النزعة العقلية في العصر العباسي

كتابة:
النزعة العقلية في العصر العباسي

ما تعريف النزعة العقلية في العصر العباسي؟

تُعرف النزعة العقلية بأنّها سمة وطريقة التطور في العصر العباسي، فقد ضمَّت الدولة العباسيَّة بين أحضانها شعوباً مُتباينة الجنس واللغة والثقافة، وامتزجت هذه الشعوب بالعنصر العربي فأصبح لدينا أمَّة عربيَّة تتألَّف من أجناسٍ مختلفةٍ، وأدى امتزاج هذه الثقافات إلى تطور شمل جوانب الحياة كلها.[١]

كان الخلفاء في العصر العبّاسيّ الأوّل مصدر أدبٍ وعلمٍ وسياسةٍ ونفوذٍ لأنَّهم لا يُريدون تثبيت أركان دولتهم من خلال إشهار السيوف فقط بل من خلال الخُطَب والشعر أيضاً، فقد رووا الشعر وانتقدوه واستمعوا للشعراء وأجزلوا لهم العطايا فتزاحم الشعراء على أبوابهم من عامّة الأقطار، فنهض الشعر نهضةً كبيرة.[٢]

لم تقف النزعة العقلية في العصر العبّاسيّ إلى حدّ الشعر بل امتدَّت إلى مجالاتٍ أخرى، فترى أهل العلم يُخالطون العلماء مُشجِّعين إيّاهم على مدّ الدولة العبّاسيّة بالحضارة اللازمة من علومٍ وفنونٍ، وقد عمل أبو جعفر المنصور جاهدًا على وضع الأساس لنشأة العلوم المختلفة من علوم شرعيّة ولسانيّة وفلسفيّة.[٣]

أتمّ الخلفاء العباسيون كالرشيد والمأمون ما بدأ به المنصور فعُدَّ هذا العصر عصر النشأة العلمية، ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ بل إنَّ اختلاط العرب بالفرس أدَّى إلى تنشيط حركة الترجمة، فأغدق الخلفاء المال والعطايا على النَّقَلة والمترجمين.[٣]

أبرز مظاهر النزعة العقلية في علوم العصر العباسي

شملت النزعة العقلية في العصر العبّاسيّ مجالاتٍ كثيرةً من أبرزها ما يأتي:

النزعة العقلية في العلوم الدينية

ازدهرت العلوم الدينية في العصر العباسي وفيما يأتي تفصيل ذلك:

  • الحديث النبوي الشريف

كان رواة الحديث يُضيفون إليه ما أُثر عن الصحابة في تعاليم الدين الحنيف وما أُثِر عنهم وعن الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- في تفسير القرآن الكريم، فضمَّ الحديث كل ما هو متّصل بالتشريع والفقه والتفسير، فتكاثر التصنيف فيه في العصر العبّاسيّ ووُزِّع في المصنَّفات على أبواب الفقه.[٤]

ومن العلماء الذين صنّفوا الحديث في الجيل الأوّل عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج بمكة ومعمر بن راشد باليمن، ومن الجيل الثاني مالك بن أنس بالمدينة وسفيان بن عيينة بمكة، ومن أهمّ ما وصل إلينا من الجيليْن كتاب "الموطَّا" لمالك بن أنس، وقد ظهرت طرقٌ جديدة في التصنيف تقوم على تلخيص الحديث من الفقه بما يُعرف بالمسانيد وممن اتبع هذه الطريقة الربيع بن حبيب الإباضي.[٤]

  • المذاهب الفقهية

ازدهر الفقه في هذا العصر فكان العلماء يصوغونه صياغةً علميةً كما فعل علماء النحو، فكان منهم من يبحث عن نص من القرآن أو السنة يلجأ إليه في فتواه ومنهم من كان يتّسع في الاستنباط والقياس على ضوء تعاليم الإسلام.[٥]

تحوّل هذان الاتّجاهان إلى مذهبَيْن واضحَيْن في الفقه والتشريع هما مذهب أبي حنيفة في الكوفة والعراق ومذهب مالك في المدينة والحجاز، أمّا الشافعي فقد استقلَّ بمذهب خاص به ثمّ تبعهم ابن حنبل بمذهبٍ رابع وقد اتبعه عامَّة بغداد في ذلك الوقت.[٥]

النزعة العقلية في العلوم اللغوية

ازدهرت علوم اللغة في العصر العباسي وذلك لما حظيت به من عناية، وفيما يأتي تفصيل ذلك:

  • علم اللغة

ظهرت الحاجة لعلم اللغة بسبب دخول الألفاظ الغريبة إلى اللغة العربية فظهر الفساد في موضوعات الألفاظ حتى استُعمِلت في غير مواضعها، فاعتنى العلماء باللغة والعربية ومنهم الجاحظ الذي اهتمَّ بعلوم اللغة والبيان فخصّص في كتابه "البيان والتبيين" فصولًا في بيان محاسن النطق السليم وأثره في المستمع.[٦]

  • النحو

انتشرت ظاهرة اللحن في قراءة القرآن الكريم فرأى العلماء أنّ من الضروري الكتابة في علم النحو، ومن هؤلاء العلماء في بلاد الشام العلَّامة أبو علي الفارسي الفسوي وقد تعلَّم ابن جنّي النحو منه ويُقال أنَّه أوصى بثلث ماله لنُحاة بغداد، وله كتاب "التذكرة" و"الإغفال"، ومنهم أيضًا أبو الحسن الأخفش الأصغر الذي له كتاب "شرح كتاب سيبوبه" و"الأنواء".[٧]

كانت البصرة تسبق الكوفة في وضع قواعد علم النحو ومصطلحاته، وقيل أنَّ أبا الأسود الدؤلي كتب شيئًا في علم النحو ولكنَّه في الحقيقة لم يكتب شيئًا بل وضع فقط نقط المصحف بشكل يُعين على حركات الإعراب.[٨]

  • الأدب (النثر)

ظهرت أهمية النثر في الخطب فكان الخطباء يُرصِّعونها بآياتٍ من القرآن الكريم، وقد بيَّن الجاحظ في كتابه "البيان والتبيين" سمات الخطباء المُجيدين وبيّن عيوبهم، ولم يقتصر الأمر عند الخطبة بل تعدَّاه إلى فنونٍ أدبية نثرية أخرى فظهر عددٌ من الأدباء منهم أبو صالح البخاري والبازياراني وابن خالويه.[٩]

  • الأدب (الشعر)

اتخذ الشعر في هذا العصر أغراضًا جديدة كالغزل والخمريات بالإضافة إلى أغراضه القديمةً كالنسيب والفخر والحماسة كالفروسية ووصف المعارك، وقد تكلّف الشعراء المعاني والألفاظ والاستعارات والبديع، وبرز في هذا العصر عدد من الشعراء كالبحتري وأبي تمام والمتنبي،[١٠] وفيما يأتي أبيات للمتنبي قالها في مدح سيف الدولة الحمداني:[١١]

على قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ

وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ

وَتَعظُمُ في عَينِ الصَغيرِ صِغارُها

وَتَصغُرُ في عَينِ العَظيمِ العَظائِمُ

يُكَلِّفُ سَيفُ الدَولَةِ الجَيشَ هَمَّهُ

وَقَد عَجَزَت عَنهُ الجُيوشُ الخَضارِمُ

وَيَطلِبُ عِندَ الناسِ ما عِندَ نَفسِهِ

وَذَلِكَ مالا تَدَّعيهِ الضَراغِمُ

يُفَدّي أَتَمُّ الطَيرِ عُمرًا سِلاحُهُ

نُسورُ المَلا أَحداثُها وَالقَشاعِمُ

وَما ضَرَّها خَلقٌ بِغَيرِ مَخالِبٍ

وَقَد خُلِقَت أَسيافُهُ وَالقَوائِمُ

هَلِ الحَدَثُ الحَمراءُ تَعرِفُ لَونَها

وَتَعلَمُ أَيُّ الساقِيَينِ الغَمائِمُ

سَقَتها الغَمامُ الغُرُّ قَبلَ نُزولِهِ

فَلَمّا دَنا مِنها سَقَتها الجَماجِمُ

بَناها فَأَعلى وَالقَنا تَقرَعُ القَنا

وَمَوجُ المَنايا حَولَها مُتَلاطِمُ

وَكانَ بِها مِثلُ الجُنونِ فَأَصبَحَت

وَمِن جُثَثِ القَتلى عَلَيها تَمائِم


النزعة العقلية في العلوم الاجتماعية والإنسانية

كان للعلوم الاجتماعية والإنسانية ركناً في حركة النشاط الفكري والعلمي، وفيما يأتي يبان ذلك:

  • علم التاريخ

كان التاريخ مدرسةً للحكام والشعوب يستمدُّون منه دروسًا تُساعدهم في مواجهة الحاضر، وقد كان التاريخ في بداياته متأثِّرًا بالحديث ثمّ أخذ ينفصل ليُصبح علمًا قائمًا بذاته وقد وضع مؤرِّخو الإسلام منهجًا ثابتًا لكتابة التاريخ مثل صدق الرواية وأمانة الكلمة.[١٢]

كتب علماء التاريخ في السيرة والمغازي مثل سيرة ابن هشام، والوقائع الإسلامية مثل فتوح البلدان للبلاذري، والأنساب مثل كتاب الفريد في الأنساب لهشام الكلبي، وتاريخ الأمم والأديان الأخرى وقد ترجم ابن المقفع العديد من الكتب عن تاريخ الفرس، والتراجم والطبقات مثل وفيات الأعيان لابن خلّكان.[١٣]

كذلك كتبوا في الحوليات مثل كتب الطبري والمسعودي، والتواريخ المحلية مثل كتاب أخبار الأُول فيمن تصرَّف في مصر من الدول للإسحاقي، والخطط التي تُعبِّر عن الموسوعات التاريخية والأثرية مثل كتاب المواعظ الأذكار للمقريزي.[١٣]

  • علم الجغرافيا

كانت الحاجة إلى علم الجغرافيا في البداية في الحل والترحال والعبادة والحج، وقد شجَّعت الدولة على السفر من خلال توفُّر الأمن والأمان، وقام المسلمون بالسفر فجابوا البلاد وتوسَّعوا في سفرهم وأقاموا علاقاتٍ تجاريَّةً وصحَّحوا بعض المعلومات الجغرافيَّة التي وصلت إليهم عبر اليونان.[١٤]

ظهر أدب الرحلات عند المسلمين على يد تاجرٍ يُدعى سليمان البحار فقد جاب البحار إلى الهند والصين وكتب ما شاهد من أخبار البلاد وعادات أهلهم وتقاليدهم، ومن علماء الجغرافيا المسلمين اليعقوبي فهو أول جغرافي من المسلمين وصف الممالك معتمدًا على ملاحظاته الخاصة فقد زار مدنًا كثيرةً وعُرِف كتابه في الجغرافيا باسم "البلدان"[١٥]

النزعة العقلية في العلوم العقلية والتجريبية

نشطت العلوم العقلية والتجريبية في العصر العباسي بشكل كبير، والآتي يُبين ذلك:

  • حركة الترجمة

عندما امتزج العرب مع الشعوب الأخرى اطَّلعوا على ما عند هذه الشعوب من تراث علمي وفلسفي، وكان أول خليفة اهتم بترجمة كتب الأعاجم الخليفة أبو جعفر المنصور، أمّا الرشيد فكان له الفضل في رواج الترجمة، أمّا المأمون فلما قرأ كتب الأعاجم أُعجب بها وقوَّى حركة الترجمة وشجَّع عليها.[١٦]

  • الفلسفة

كتب أبو علي الحسين بن سينا كتبًا فيها بعض الإشارات في الفلسفة والنجاة والإلهيات وقصيدة النفس، ويُعدُّ إخوان الصفا ورسائلهم مرجعًا كبيرًا في الفلسفة.[١٧]

  • علم النبات

عُرفت مركَّباتٌ كيميائية باسم علم النبات، فوُلدت أنواعٌ جديدة واستُخرجت منه الأدوية المختلفة.[١٧]

  • الطب

نبغ في هذا العصر أبو بكر االرازي فألف كتاب "الحاوي" في الأمراض ومداواتها، والطب المنصوري ألفه للأمير منصور الساماني.[١٨]

  • الكيمياء

اكتشف الرازي حامض الكبريتيك وطريقة استعماله التي ما زالت تستخدم إلى الآن، وله كذلك مؤلَّفات في الكيمياء.[١٨]

  • الفلك

بُنيت المراصد للنجوم وأُبطلت صناعة التنجيم.[١٧]

أبرز أعلام النزعة العقلية في العصر العباسي

برز في العصر العباسي عدد من الأعلام في كل المجالات، ومن أبرزهم ما يأتي:[١٨]

  • أبو نصر الفارابي، وقد كتب عددا من الكتب في مجالات عديدة كالمنطق والسياسة والأدب والرياضيات وغيرها من المجالات.
  • أبو علي بن سينا، انفرد ابن سينا بقوة العقل وسعة العلم وألّف في كل فن.
  • عمرو بن بحر الجاحظ، اهتم بعلوم اللغة والبيان وأورثنا عددا كبيرا من المؤلفات.[٩]
  • أحمد بن الحسين المتنبي، وهو من مفاخر الأدب العربي وهو شاعر ندرت أمثاله.[١٠]

المراجع

  1. شوقي ضيف ، تاريخ الأدب العربي ج3، العصر العباسي الأول، صفحة 89-90. بتصرّف.
  2. السباعي بيومي، تاريخ الأدب العربي في العصر العباسي، صفحة 9. بتصرّف.
  3. ^ أ ب السباعي بيومي، تاريخ الأدب العربي في العصر العباسي، صفحة 9-10. بتصرّف.
  4. ^ أ ب شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي ج3، العصر العباسي الأول، صفحة 126-127. بتصرّف.
  5. ^ أ ب شوقي ضيف ، تاريخ الأدب العربي ج3، العصر العباسي الأول، صفحة 129-130. بتصرّف.
  6. أيمن البطوش، الحياة العلمية والثقافية في بلاد الشام في العصر العباسي الثاني، صفحة 102-103. بتصرّف.
  7. أيمن البطوش ، الحياة العلمية والثقافية في بلاد الشام في العصر العباسي الثاني، صفحة 105-106. بتصرّف.
  8. شوقي ضيف ، تاريخ الأدب العربي ج3، العصر العباسي الأول، صفحة 121. بتصرّف.
  9. ^ أ ب أيمن البطوش، الحياة العلمية والثقافية في بلاد الشام في العصر العباسي الثاني، صفحة 102-111. بتصرّف.
  10. ^ أ ب أيمن البطوش، الحياة العلمية والثقافية في بلاد الشام في العصر العباسي الثاني، صفحة 115- 121. بتصرّف.
  11. "على قدر أهل العزم تأتي العزائم"، الديوان.
  12. سعيد عاشور، سعد زعلول عبد الحميد، أحمد العبادي، دراسات في تاريخ الحضارة الإسلامية العربية، صفحة 63-66. بتصرّف.
  13. ^ أ ب سعيد عاشور، سعد زعلول عبد الحميد، أحمد العبادي، دراسات في تاريخ الحضارة الإسلامية العربية، صفحة 67-74. بتصرّف.
  14. سعيد عاشور، سعد زعلول عبد الحميد، أحمد العبادي، دراسات في تاريخ الحضارة الإسلامية العربية، صفحة 74-75. بتصرّف.
  15. سعيد عاشور، سعد زعلول عبد الحميد، أحمد العبادي، دراسات في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، صفحة 75-76. بتصرّف.
  16. عبد اللطيف بو عبدلاوي، فقه ابن الماجشون، صفحة 31-32. بتصرّف.
  17. ^ أ ب ت السباعي بيومي، تاريخ الأدب العربي في العصر العباسي، صفحة 302. بتصرّف.
  18. ^ أ ب ت السباعي بيومي، تاريخ الأدب العربي في العصر العباسي، صفحة 301-302. بتصرّف.
4963 مشاهدة
للأعلى للسفل
×