تأملات في الألغاز النحوية

كتابة:
تأملات في الألغاز النحوية

مفهوم اللغز النحوي

إنّ اللغز في اللغة في الأصل هو حفرة يحفرها اليربوع أو الفأر أو الضبّ في الأرض،[١] فهذه الحيوانات تحفر جحرها بحفرة مستقيمة ثمّ تعدل عنه يمينًا وشمالًا لتخفي مكانها بذلك، وهذا هو الأصل في اللغز في اللغة ومن هنا قد أخذوا للغز اسمه،[٢] وأمّا اصطلاحًا فيمكن القول إنّ الألغاز النحوية هي ألغاز تشتمل على مشكلات إعرابيّة مقصودة قد عم إليها المُلغِز ببراعة وذكاء كبيرَين؛ بهدف تنشيط القريحة العربيّة السليمة التي تنفي اللحن وأسبابه وتسعى لمعرفة النطق السليم العالي للغة، وتُعدُّ الألغاز من أقدم الأشكال الأدبية التي عرفها الإنسان؛ لما فيها من رياضة للذّهن تستفزّ العقل للعمل على حلّها وإطفاء نار الحَيْرَة داخل فكره، وهذا الفنّ عمومًا يعبّر عن توسّع علوم اللغة العربيّة وشواهدها، وقد صارت هذه الظاهرة -أي ظاهرة الألغاز النحويّة- فنًّا في عصر من العصور، حتى صار كبار العلماء يتسابقون في التأليف في هذا الفن، وسيقف المقال فيما يأتي مع تأملات في الألغاز النحوية.[٣]


تأملات في الألغاز النحوية

إنّ علم النحو من أشرف علوم اللغة العربيّة، فلا سبيل لفهم اللغة من غير أن يتقنَ المتعلّمُ علم النّحو، فمن لم يفهم اللغة لن يفهم دينه، ولن يفهم ما جاءت به الشريعة الإسلاميّة سواء في القرآن الكريم أم في الحديث النبويّ الشريف، وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى القول بوجوب تعلّم النّحو من أجل فهم اللغة التي تؤدّي إلى فهم الدّين فهمًا صحيحًا لا سقم فيه ولا خطأ، وقد قال الإمام العز بن عبد السلام إلى وجوب تعلّم النحو لأنّه يرى فيه السبيل إلى فهم الكتاب والسنة وحفظ الشريعة، ويرى ابن فارس صاحب مقاييس اللغة أنّ تعلّم اللغة واجب على أهل العلم؛ لئلّا يحيدوا في مؤلّفاتهم وفتاويهم "عن سنن الاستواء"، وأمّا الإمام ابن حزم فيرى فيه سقوط علم النحو سقوطًا لفهم القرآن وفهم السنة النبويّة العطرة، وفي ذلك سقوط للإسلام، وقال: "من طلب النحو واللغة على نية إقامة الشريعة بذلك، وليفهم بهما كلام الله تعالى، وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم، وليُفهمه غيره؛ فهذا له أجرٌ عظيمٌ، ومرتبةٌ عاليةٌ لا يجب التقصير عنها لأحد".[٤]


ومن هذا المنطلق كان الناس يتسارعون إلى تعلّم النّحو الذي هو أحد أعمدة اللغة العربيّة التي أسهب الأدباء والعلماء في وصف شرفها وعلوّ منزلتها، وقبل ذلك يكفيها تشريفًا نزول القرآن الكريم بها، وأنّها لغة آخر الأنبياء صلّى الله عليه وسلّم، والألغاز النحوية هي ضربٌ من العلوم التي يُبحث فيها عن الألفاظ المخالفة لقواعد اللغة العربيّة ظاهرًا، ولكنّها تتّفق معها باطنًا، فعماد اللغز النحوي هو تشكيل مفارقةٍ نحويّةٍ ظاهرةٍ تجعلُ السامع يتقبّل هذا القول أو ذاك على حذر لمخالفته للقاعدة النحوية، والغالب على تلك الألغاز أن تكون موجزة مقتضبة؛ لئلّا يملّ السامع أو يناله الضّجر، فتدور الألغاز حول مسألة نحوية جاءت على خلاف المتفق عليه أو أن تكون مسألة غير مشهورة، وقد يكون اللغز منظومًا في بيت من الشعر فيه مفردة أو أكثر تخالف القاعدة ظاهريًا، أو أن يكون البيت فيه سؤال عن مسألة نحوية ما، أو قد يكون السؤال منثورًا بسطر أو جملة يخفي في ثناياه سؤالًا لأهل الخبرة والعلم في ذلك الفن، والغالب أنّ الذين يمكنهم الإجابة عن هذه الألغاز هم من العالمين باللغة العارفين بأسرارها، وفي ذلك تحقيقٌ لفائدة اكتساب العلم على أفضل وجه، والله أعلم.[٥]


الألغاز النحوية النثرية

يقول الإمام ابن هشام الأنصاري إنّ اللغز النحويّ قسمان: قسمٌ يُطلب به تفسير معنى، وقسم يُطلب فيه وجه الإعراب، ويشمل هذا الكلام الألغاز النثريّة والشعريّة،[٦] فأمّا الألغاز النحوية النثرية فهي في الغالب تكون عبارة عن عبارتين قصيرتين مكثَّفَتَين يلتزم فيهما المُلغِز الموازنة أو التساوي، ويكون التلغيز فيها من جهتين: الأولى هي التكثيف والتركيز، والجهة الثانية هي الغوص في المسائل النحوية الدقيقة التي تحتاج إلى إعمال العقل وكدّ الذّهن، وهذه السمة هي البارزة على الألغاز النثريّة النحويّة،[٧] وستقف هذه الفِقرة تاليًا مع بعض النماذج من تلك الألغاز:


ما منصوبٌ أبدًا على الظّرف لا يخفضه سوى حرف؟ والجواب هو كلمة "عند"، فهي كلمة تُعرب ظرفًا منصوبًا، ولكن عندما يدخل عليها حرف الجر تصبح مجرورة، وينبغي العلم أنّ الحرف الوحيد الذي يجر الظرف عند هو حرف الجر مِن، فيقولون: جلستُ عندَه، وأتيتُ من عنده.


أخبرني عن زائد يمنع الإضافة ويؤكّدها، ويفك تركيبها ويؤيّدها، والجواب هو حرف اللام في قولهم: لا أبا لك؛ فهي مانعة للإضافة، وفاكّة لتركيب الجملة بفصلها بين ركني الجملة وهما المضاف والمضاف إليه، ومع هذا فهي مؤكدة للمعنى ومؤيّدة للفائدة من حيث إنّها قد وضعت لإعطاء معنى الاختصاص.


  • يقول الزمخشري أيضًا:[١٠]

أخبرني عن حلفٍ ليس بحلف، وعن إمالة في غير ألف، فهذا السؤال ينقسم شقّين: الأوّل يكون الجواب عنه بمثل قولهم: بالله إلّا زرتني، وقولهم: بالله لمّا لقيتني، وقولهم: بحقّ ما بيني وبينك لتفعلنّ، فهذه كلّها صورتها صورة حلف، ولكنّه ليس كذلك؛ إذ المقصود به هو الطلب والسؤال، وأمّا الشقّ الثاني من السؤال فالإجابة عنه هي إمالة الفتحة قبل راء مكسورة نحو قولهم: الضَّرِر.


  • يقول الإمام عز الدين بن عبد السلام:[١١]

ما الحرف الذي شأنه ينقص الكامل، ويفصل بين المعمول والعامل؟ والجواب عن هذا السؤال هو حرف النون، فقد تكون هي نون التوكيد الخفيفة التي تنقص الفعل المضارع، وإذا كانت تفصل بين المعمول والعامل فهي نون الوقاية في نحو قولهم: أكرمني محمّد.


  • يقول الإمام ابن هشام الأنصاري:[١٢]

ضمير مجرور لا يصح أن يُعطف عليه اسم مجرور، أعدتَ الجار أم لم تُعِده، والجواب عن هذا اللغز هو أنّ المقصود هو الضمير المجرور بلولا، نحو: لولاي وموسى؛ إذ إنّ لولا حرف جر شبيه بالزّائد، وما بعدها يُعرب مبتدأ، فعندها لا يصح أن يُعطف على مجرورها اسم مجرور، بل هو اسم مرفوع، ولولا عندما تكون حرف جر شبيه بالزائد فإنّها لا تجر إلّا الضمائر ولا تجر الأسماء، فالخلاصة أنّ الاسم المعطوف على الضمير المجرور بلولا هو اسم مرفوع، وحتى لو أُعيد ذكر الجار -الذي هو لولا- فإنّ الاسم يبقى مرفوعًا ولا يُجر، وما يُعطف عليه محله الرفع لا الجر، والله أعلم.[١٣]


الألغاز النحوية الشعرية

يقف هذا الجزء من الفقرة الأخيرة مع الألغاز النحوية الشعرية في التراث العربي، والألغاز الشعرية نوع مستقل من الألغاز والأحاجي النحوية، وسيتوقّف هذا الجزء مع بعض الألغاز النحوية التي نظمت في أبيات شعرية، والتي قالها بعض الأدباء والشعراء فيما مضى، وجُمعت في بعض المصنفات، ومن ذلك:


يشكو الخِشاش ومُجرى النِّسعتين كما

أنَّ المريضُ إلى عوّاده الوِصَبُ


المشكلة في هذا البيت هي رفع كلمة المريض بعد أنَّ مع أنّ الظاهر أنّ كلمة المريض هي اسم أنّ، والاسم بعد إنّ وأخواتها منصوب لا مرفوع، ولكن أنَّ هنا ليست الحرف المشبّه بالفعل، بل هو فعل ماضٍ من الأنين، أنَّ يئنُّ أنَّةً، فإذًا كلمة المريض بعده في فاعل وليس اسم أنَّ، والوصب صفة للمريض.


وَخِلَّيْن مقرونين لَمَّا تعاونا

أزالا قُصَيًّا في المحلِّ بعيدا

وينفيهما إن أحدث الدهرُ دولةً

كما جعلاه في الديارِ طَريدا


ويقصد المعري بهذا اللغز ألف ولام التعريف؛ أي: ال التعريف، فهما حرفان مقرونان إذا اتّصلا بنكرة صارت معرفة، فبذلك تكون ال التعريف قد أزاحت النكرة من محل إلى محل آخر وهو التعريف، والله أعلم.


فلو ولَدَت قفيرةُ جَرْوَ كلبٍ

لسُبَّ بذلكَ الجروِ الكلابا


والإشكال هنا في نصب كلمة "الكلابا" مع أنّ حقّها الرّفع على أنّها نائب فاعل ظاهريًّا، ولكن الحقيقة أنّ نائب الفاعل محذوف يُقدّر بكلمة "السّبُّ"، وعليه تكون كلمة "الكلابا" مفعول به للفعل سُبَّ، وهي ضرورة لا تجوز في غير الشعر كما يرى ابن هشام رحمه الله.


  • قال بعضهم فيما يرويه عنه ابن هشام في كتاب الألغاز:[١٧]

لقد قالَ عبدَ اللهِ شرَّ مقالةٍ كفى بك يا عبدُ العزيزُ حسيبُها

وهذا البيت فيه ثلاث مشكلات ظاهريًّا:

  • الأولى: هي فتح "عبدَ الله" مع أنّ حقّه الرفع على أنّه فاعل ظاهريًّا.
  • الثانية: هي رفع "عبدُ" وكان حقّه النصب ظاهريًّا على أنّه منادى مضاف.
  • الثالثة: هي رفع "العزيزُ" مع أنّه يجب أن يكون مجرورًا على أنّه مضاف إليه.

والجواب عن هذه الإشكالات يكون من ثلاثة أوجه:

  • الوجه الأوّل: إنّ كلمة "عبدَ" هي منادى مرفوع، وأصلها عبدان، ولكن حذفت النون للإضافة، ثمّ حُذفت الألف لالتقاء الساكنين.
  • الوجه الثاني: إنّ كلمة "عبدُ" هي منادى مرخّم أصله "عبده" على لغة من لا ينتظر، ويجوز على لغة من ينتظر نصب كلمة "عبدَ".
  • الوجه الثالث: إنّ كلمة "العزيزُ" ليست مضافًا إليه، ولكن هي مبتدأ خبره كلمة "حسيبها"، والله أعلم.
وبذلك يكون معنى البيت: إنّ عبد الله قد تفوّها بمقالة كلّها شرّ، فلا تهتمّ بها أيّها المخاطب، وأنت عبد الله أيضًا، لأنّ الله العزيز قادرٌ على أن يكفيكَ تلك المقالة وأن يدفعها عنك، والله أعلم.

المراجع

  1. "الألغاز والأحاجي والمعميات وغيرها"، www.hindawi.org، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-30. بتصرّف.
  2. "تعريف و معنى اللغز في قاموس لسان العرب"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-29. بتصرّف.
  3. مجموعة من المؤلفين، أرشيف منتدى الفصيح 2، صفحة 1. بتصرّف.
  4. "النحو العربي والعلوم الإسلامية"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-07-30. بتصرّف.
  5. د. سماسم بسيوني عبد العزيز مطر، [http:// "الألغاز النحوية طبيعتها وقيمتها في التراث النحوي"]، حولية كلية اللغة العربية بالمنوفية، العدد 32، صفحة 759. بتصرّف.
  6. جلال الدين السيوطي (2003)، الطراز في الألغاز (الطبعة 1)، القاهرة:المكتبة الأزهرية للتراث، صفحة 9. بتصرّف.
  7. [http:// "الدرس النحوي في ألغاز النحاة وأحاجيهم"]، مجلة ميسان للدراسات الأكاديمية، العدد 18، صفحة 3. بتصرّف.
  8. جلال الدين السيوطي (2003)، الطراز في الألغاز (الطبعة 1)، القاهرة:المكتبة الأزهرية للتراث، صفحة 10. بتصرّف.
  9. جلال الدين السيوطي (2003)، الطراز في الألغاز (الطبعة 1)، القاهرة:المكتبة الأزهرية للتراث، صفحة 18. بتصرّف.
  10. جلال الدين السيوطي (2003)، الطراز في الألغاز (الطبعة 1)، القاهرة:المكتبة الأزهرية للتراث، صفحة 24. بتصرّف.
  11. جلال الدين السيوطي (2003)، الطراز في الألغاز (الطبعة 1)، القاهرة:المكتبة الأزهرية للتراث، صفحة 57. بتصرّف.
  12. جلال الدين السيوطي (2003)، الطراز في الألغاز (الطبعة 1)، القاهرة:المكتبة الأزهرية للتراث، صفحة 11. بتصرّف.
  13. جلال الدين السيوطي (2003)، الطراز في الألغاز (الطبعة 1)، القاهرة:المكتبة الأزهرية للتراث، صفحة 11. بتصرّف.
  14. الحسن بن أسد الفارقي (1974)، الإفصاح في شرح أبيات مشكلة الإعراب (الطبعة 2)، ليبيا:جامعة بنغازي، صفحة 87. بتصرّف.
  15. السيوطي، كتاب الألغاز النحوية الطراز في الألغاز، صفحة 46. بتصرّف.
  16. جمال الدين ابن هشام الأنصاري، ألغاز ابن هشام في النحو (الطبعة 1)، بيروت:مؤسسة الرسالة، صفحة 21. بتصرّف.
  17. جمال الدين ابن هشام الأنصاري، ألغاز ابن هشام في النحو (الطبعة 1)، بيروت:مؤسسة الرسالة، صفحة 23. بتصرّف.
2549 مشاهدة
للأعلى للسفل
×