شرح سورة الطارق

كتابة:
شرح سورة الطارق

قسم الله على حفظ الإنسان وأعماله

تُعدّ سورة الطّارق من السّور الجامعة، إذ تعرِض الحقائق الكونيّة بدقّةٍ مُتناهية، وتجعل الغافل يتيقّظ من غفلتِه،[١] حيث افتُتحت السّورة بقول الله -تعالى-: (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ* وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ* النَّجْمُ الثَّاقِبُ* إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ)،[٢] إذ ابتدأ الله -عزّ وجلّ- السّورة بالقسم بالسّماء؛ وذلك لأنّ السّماء وما تحوي من نجومٍ وشُهبٍ وغيره، من أكبر دلائل عظمة الله وإبداعه في خلق الكون، ثمّ أقسم الله -تعالى- بالطّارق؛ وهو النّجم المضيء في ظلمات اللّيل،[٣] إذ إنّ كلّ ما يظهر ليلاً يُسمّى طارقًا.[٤]


وبعد أن أقسم الله -تعالى- به، ورد السؤال مرةً أخرى: (وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ) وجاء التفسير بالآية الّتي تليها بأنّه النّجم الثّاقب؛ أيّ شديد الإضاءة والتّوهج، وهذا يدلّ على تعظيم الله لشأنه، وفيه تتجلّى عظمة الخالق، وأمّا جواب القسم فهو أنّ الله جعل لكلّ نفسٍ بشريّة حافظ ورقيب، والحافظ له معنيان كلاهما صحيح:[٥]

  • الأول: أنّ الله -تعالى- جعل ملائكة موكّلة على النّفس تُدوّن أعمالها وتحصيها.
  • الثاني: أنَّ الله -تعالى- جعل ملائكة حَفظة تحفظ الإنسان وتحميه.


وعليه فإنّ الله لمَّا أقسم بالسّماءِ والنّجوم؛ للتأكيد على أنّ لكلّ نفسٍ رقيباً وحفيظاً، وهذا يجعل المؤمن يحرص على صلاح قلبه، وينتبه لأفعاله وأقواله؛ لأنّها مراقبة ومُسجّلة.[٥]


يُقسم الله -تعالى- بالطارق على حفظ العباد وكتابة أعمالهم.


دعوة الإنسان للتفكر مم خلق

جاءت بعد ذلك الآيات مُستفهمةً: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ* يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ)،[٦] فبعد أن أثبت الله -تعالى- للإنسان أنّه مراقبٌ ومحاسبٌ على كلّ صغيرة وكبيرة، دعاه للتّفكر في نشأته وكيفيّة خلقه؛ ليتيقّن الإنسان أنّ مَن خلقه وأنشأه قادرٌ على محاسبته يوم القيامة، فعليه أن يضع ذلك نصْب عينيه، ويُعِدُّ نفسه ليوم الحساب.[٧]


وأجاب الله -تعالى- على هذا الاستفهام بأنّه خلق الإنسان من الماء الدّافق؛ أيّ الذي يتدفّق وينصبّ في رحم المرأة، فقصد الله -تعالى- هنا ماء الرّجل وماء المرأة اللّذان يجتمعان في رحمِ المرأة ويتكوّن منه الجنين،[٧] وهذا الماء يخرج من الصُّلب؛ أيّ من عظام ظهر الرّجل، ومن التّرائب؛ أيّ عظام صدر المرأة، فذكّر الله -تعالى- الإنسان بأصل خَلقه؛ كي لا يتكبّرَ ويعصي خالقه.[٨]


يدعو الله عباده للتفكّر بأصل خلقهم وبداية نشأتهم.


البعث والجزاء يوم القيامة 

يُتبع الله الآيات بقوله -تعالى-: (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ* يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ* فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ)،[٩]أي إنّ الله على رجع وإعادة الإنسان لقادر، وهذه الآية فُسّرت عند العلماء بثلاثة وجوه:[٥]

  • الأول: أنّ الله -تعالى- قادرٌ على إرجاع الإنسان إلى الحياةِ بعد موته وبعثه من جديد ليُحاسبه.
  • المعنى الثاني: أنّ الله -تعالى- قادرٌ على إرجاع الإنسان من حال الشّيخوخة إلى حال الشّباب.
  • المعنى الثالث: أنّ الله -تعالى- قادرٌ على إرجاع ماء الرّجل وماء المرأة ومنعه، فلا يتكوّن منهما الولد إن أراد الله ذلك.


ثمّ يأتي هذا اليوم الذي تظهر فيه السّرائر؛ وهي كلّ ما يُخفيه الإنسان في داخله من المعتقدات والنّوايا، وكلّ الأعمال المخفيّة التي لا يطّلع عليها أحد، فتنكشف كلّها وتظهر أمام الخالق يوم القيامة، وعندها لا يستطيع الإنسان إنكار أيّ أمرٍ كان بينه وبين الله -تعالى-، ويكون حينها متجرّداً من قوّتِه، ولا أحد يُعينه ويحميه.[١]


العباد ضعيفون محتاجون لربّهم في كلّ حين ويوم القيامة لن يكون لأحد قوة ولا ناصر إن لم ينصره الله ويعينه.


قسم الله على أن القرآن كتاب الحق

جاءت هذه الآيات لتدلّ على صدق وعظمة القرآن الكريم، فالله -تعالى- يقول: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ* وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ* إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ* وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ)؛[١٠] فقد أقسم الله -تعالى- بالسّماء مرّةً أخرى، ووصفها بأنّها ذات الرَّجع، والرّجع في اللّغة؛ يُطلق على الشيء الذي يرجع ويتكرّر، وهو هنا المطر الذي يرجع إلى السّماء في كلّ موسم، فينزل إلى الأرضِ، ثمّ يتبخّر ثانية ويعود إلى السّماء لتُمطرَ من جديد.[٥]


وأقسم بالأرض ذات الصّدع؛ أيّ ذات الشّقّ، فالأرض بطبيعة الحال عندما ينزل عليها المطر تتصدّع وتتشقّق ليخرجَ منها النّبات، فأقسم الله -تعالى- بالسّماء والأرض؛ ليَستشعر الإنسان نعم الله عليه.[٤]


وأجاب الله على هذا القسم بقوله: (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ)، والضمير هنا يعود على على القرآن الكريم، فوصفه الله -تعالى- بالقول الفَصْل الذّي يَفصل ويُفرّق بين الحقّ والباطل،[١١] فكتاب الله لا هَزْل فيه؛ أيّ كلّه جِدّ وصدق لا لعب فيه ولا باطل، وما نزل إلّا من أجل هداية الضّالين، ووصف الله -تعالى- القرآن الكريم بهذه السّمات العظيمة؛ لتزدادَ هيبة وعظمة القرآن الكريم في قلب المؤمن، فيتيقّن عند قراءته وسماعه أنّ القرآن الكريم ما نزل للهزل والمزاح، فيَخشى الله ويكون جادّاً مُطيعاً عند سماع أوامر الله -تعالى- ونواهيه.[١٢]


يُقسم الله بالسماء على صدق القرآن الكريم وأنّه كلام الله البعيد عن الهزل.


إمهال الكافرين للمجازاة يوم القيامة

قال الله -تعالى-: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً* وَأَكِيدُ كَيْداً* فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً)؛[١٣] يتحدّث الله في هذه الآيات عن الكافرين الذين يُشكّكون بصدق كلامه، فالضمير في كلمة إنّهم عائدٌ عليهم، وهم لم يُكذّبوا كلام الله فقط، بل دبّروا المكائد وخطّطوا ليُعرِضوا النّاس عن كلام الله -تعالى-، وليُطفئوا نور الله.[١٢]


ولكنّ الله -جلّ في عُلاه- يقابل مكيدتهم بكيدٍ أكبر، فيُمهلهم لأنّهم مهما بلغوا من كيدٍ وحقدٍ، إلّا أنّ قدراتهم لا تُساوي شيئاً أمام عظمة الله -تعالى- وجبروته؛ ولذلك قال -تعالى-: (فمهّل الكافرين)،[١٤] وهذا نوعٌ من التهديد والوعيد؛ أي اتركهم رُويداً وقليلاً ولا تستعجل على هلاكهم، فإنّ الله -تعالى- سيتولّاهم،[١٢] وفي تلك الآيات تصبيرٌ من الله -تعالى- للنبيّ -عليه الصّلاة والسّلام- وللمؤمنين بأنّ الله -تعالى- يرعاهم، وأنَّ كيد ومكر الكافرين ضعيف مقابل قوة وقدرة الله.[١]


يُبيّن الله -تعالى- أنّه يُمهل الكافرين ولكنّه يكيد لهم وسيعاقبهم على كفرهم وجحودهم.


تعريف عام بسورة الطارق

تُعدّ سورة الطّارق من السّور المكيّة،[١٥] وقد نزلت على رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قبل السّنة العاشرة للبعثة، ونزلت بعد سورة البلد،[١٦] وعدد آياتها سبع عشرة آية، وهي السورة السّادسة والثمانون في ترتيب القرآن الكريم،[١٧] وأمّا مناسبة السّورة لِما قبلها؛ فقد جاءت تتناسب مع السورة السّابقة لها وهي سورة البلد.[١٨]


المراجع

  1. ^ أ ب ت جعفر شرف الدين، كتاب الموسوعة القرآنية خصائص السور، صفحة 183-186. بتصرّف.
  2. سورة الطارق، آية:1-4
  3. أبو محمد البغوي (1420هـ)، تفسير البغوي- إحياء التراث (الطبعة الأولى)، بيروت: دار إحياء التراث العربي، صفحة 238-240، جزء 5. بتصرّف.
  4. ^ أ ب أَبُو اليُمْن العُلَيْمي، فتح الرحمن في تفسير القرآن، صفحة 334-338. بتصرّف.
  5. ^ أ ب ت ث مصطفى العدوي، سلسلة التفسير لمصطفى العدوي، صفحة 3-8. بتصرّف.
  6. سورة الطارق، آية:5-7
  7. ^ أ ب مجموعة من المؤلفين، التفسير الوسيط، صفحة 1365-1366. بتصرّف.
  8. الزمخشري، تفسير الزمخشري، صفحة 735. بتصرّف.
  9. سورة الطارق، آية:8-10
  10. سورة الطارق، آية:11-14
  11. البغوي ، أبو محمد، تفسير البغوي، صفحة 238-240. بتصرّف.
  12. ^ أ ب ت مجموعة من المؤلفين، التفسير الوسيط، صفحة 1368-1370. بتصرّف.
  13. سورة الطارق، آية:15-17
  14. سورة الطارق، آية:17
  15. أبو السعود، تفسير أبي السعود، صفحة 140. بتصرّف.
  16. ابن عاشور، التحرير والتنوير، صفحة 257. بتصرّف.
  17. سعيد حوَّى، الأساس في التفسير، صفحة 6465. بتصرّف.
  18. المراغي، أحمد بن مصطفى، تفسير المراغي، صفحة 109. بتصرّف.
5100 مشاهدة
للأعلى للسفل
×