتيح للشاعر إمكان تقديم الحقائق من الداخل، تقديمًا دراميًا، من خلال التماهي مع القناع باستخدام ضمير المتكلم أنا، وهذا يجعل القارئ يتعاطف مع الشخصية في القصيدة.
  • إسقاط الشاعر شعوره وتجربته الإنسانية على القناع.
  • الجمع بين الماضي والحاضر، والبحث عن الهويّة من خلال الجمع بين صوتين أوأكثر، فيظهر تعدّد الأصوات في القصيدة.

القناع عند عبد الوهاب البياتي

يعدّ الشاعر عبد الوهاب البياتي من أول الشعراء الذين تحدثوا عن استخدام القناع في الشعر العربي الحديث، وقد ظهر هذا واضحًا في كتابه: "تجربتي الشعرية"؛ إذ أشار إلى أنه يستخدم الأقنعة الفنية في شعره، وقد وجدها في التاريخ والرمز والأسطورة، فيعود إليها ليختار منها شخصيات يستخدمها قناعًا؛ للتعبير عن المحنة الاجتماعية والكونية، والثورة والتمرد.[٧]

"فالقناع هو الاسم الذي يتحدّث من خلاله الشاعر نفسه، متجردًا من ذاتيته، أيْ أنّ الشاعر يعمد إلى خلق وجود مستقل عن ذاته، وبذلك يبتعد عن حدود الغنائية والرومانسية ...، وهو وسيلة إلى الخلق الفني المستقل عن الشاعر."[٨]

وقد وجّه البياتي اهتمامَه إلى قضية كيفية اختيار القناع الذي يلائم القصيدة التي يكتبها الشاعر، فمن المفترض أن يبحث الشاعر عن السمات الدالة في الشخصية أو الأسطورة، وأن يربط ربطًا وثيقًا بين القناع الذي اختاره والأفكار التي يريد أن يعبر عنها، ويراعي في ذلك السمة المتجددة أو الصفات الحديثة التي سيضفيها الشاعر على الشخصية القناع التاريخية أو الأسطورية، فليس كل شخصية -في رأي البياتي- صالحة لكي تكون قناعًا للقصيدة الحديثة؛ لأنها لا تمتلك السمات الدالة التي تجعلها قادرةً على حمل رؤية الشاعر الحديث، وهذا يجعل أمر اختيار القناع مهمًّا؛ لكي تكون القصيدة معبرة عن الواقع دون أن يكون ذلك سببًا في انفصال القصيدة بشكل واضح عن قناعها، ولذلك يرى البياتي أن على الشاعر أن يقرأ التراث قراءةً عميقةً واعيةً؛ ليكون قادرًا على اختيار قناعه، ويحقق فنية القصيدة.[٩]

قصائد القناع في الشعر العربي الحديث

بناءً على ما سبق يمكن الملاحظة أن استخدام القناع في الشعر العربي الحديث بات أمرًا حاضرًا بين الشعراء؛ بسبب العودة إلى التراث واستلهامه لفهم الواقع والأزمات المحيطة بهم، ومحاولة فهم الذات، والربط بين الماضي والحاضر؛ لكي يحتذي المتلقي بهذه الشخصيات التاريخية والتراثية لإصلاح الواقع، ومن هذه القصائد ما يأتي:

  • قصيدة لا تصالح لأمل دنقل: القصيدة تتكون من عشرة مقاطع شعريّة تتوافق مع وصايا كليب لأخيه المهلهل وتبدأ كل وصية بجملة "لا تصالح"[١٠]، قام أمل دنقل في قصيدة "لا تصالح" إعادة تشكيل جانب من السيرة الشعبية للزير سالم في الوصايا العشرة لأخيه:[١١]، إذ قال أمل دنقل:[١٢]
لا تصالحْ!
ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما ..
هل ترى ..؟
هي أشياء لا تشترى
ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك،
حسُّكما - فجأةً - بالرجولةِ،
هذا الحياء الذي يكبت الشوق .. حين تعانقُهُ،
الصمتُ - مبتسمين - لتأنيب أمكما ..
وكأنكما
ما تزالان طفلين!
تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أنَّ سيفانِ سيفَكَ..
صوتانِ صوتَك
إنك إن متَّ:
للبيت ربٌّ
وللطفل أبْ
هل يصير دمي -بين عينيك- ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَ ..
تلبس -فوق دمائي- ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ ..
ولا تتوخَّ الهرب!
  • قصيدة رحلة المتنبي إلى مصر لمحمود درويش: وفيها يستحضر الشاعر تجربة المتنبي بأبعادها المختلفة الذاتية والقومية والإنسانية [١٣]، يقول درويش:[١٤]
للنيل عاداتٌ
وإني راحلُ
أمشي سريعاً في بلادٍ تسرقُ الأسماءَ منِّي
قد جئتُ من حَلَبٍ، وإني لا أعود إلى العراقِ
سَقَطَ الشمالُ فلا أُلاقي
غير هذا الدرب يَسَحبُني إلى نفسي ... ومصر.

المراجع

  1. "توظيف التراث في شعر "أمل دنقل" قصيدة "من مذكرات المتنبي في مصر" نموذجًا "، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 1-07-2019. بتصرّف.
  2. ^ أ ب ت سامح الرواشدة (1995)، القناع في الشعر العربي الحديث- دراسة في النظرية والتطبيق، الأردن: جامعة مؤتة، صفحة 7. بتصرّف.
  3. سامح الرواشدة (1995)، القناع في الشعر العربي الحديث- دراسة في النظرية والتطبيق، الأردن: جامعة مؤتة، صفحة 10.
  4. خالد الكركي (1989)، الرموز التراثية العربية في الشعر العربي الحديث، بيروت: دار الجيل، صفحة 12، 18-19. بتصرّف.
  5. سامح الرواشدة (1995)، القناع في الشعر العربي الحديث- دراسة في النظرية والتطبيق.، الأردن: جامعة مؤتة، صفحة 17.
  6. عبد الرحمن بسيسو (1999)، قصيدة القناع في الشعر العربي المعاصر- تحليل الظاهرة. (الطبعة الطبعة الأولى)، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، صفحة 169، 170، 193-194، 224، 227. بتصرّف.
  7. عبد الوهاب البياتي (1968)، تجربتي الشعرية (الطبعة الأولى)، بيروت: منشورات نزار قباني، صفحة 34-35.بتصرّف.
  8. عبد الوهاب البياتي (1968)، تجربتي الشعرية (الطبعة الأولى)، بيروت: منشورات نزار قباني، صفحة 35.
  9. عبد الوهاب البياتي (1968)، تجربتي الشعرية (الطبعة الأولى)، بيروت: منشورات نزار قباني، صفحة 35-36.
  10. خالد الكركي (1989)، الرموز التراثية العربية في الشعر العربي الحديث (الطبعة الأولى)، بيروت: دار الجيل، صفحة 90. بتصرّف.
  11. خالد الكركي (1989)، الرموز التراثية العربية في الشعر العربي الحديث (الطبعة الأولى)، بيروت: دار الجيل، صفحة 88-89. بتصرّف.
  12. "لا تصالح"، www.adab.com، اطّلع عليه بتاريخ 28-06-2019.
  13. خالد الكركي (1989)، الرموز التراثية العربية في الشعر العربي الحديث (الطبعة الأولى)، بيروت: دار الجيل، صفحة 234-235. بتصرّف.
  14. "رحلة المتنبي الى مصر"، www.aldiwan.net، اطّلع عليه بتاريخ 28-06-2019.
9169 مشاهدة
للأعلى للسفل
×