المنهج النفسي في النقد العربي الحديث

كتابة:
المنهج النفسي في النقد العربي الحديث

المنهج النفسي في النقد العربي الحديث

ما أهمية دراسة شخصية الأديب لتفسير العمل الأدبي؟

يعرف المنهج النفسي بأنه المنهج الذي يستقي مبادئه وقواعده النقدية من نظريات التحليل النفسي التي أرسى أصولها وأسسها الطبيب سيجموند فرويد، والتي ترد الفن والإبداع إلى نقطة اللاوعي في العقل الإنساني[١]، ولم يكن المنهج النفسي في النقد حديث العهد في الأدب العربي فقد ظهرت بوادره لدى العديد من النقاد القدماء مثل عبد القاهر الجرجاني الذي عرف بنظرية النظم، والناقد ابن قتيبة الذي أدرك أهمية البواعث النفسية والسلوكات الإنسانية في توجيه العمل الأدبي ونسجه، تبعًا للعواطف والانفعالات التي يحيكها اللاوعي الإنساني.[٢]


أمّا في العصر الحديث فقد بدت ملامح المنهج النفسي تتشكل على نحو مختلف على يدي جماعة الديوان المتمثلة بـ "العقاد وعبد الرحمن شكري وإبراهيم المازني" وظلت ملامح هذا المنهج ومبادؤه تتطور وتتغير لدى المدارس الأدبية في النقد الحديث التي تلت مدرسة الديوان، وقد ارتكزت مدرسة الديوان خلال تبنيها للمنهج النفسي على النزعة الفردية أو الذات، حيث أخذت تنظر إلى الإبداع الأدبي من مرآة الأديب نفسه.[٣]


لقد استند النقاد العرب الذين تبنوا المنهج النفسي في دراسة الأدب العربي الحديث إلى ثلاثة محاور، تتمثل أولها في دراسة شخصية الأديب من خلال تتبع السيرة الذاتية له ورصد شخصيته بغية الوصول إلى مكنونات الإبداع المغروزة في نفسه، وثانيها تتمثل في دراسة العملية الإبداعية بتوقيتها وكيفيتها والعوامل الخارجية والداخلية التي أسهمت في توليد تلك العملية الإبداعية.[٣]


أما المحور الثالث فقد تمثل في دراسة العمل الأدبي من حيث الأسلوب والصيغة واللغة الشعرية، وغيرها من مقومات العمل الأدبي التي تناولها النقاد من النظريات السيكولوجية حتى باتت العملية النقدية تشكل رابطًا بين النظريات الطبية النفسية والإبداعات الأدبية.[٣]


تطور المنهج النفسي في النقد العربي الحديث

كيف تبنت جماعة الديوان النقد النفسي؟

كان المنهج النفسي معروفًا في النقد العربي القديم، وقد قامت بناء عليه الكثير من النظرات والتحليلات النقدية للأدب والشعر، وعلى الرغم من هذه الأسس العربية الأولى لهذا المنهج إلا أن النقاد العرب في العصر الحديث كانوا قد تأثروا بنظريات الطب النفسي وما قامت على أسسه من مبادئ النقد الأدبي النفسية نتيجة الانفتاح على ثقافات الشعوب وامتزاج العلوم والمعارف الإنسانية والعلمية.[٤]


قد كان لوعي النقاد العرب وإدراكهم لدور الحس الوجداني في تشكيل الإبداع الأدبي أثر بالغ في توجيه النقد النفسي وتنميته وتفعيله في تحليل النصوص الأدبية وإعادة تفسيرها تبعًا للمعطيات الوجدانية في التشكيل السيكيولوجي للعمل الإبداعي، إلا أن اطلاعهم على آداب الغرب واتجاهاتهم النقدية وأساليبهم في التحليل النفسي للنصوص الأدبية كان قد ساعد على إكساب الدراسات النقدية العربية طابعًا علميًا.[٥]


على الرغم من أنّ الدارسين قد أرجعوا بدايات المنهجية العلمية في النقد النفسي إلى طه حسين، إلا أن جماعة الديوان كان لها الفضل الأول في احتضان هذا المنهج والعمل على تطويره وتنميته حتى استوى على النحو العلمي الذي جعله صالحًا للتطبيق العملي على النصوص من مختلف عصور الأدب العربي، لاسيما أن عبد الرحمن شكري وهو أحد رواد مدرسة الديوان وأبرز أعضائها كان قد استثمر معطيات علم النفس في دراسة الشعر وتحليله، كما كانإبراهيم المازني أول من طبق هذا المنهج على شخصية ابن الروسي في مقالة له.[٥]


كانت قد توالت الدراسات النفسية للنصوص الأدبية، حيث قام العقاد بدراسة نفسية للشاعر ابن الرومي وأتبعها بدراسة أخرى مستقلة للشاعر أبي نواس وكذلك دراسة أخرى للشاعر الحطيئة، كما قام الناقد محمد النويهي بدراسات نفسية على هذين الشاعرين، بالإضافة إلى دراسة عن شخصية بشار بن برد، وقام طه حسين بدراسة نفسية للشاعر أبي العلاء المعري، وغيرها من الدراسات التي سعى النقاد من خلالها للكشف عن الصلة الوثيقة بين الكوامن النفسية والعمليات الإبداعية ومستوياتها الفنية.[٥]


لم تتوقف عملية تطور المنهج النقدي النفسي في الأدب العربي عند تلك الدراسات النفسية المفردة التي يقوم بها النقاد هنا وهناك، إنما تجاوز الأمر ذلك بإجراء خطط لتدرس المنهج النفسي في الجامعات، حيث أقرت جامعة القاهرة سنة 1938م بخطة لتدريس المنهج النقدي النفسي لطلبة الدراسات العليا وربط النقد بالعلوم الأخرى كالبلاغة وعلم النفس.[٥]


مبادئ المنهج النفسي في النقد العربي الحديث

ما موقف النقد النفسي من الشخصيات المختلقة في الأدب؟


  • الربط بين النص الأدبي وبين اللاوعي أو اللاشعور لصاحبه: وذلك لأنّ الإبداع بعد ترجمة مباشرة للمكنونات النفسية والخلجات المكبوتة وأن الوقوف على تلك النقاط النفسية التي يبوح بها النص الأدبي تعد مفتاحًا أساسيًا للكشف عن الحالة النفسية التي اعتلت المبدع خلال العملية الإبداعية.[٦]


  • افتراض وجود كوامن نفسية عميقة في لا وعي الأديب: مهما حاول الأديب المبدع كبتها وإخفائها فإنّها تظل تلوح بلا شك على سطح النص فتتراءى من خلال رموز لفظية وإزاحات ووقفات، وتحليل النص وفهمه على النحو الصحيح لا يكون إلا بالكشف عن تلك المكامن النفسية التي يتضمنها النص.[٦]


  • اعتبار الشخصيات المختلقة في النصوص الأدبية شخصيات واقعية: فهم يمثلون جوانب مختلفة من الجوانب النفسية للأديب بما يحملونه من رغبات ودوافع، وأن ظهور هذه الشخصيات على هذا النحو الاختلاقي إنما هو تجسيد لمكنونات نفسية تتجذر في لا وعي الأديب.[٦]


  • اعتبار النص الإبداعي عرض بارز من أعراض العصابية: التي يفترض بالمبدع أن يكون مصابًا بها، فالإبداع الأدبي أو غيره هو عبارة عن ناتج لخلل نفسي كامن في لا وعي المبدع، ويتجسد في العمل الإبداعي كعرض تستشف من خلاله الحالة العصابية التي يُعاني منها المبدع.[٦]


أدوات التحليل النفسي للأدب

كيف نحلل النص الأدبي من خلال المنهج النفسي؟

ارتكز النقاد النفسيون على الأسس والآليات التي ابتكرها الرائد الأول للمنهج النفسي سيجموند فرويد، وقد كانت في مجملها وسائل وأدوات تساعد على الربط بين علم النفس وبين العمل الإبداعي الذي يتفرع منه الأدب، ولعل سيجموند فرويد وغيره من النقاد النفسيين قد لجؤوا إلى النتاج الإبداعي باعتباره الثمرة الناجمة عن السلوك الإنساني الذي يقوم اللاوعي بتوجيهه وتحريكه حيث أن العملية الإبداعية موهبة نفسية ذاتية وهذا بدوره يفسر سبب تفاوتها بين فرد وآخر.[٧]


التحليل والتتبع

اهتم اتباع المنهج النفسي من النقاد بالبحث والتنقيب عن أثر معين بارز في حياة الأديب وتحليله بهدف الوصول إلى نقاط تكشف عن معلومات تتعلق بسيكيولوجيا الأديب، وتحديد الحالة النفسية العامة التي يتسم بها وسبب حصولها وأثر انعكاسها على العملية الإبداعية، وتعد هذه الآلية خطوة مهمة تساعد في تفسير العمل الأدبي وتحليله وتفسير الدافع الأساسي الكامن وراء العملية الإبداعية.[٨]


الآثار الإبداعية

لا تقتصر مهام الناقد النفسي على تتبُّع أثر واحد بارز في حياة الأديب المبدع، فالأثر الواحد قد لا يكون كافيًا للكشف عن الأثر النفسي الذي يخطه اللاوعي في حياة الأديب، كما أنه لا يمكن للناقد أن يكشف عن الخصائص السيكولوجية التي يتسم بها الأديب بشكل دقيق من خلال أثر معين، لذلك يجدر بالناقد النفسي تتبُّع كافة الآثار والنتاجات الأدبية التي ابتدعها الأديب ومحاولة الوقوف على النقاط المشتركة التي توحي بافتعال الأثر النفسي في العمل الأدبي.[٨]


الجوانب الحياتية

إن عمل الناقد النفسي لا يقتصر على تحليل الآثار الأدبية واكتشاف الخصائص السيكيولوجية من خلالها، إذ إنّ الكثير من الرموز الأدبية والتوجهات الكتابية تُمثّل ردة فعل حية لأحداث ووقائع مر بها الأديب وتركت في نفسه أثرًا، وقد يكون هذا الأثر غير واضح ومباشر بالنسبة للأديب نفسه، بينما يكون مكبوتًا ومخزنًا في اللاوعي أو اللاشعور الذي يقوم ببثه بصور رمزية وإشارية في الأعمال الإبداعية، لذلك فإنّ النّاقد النفسي يقوم بتتبع الجوانب الحياتية الدقيقة التي مر بها الأديب والسيرة الذاتية التي سجلت له الكثير من الأحداث والوقائع البارزة في حياته للوصول إلى الفهم السليم للعمل الأدبي وتفسيره تبعًا للحالة النفسية التي اكتنفت الأديب خلال إنتاجه للعمل.[٨]


المقاربة والتمثيل

يبدو عمل الناقد النفسي صعبًا لما يتطلبه من الدقة في التحليل وشموليته، حيث يقوم الناقد بدراسة الأديب نفسه وجوانب حياته بكافة تفاصيلها للوصول إلى الأحداث والوقائع التي قد تكون تركت أثرًا في نفسه وانعكست بدورها على أدبه وإبداعه، كما يقوم الناقد بتلمس تلك الآثار السيكيولوجية المنعكسة في الأعمال الأدبية ومحاولة خلق مقاربة بينها وبين حياة الأديب الواقعية. [٨]


مقياس الجودة الفنية عند أصحاب المنهج النفسي

ما هي أبرز معايير النقد النفسي؟

نظرًا لكون المنهج النفسي في النقد الأدبي منهجًا علميًا فإنه يقوم على أسس ومعايير خاصة يتبعها أصحاب هذا المنهج في النقد الأدبي، وعليه فإن معايير الجودة لديهم تكون واضحة ومحددة، فهم ينظرون إلى البواعث النفسية للأدب شعرًا كان أو نثرًا، فالبواعث النفسية تغذي التجربة الإبداعية وتزيدها قوة حين تكون مقرونة بالعوامل الحسية والمادية التي ترتكز على توظيف العناصر المحيطة من الأشياء والأشخاص، وهي عناصر تسهل على الناقد الولوج إلى نفسية الأديب من خلالها.[٩]


تعد القوة التخيلية من أبرز المعايير التي نظر إليها النقاد النفسيون، فالخيال هو ذلك النسيج المختلق الذي يربط بين الواقع الحياتي للأديب واللاوعي الدفين الكامن في نفسه، كما أنّ قدرة الأديب على نسج الأخيلة وربطها بالواقع تعود إلى خصائصه السيكولوجية التي يتمتع بها، كما أنها تعد مفتاحًا من مفاتيح تفسير النص الأدبي والكشف عن الحالة السيكيولوجية للأديب لدى النقاد النفسيين.[١٠]


قد التفت النقاد النفسيون إلى معيار الطبع والبعد عن الصنعة، وذلك لأن الطبع يجعل النص يسري على السليقة التي خلق عليها الأديب فتظهر خصائصه السيكيولوجية بعيدًا عن الصنعة التي قد تحدث إرباكًا في عملية تحديد تلك الخصائص، إذ يبدو النص وما يحتويه من رموز وإيحاءات إشارية محض افتعال لخصائص تكون بعيدة كل البعد عن الأديب، ولكن الناقد النفسي يكشف تلك الافتعالات التي تخلقها الصنعة الأدبية من خلال المقارنة بين واقع الأديب والأثر الإبداعي الأدبي.[١٠]


تطبيقات المنهج النفسي في النقد العربي الحديث

كيف طبق العقاد المنهج النفسي على شعر ابن الرومي؟

أقام الكثير من النقاد العرب في العصر الحديث دراسات في المنهج النفسي على عدد من الشعراء والأدباء البارزين مثل بشار بن برد وغيره، ومن أبرز هذه الدراسات تلك التي قام بها طه حسين لأبي العلاء المعري في كتابه الموسوم "مع أبي العلاء في سجنه" إذ يبدو أن الحالة النفسية الكئيبة كانت قد لفتت أنباه طه حسين ودفعته لتحليل شخصيته تبعًا للمنهج النفسي، حيث رأى أنّ أبي العلاء كان قد ظلم نفسه حين أوهم نفسه بأنه سجين وسلط على نفسه ثلاثة سجانين العمى وعقله وزهده في الحياة، فتراه يكد ويسعى محاولًا الوصول إلى الكمال في نفسه إلا أنه لا يصل وتظل نفسه ترتد به إلى سجنه الذي هيئته له نفسه.[١١]


يواصل طه حسين بحثه في شعر أبي العلاء المعري عن جوانب حياته المصورة باللفظ المنمق الذي رأى أنه كان يسلي به عن نفسه التي أرهقها السجن وأعيتها الحياة، فيستشهد بأبيات من شعر أبي العلاء المعري ويقوم بتحليلها والتعليق عليها مثبتًا من خلالها صحة ما توصل إليه[١٢]، ومن هذه الأبيات:[١٣]

أَوانِيَ هَمٌّ فَأَلقى أَواني

وَقَد مَرَّ في الشَرخِ وَالعُنفُوانِ

وَضَعتُ بُوانيَّ في ذِلَّةٍ

وَأَلقَيتُ لِلحادِثاتِ البَواني

ثَوانِيَ ضَيفٌ فَلَم أَقرِهِ

أَوائِلَ مِن عَزمَتي أَو ثَواني

فَيا هِندُ وانٍ عَنِ المَكرُما

تِ مَن لا يُساوِرُ بِالهُندُواني

زَوانِيَ خَوفُ المَقامِ الذَمي

مِ عَن أَن أَكونَ خَليلَ الزَواني

رَوانِيَ صَبري فَأَضحَت إِلَيَّ

عُيونٌ عَلى غَفَلاتٍ رَواني


قام عباس العقاد بدراسة شخصية الشاعر أبي نواس دراسة نفسية، ولعل أبرز ما شد العقاد إلى شخصية أبي نواس ودفعه لدراسته هو نرجسيته، فقد كان أبو نواس مأخوذًا ومفتونًا بجمال نفسه حيث كان في خلقته أميل للنساء نظرًا لنقص في غدد رجولته، كما أنه كان وحيد أمه العجوز فلقي منها دلالًا ألان شخصيته، ورأى العقاد أن هذه العوامل كانت كافية لتغذي نرجسيته ولتعزز انحرافه حتى أصبح قلبه مولعًا بالرجال بدلًا من النساء.[١٤]


كما يذكر آراء النقاد القدماء والخلفاء في شعر أبي نواس ويستشهد بأبيات ترجح كفته على غيره من الشعراء وتبرز له تفوقه الشعري ومن هذه المفارقات الشعرية ما دار بينه وبين بشار بن برد في مجلس الخليفة الرشيد، حيث حكم لأبي نواس لأنه سرد بشعره قصة الرشيد مع جاريته وكأنه كان معه وقتئذ[١٥] حيث قال:[١٦]

نَضَت عَنها القَميصَ لِصَبِّ ماءِ

فَوَرَّدَ وَجهَها فُرطُ الحَياءِ

وَقابَلَتِ النَسيمَ وَقَد تَعَرَّت

بِمُعتَدِلٍ أَرَقَّ مِنَ الهَواءِ

وَمَدَّت راحَةً كَالماءِ مِنها

إِلى ماءٍ مُعَدٍّ في إِناءِ

فَلَمّا أَن قَضَت وَطَراً وَهَمَّت

عَلى عَجَلٍ إِلى أَخذِ الرِداءِ

رَأَت شَخصَ الرَقيبِ عَلى التَداني

فَأَسبَلَتِ الظَلامَ عَلى الضِياءِ


للعقاد دراسة نفسية أخرى عن ابن الرومي تناول فيها بالتفصيل حياته من جميع الجوانب الخارجية المحيطة به؛ كعصره وأهل زمانه والأوضاع السياسية والثقافية، كما تناول سيرته الذاتية والأحداث التي قد تكون تركت أثرًا في حياته، وأشار في كتابه إلى سخرية ابن الرومي التي رأى أنها ترد إلى خلقته وتناول طيرته وعرض لأقوال الكثير من النقاد فيها، ورأى أنها أكسبته بعض الحنكة والحكمة، كما وقف على أصوله اليونانية ورأى أنها كانت سببًا في براعته وإبداعه.[١٧]


يذكر العقاد قصصًا ووقائع لابن الرومي تكشف له عن صفاته النفسية وخصائصه السيكيولوجية، ولعل أبرزها تلك الأبيات التي تثبت اتصاف ابن الرومي بالطيرة والتشاؤم كما تظهره في ثوب المنتصر الذي يحاجج الآخرين بصدق الطيرة وفاعليتها[١٨]، فيقول:[١٨]

أيّها المُحتفَى بحولٍ وعورِ

أينَ كانت عَنك الوجوهُ الحسانِ

فتحك المَهرجانَ بالحولِ والعو

ر أرَانا ما أعْقبَ المَهرجانَ

كانَ من ذاكَ فَقدَكَ ابنتَك الحرّ

ةِ مَصبوغَةٌ بها الأكفانُ

وجَفانى مؤملٌ لى خليل

لجّ مِنه الجَفاء والهُجْرانُ

لا تصدقْ عَنِ النّبيّين إلّا

بِحديثٍ يَلُوحُ فيهِ البيانُ

خبّرَ اللهُ أنّ مشْأَمة كا

نتْ لِقومٍ، وخبّرَ القرآنُ

أفَزورُ الحديثِ تَقْبل أَم مَا

قالَهُ ذُو الجَلالِ، وَالفُْرقَانِ؟


كذلك وقف الناقد محمد النويهي على شخصية بشار بن برد ودرسها دراسة نفسية ورأى أن حب الذات لديه قد طغت على عالمه النفسي، ورأى أن هذه النرجسية الطاغية التي بدت عند بشار بن برد إنما كانت ردة فعل للعمى الذي عانى منه، كما أن غزله الفاحش ووصفه لتعلق النساء به إنما كان يفسر ردة فعل الشاعر للنفور الاجتماعي بسبب قبحه وقلة حظه واستشهد من شعره بأبيات وقام بتحليلها[١٩]، ومنها قوله:[٢٠]

طالَ لَيلي مِن حُبِّ

مَن لا أَراهُ مُقارِبي

أَبَدًا ما بَدا

لِعَينِكَ ضَوءُ الكَواكِبِ

أَو تَغَنَّت قَصيدَةً

قَينَةٌ عِندَ شارِبِ

فَتَعَزَّيتُ عَن عُبَي

دَةَ وَالحُبُّ غالِبي

تِلكَ لَو بيعَ حُبُّها

اِبتَعتُهُ بِالحَرائِبِ

وَلَوِ اِسطَعتُ طائِعًا

في الأُمورِ النَوائِبِ


موقف النقاد العرب من المنهج النفسي

كيف تفاعل سيد قطب مع المنهج النفسي؟

يعد المنهج النفسي من المناهج النقدية الحديثة التي تقوم على أسس ومعايير علمية محددة، تقرأ النصوص الأدبية من خلالها وتقاس بها جودتها وقيمتها، وعلى الرغم من أن المنهج النفسي يتصل اتصالًا وثيقًا بعلم النفس إلا أنّ تحليل الآداب من خلاله لم يتجاوز حدود النظرية الفكرية، لا سيّما أن القراءة من خلال هذا المنهج تحتاج إلى إمعان دقيق بتفاصيل حياة الأديب وإلمام وافٍ بتفاصيلها ووقائعها، بالإضافة إلى آثاره ونتاجاته الإبداعية التي قد يعتريها شيء من الصنعة والغموض، لذلك فقد اختلف النقاد في ردة فعلهم تجاه المنهج النفسي بين مناصر ومؤيد له وبين معارض ومناهض لدراسة الأدب من خلاله.[٢١]


أنصار المنهج النفسي

يعد عباس محمود العقاد من أبرز أنصار المنهج النفسي، فقد قام بالكثير من الدراسات النفسية على الأدباء والشعراء وأبدى رأيه صريحًا بهذا المنهج، فالمنهج النفسي في نظره هو المنهج المتكامل الذي يمكن الاستغناء به عن سائر المناهج النقدية، وهو المنهج الذي يتيح لنا فرصة اكتساب المعرفة والإلمام الشامل بالأديب على الوجه الصائب، ويرى أن من سمات المنهج النفسي قدرته على تفسير الآداب دون إفقاد قيمها الجمالية.[٢٢]


من أنصار المنهج النفسي الناقد جورج طرابيشي الذي كان يميل إلى هذا المنهج في الدراسات الأدبية، ويرى أنّه المنهج الأفضل والأجدر من بين سائر مناهج النقد الأدبي فهو قادر على الولوج إلى قلب العمل الأدبي ومنحه الأبعاد الأخرى التي لم تكن معروفة لدى الأديب، كما يساعد على الكشف عن البواطن الخفية بطريقة يعجز عنها أي منهج نقدي آخر.[٢٣]


خصوم المنهج النفسي

يعد محمد مندور من أبرز خصوم المنهج النفسي في دراسة الأدب، إذ يدعو لفصل الأدب عن سائر العلوم الأخرى، وذلك لأنها جعلت دراسة الآداب شائكة ويحيط بها اللبس واللغط، كما أنها تحمل الآداب ما لا تحتمل، كما أنه يرى أن الأدب لا يتجدد ويتطور إلا بفضل عناصره الداخلية الأدبية البحتة لا بربطه بالعلوم الأخرى، ويرى أن مزج الآداب بعلم النفس يصرف القارئ عن تذوق الأدب ليضيع في لجة نظريات لا قرار لها.[٢٤]


كذلك فإنّ الناقد عبد الملك مرتاض يعد من أبرز خصوم المنهج النفسي وقد تحامل عليه تحاملًا شديدًا، ووصف الدراسة النفسية للأدب بالمريضة المتسلطة، ولعل أكثر ما جعل عبد الملك مرتاض ينحاز ضد هذا المنهج هو افتراض إصابة كل أديب بمرض نفسي، ويرى أن المنهج النفسي هو مجرد توهم واتهام للأديب بالمرض وبالتالي فإن هذا الافتراض يجعل من الأدب عرض مرضي أو أدب المرض.[٢٣]


قد أخذ الخصوم يكشفون عن عيوب المنهج النفسي ويعددونها محاولين بذلك إيقاف الدراسات النفسية للأدب، فالمنهج النفسي يسرف في توظيف مصطلحات علم النفس وتطبيق نظرياته على شعراء مضت على وفاتهم قرون من الزمان دونما نتيجة تدعم بها الأدب نفسه أو تطوره.[٢٥]


كما توصل خصوم المنهج النفسي إلى أن الدراسات النفسية التي تجري على الأدب تذهب أصالة العمل الأدبي وجودته، فهي تغض النظر عن القيمة الفنية للأدب في حين تُولي اهتمامًا بالغًا بدراسة حياة الأديب وتطبيق مجريات حياته على النظريات النفسية وهذا لا يكون دقيقًا، إذ يستحيل أن تتطابق النفس الإنسانية مع النظريات على وجه دقيق كاف لإطلاق الحكم على الأثر الأدبي.[٢٥]


رأى خصوم المنهج النفسي أنه قد بات أداة لتحويل النصوص الأدبية إلى وثائق طبية تقر بوجود عقد نفسيةكعقدة أوديب والعقدة النرجسية وعقدة إلكترا وغيرها، ممّا يظهر الأدب كعرض مرضي غير محمود، كما أنّ النقاد النّفسيين كانوا ينظرون إلى الأدباء على أنهم مجرد مرضى نفسيين يجب تشخيص حالاتهم والكشف عن عقدهم التي تتوارى في نصوصهم.[٢٥]


لقد حاول النقاد النفسيون من منظور الخصوم الأدب إلى شواهد يلجؤون إليها بعد توغلهم في دراسة شخصية الأديب وتتبع جوانب حياته وأثرها في تشكيل شخصيته الإبداعية إلى الشعر والنثر كشواهد تثبت صحة ما توصلوا إليه وهذا بدوره يؤدي إلى تدهور القيمة الفنية للأدب.[٢٥]


كان سيجموند فرويد نفسه قد أقر بأنّ فاعلية المنهج النفسي تعد قاصرة في تفسير الأعمال الأدبية والفنون التشكيلية على وجه الخصوص؛ وذلك لأن الأدب لم يكن من اهتماماته ولا من اختصاصاته وإن كان الناقد الأدبي ينتفع بعض الانتفاع من نظريات علم النفس إلا أنه لا يجدي نفعًا كمنهج مستقل بذاته؛ وذلك لأن علم النفس يقتصر مجاله على دراسة نفسية الإنسان وليس إنجازاته ونصوصه.[٢٥]


مواقف وسطية

يقف بين الرأيين السابقين من الخصوم والمعارضين عدد من النقاد الذين نظروا إلى المنهج النفسي بموضوعية وجدية أكثر، ولعلّ من أبرز هؤلاء النقاد سيد قطب، حيث رحّب بفكرة الاستفادة والانتفاع من نظريات علم النفس في تحليل الآداب ودراستها، إلا أنّ ذلك يجب أن يكون بحدود بحيث لا تطغى النظريات الطبية على الفنية الأدبية، ورأى أن توضع حدود لمسار علم النفس في الأدب، وأن يكون المنهج النفسي عنصرًا واحدًا من ضمن مجموعة من العناصر المنهجية المتكاملة.[٢٦]


كذلك فإنّ النقد النفسي عند عز الدين إسماعيل يعد وسيلة من وسائل فهم النص الأدبي بالشكل الصحيح، ولذلك فإنه يقف على الحياد بين الخصوم والمناصرين، فيرى أن للمنهج النفسي إيجابيات في الكشف عن غموض الماضي، كما أنه يجنب النقاد الكثير من المشكلات والصعوبات التي عادت عليهم بفعل منهج التقويم القديم، كما كان عز الدين إسماعيل يستخدم المنهج النفسي في دراساته إلا أنه كان يعي تمامًا حدوده في الأدب بحيث لا يطغى على فنيته.[٢٧]


من النقاد الذين وقفوا على الحياد أمام المنهج النفسي الناقد عادل فريحات، الذي رأى أن المنهج النفسي قاصر عن تبيان القيمة الفنية للآداب فهو لا يميز جيده من قبيحه بسبب إغراقه في تتبُّع حياة الأديب وجوانبه النفسية وانكبابه على التحليل النفسي الذي لا يغني الأدب في شيء، إنما يحوله إلى نوع من العلوم التي تتفرع من علم النفس.[٢٥]


أهمية المنهج النفسي

كيف تتشكل سيكيولوجيا التذوق الفني ؟


  • يعد المنهج النفسي منهجًا شاملًا تتفرع عنه الكثير من المسارات العلمية التي تتعلق بتتبع مراحل نمو الإنسان المختلفة، بالإضافة إلى عمليات الربط والتحليل الناجمة عن ربط الأدب بالواقع وتحليله للكشف عن الخفايا السيكيولوجية للأديب.[٢٨]


  • يمكن للناقد أن يقوم بفصل المسارات المختلفة التي يتفرع عنها المنهج النفسي في النقد الأدبي، إلا أنها عند مزج تلك المسارات المتفرعة تبدو وكأنها تشكل علمًا متكاملًا يحرص على تصوير الأديب من جميع جوانب حياته، حيث تربط العناصر الإنسانية بالمادية المحيطة.[٢٨]


  • يقدم المنهج النفسي ما يعرف بسيكيولوجيا التذوق الفني، فقد أشار سيجموند فرويد إلى أن قيمة الفن عند المتلقي تتمثل فيما يقدمه له الأديب من نشوة من خلال تحقيقه لرغباته المكبوتة من خلال العمل الأدبي، والتي تتمثل بالنصر أو الألم أو الحزن وغيرها من الرغبات الإنسانية الدفينة.[٢٨]


المراجع

  1. زينب محمد نور، سارة تمكين شداد، المنهج النفسي في النقد االدبي، صفحة 11. بتصرّف.
  2. عبد القادر قصاب، "التحليل النفسي في الدرس النقدي العربي "، مجلة آفاق علمية، صفحة 396. بتصرّف.
  3. ^ أ ب ت محمد نور إسلام، المنهج النفسي عند جورج طرابشيمدونة عقدة أوديب في الرواية العربية، صفحة 44. بتصرّف.
  4. حسنة موجاري، طبیقات المنهج النفسي في النقد الجزائري ، إغراءات المنهج وتمنع الخطاب ل " أحمد حیدوش أ نموذجا، صفحة 22. بتصرّف.
  5. ^ أ ب ت ث بايزيد مهديد، القصيدة الكلاسيكية في ضوء التحليلي النفسي، صفحة 79. بتصرّف.
  6. ^ أ ب ت ث يوسف وغليسي، مناهج النقد الأدبي، صفحة 22. بتصرّف.
  7. حمود بن إبراهيم العصيلي، "كفاية المنهج في تبديل الحكم النقدي السائد المنهج النفسي نموذجًا "، مجلة كلية الدراسات الإسلامية، العدد 36، صفحة 1718. بتصرّف.
  8. ^ أ ب ت ث صليحة بديرينة، سعيدة بورويس، تجليات المنهج النفسي عند العقاد دراسة نقدية، صفحة 16. بتصرّف.
  9. دربالي وهيبة، "التحلیل النفسي بین المفارقة النقدیة الغربیة والمقاربة البلاغیة العربیــــــــة"، مجلة إشكالات، العدد 15، صفحة 33. بتصرّف.
  10. ^ أ ب وهيبة دربالي، "التحلیل النفسي بین المفارقة النقدیة الغربیة والمقاربة البلاغیة العربیــــــــة"، مجلة إشكالات، العدد 15، صفحة 34. بتصرّف.
  11. جمال فاضل فرحان، المنهج النفسي في النقد العربي الحديث، صفحة 2. بتصرّف.
  12. طه حسين، مع أبي العلاء في سجنه، صفحة 74. بتصرّف.
  13. "أواني هم فألقى أواني"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 26/02/2021م.
  14. عبد القادر بن طيب، القراءة النفسية للقصيدة العربية المعاصرة، صفحة 18. بتصرّف.
  15. العقاد، أبو نواس، صفحة 10. بتصرّف.
  16. "نضت عنها القميص لصب ماء"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 26/02/2021م.
  17. العقاد، ابن الرومي حياته من شعره، صفحة 13. بتصرّف.
  18. ^ أ ب العقاد، ابن الرومي، صفحة 50. بتصرّف.
  19. حميدة زينب، أعمر عائشة، المنهج النفسي في النقد الادبي النويهي أنموذجًا، صفحة 36. بتصرّف.
  20. "طال ليلي من حب"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 26/02/2021م.
  21. حميدة زينب، أعمر عائشة، المنهج النفسي في النقد الأدبي النويهي أنموذجًا، صفحة 17. بتصرّف.
  22. زبدة سمية، المنهج النفسي في النقد العربي الحديث، صفحة 20. بتصرّف.
  23. ^ أ ب يوسف وغليسي (2007)، مناهج النقد الأدبي (الطبعة 1)، الجزائر:جسور للنشر والتوزيع، صفحة 26. بتصرّف.
  24. يوسف وغليسي (2007)، مناهج النقد الأدبي (الطبعة 1)، الجزائر:جسور للنشر والتوزيع، صفحة 27. بتصرّف.
  25. ^ أ ب ت ث ج ح صليحة بديرينة، سعيدة بوريس، تجليات المنهج النفسي عند العقاد دراسة نقدية، صفحة 30. بتصرّف.
  26. يوسف وغليسي (2007)، مناهج النقد الأدبي الحديث (الطبعة 1)، الجزائر:جسور للنشر والتوزيع، صفحة 29. بتصرّف.
  27. يوسف وغليسي (2007)، مناهج النقد الأدبي الحديث (الطبعة 1)، الجزائر:جسور للنشر والتوزيع، صفحة 30. بتصرّف.
  28. ^ أ ب ت حميدة زينب، أعمر عائشة، المنهج النفسي في النقد الأدبي النويهي أنموذجًا، صفحة 9. بتصرّف.
9026 مشاهدة
للأعلى للسفل
×