تحليل قصيدة اعتذار للنابغة الذبياني

كتابة:
تحليل قصيدة اعتذار للنابغة الذبياني

تحليل قصيدة اعتذار للنابغة الذبياني

لمن وجّه النابغة قصيدة اعتذار؟

نظم النابغة الذبياني سطور هذه القصيدة، وهو أحد أشهر شعراء العصر الجاهلي، ولقد كانت هذه القصيدة موجهة للخليفة النعمان، يعتذر فيها النابغة منه، ويطلب وده ووصله:[١]

أَتاني -أَبَيتَ اللَعنَ- أَنَّكَ لُمتَني

وَتِلكَ الَّتي تَستَكُّ مِنها المَسامِعُ

يعبّر الشاعر في هذا البيت عن غضبه، وحرقة قلبه من لوم الملك له، وقد أكثر من استعمال الأفعال في البيت للدلالة على كثرة الحديث عن هذا الموضوع، وكان استخدام الأفعال الماضية في الشطر الأول دليلًا على أن اللوم قد مضى وانتهى، بينما الفعل المضارع تستك في الشطر الثاني هدف منه الدلالة على استمرار الغضب والحزن بسبب لوم الملك للشاعر.


مَقالَةُ أَن قَد قُلتَ سَوفَ أَنالُهُ

وَذَلِكَ مِن تِلقاءِ مِثلِكَ رائِعُ

إنّ إكمال معنى البيت الأول في البيت الثاني، وعدم تصريح النابغة بما وصله من كلام عن الخليفة، يدل على أن النابغة يأبى ويرفض أن يذكر الأمر الذي غضب منه الملك لأجله، فحاول أن يؤخره للدلالة على حزنه وتأوهه من ذكر ما قيل عن لوم النعمان له، واستطاع بالحيلة اللغوية وبراعة اللفظ أن يتودد للملك بأسلوب لطيف، بأن بيّن له بأن هذا اللوم لو كان من أي شخص آخر لما عنى له الأمر، إلا أن لوم الملك أمر مفزع ومثير للجدل.


لَعَمري وَما عُمري عَلَيَّ بِهَيِّنٍ

لَقَد نَطَقَت بُطلًا عَلَيَّ الأَقارِعُ

إن وضع النابغة في دائرة الاتهام واللوم والتقريع هو ما جعله يلجأ إلى أسلوب التوكيد في هذا البيت، فقد استخدم كل ما يمكنه من أدوات ليؤكد للملك أن التهمة التي ألحقت به باطلة، فأقسم ونفى واستخدم حرف التحقيق قد، ومن جهة أخرى أراد أن يبين للملك أنه مهتم بالأمر ومتابع له، فذكر أنه يعرف من الذي وشى به، ونطق عنه كلامًا منكرًا وغير صحيح، وهم بنو قريع.


أَتاكَ اِمرُؤٌ مُستَبطِنٌ لِيَ بِغضَةً

لَهُ مِن عَدوٍّ مِثلَ ذَلِكَ شافِعُ

عندما أراد النابغة أن يوضح للملك أنه مطّلع على الوشاية ويعرف تفاصيلها، بدأ يذكر له ما حصل، ويوضّح أنّ بني قريع يضمرون له الكره والحقد والضغينة، ويوضح للمك أن هذا الواشي الكذاب له من يسانده ويؤكد قوله وإن كان كذبًا وافتراء، وفي هذا البيت استخدم الجمل الاسمية للدلالة والتأكيد على أن هذه الصفات ثابتة في الواشين، وملصقة بهم.


أَتاكَ بِقَولٍ لَم أَكُن لِأَقولَهُ

وَلَو كُبِلَت في ساعِدَيَّ الجَوامِعُ

لم يتكلم النابغة عن نفسه منذ بداية القصيدة، فقد كان في صدد دفع التهمة والوشاية وتحديد مصدرها للملك، وفي هذا البيت يبدأ بالتلميح لأخلاقه وخصاله الحميدة تلميحًا خفيًا، وهذا يدل على براعة لغوية عنده، إذ يُبيّن أنّ الأقوال التي قيلت عنه من الوشاة لا يمكن أن يتفوّه بها ولو قُيّد بالسلاسل والأغلال، ومن ناحية أخرى لم يذكر ما هو القول الذي جاء به الوشاة وهذا فيه دلالة على حزن النابغة وكرهه لما قيل.


حَلَفتُ فَلَم أَترُك لِنَفسِكَ ريبَةً

وَهَل يَأثَمَن ذو إمَّةٍ وَهوَ طائِعُ

لا يوفر النابغة أيّ وسيلة من وسائل الإقناع إلّا ويستعملها في اعتذاره، فاستخدم القسم ليبعد كل الشكوك عن نفسه، ثم يؤكد أن هذا القسم صادق لأنه إنسان متدين ورع ملتزم، وكأن استخدامه لأسلوب التعليل والحجج والبراهين يزيد من قوة موقفه، ويجعله واضح الحجة أمام الملك، وهذا ما يريده النابغة الذي يقف موقف المتهم، فهو يريد أن يبرِّئ نفسه بشتّى الوسائل.


فَإِن كُنتُ لا ذو الضِغنِ عَنّي مُكَذَّبٌ

وَلا حَلفي عَلى البَراءَةِ نافِعُ

يضع النابغة أمام الملك كل الاحتمالات، ويحاول أن يفكر بصوت عالٍ، ويفترض لو أن الملك لم يصدقه، وأثبت الوشاية عليه، وأنّ المبغضين له كانوا هم الصادقين بنظر الملك، وكل ما قدمه من أدلة وحجج وأساليب توكيد وقسَم وغيرها لم تفده في تبرئة نفسه، ولعل هذا الأسلوب في الخطاب فيه ما يوحي للملك بثقة النابغة ببراءته، ومع ذلك هو جاهز لكل الاحتمالات.


وَلا أَنا مَأمونٌ بِشَيءٍ أَقولُهُ

وَأَنتَ بِأَمرٍ لا مَحالَةَ واقِعُ

يُتابع في هذا البيت الأسلوب نفسه، ويتحدّث عن عدم أمانة حديثه بنظر الملك، وكأنه يريد أن يذكر النعمان بطريقة غير مباشرة بصفات النابغة وأخلاقه وأمانة حديثه وصدقه، ولذلك استخدم في البيت السابق "إن" الشرطية التي تدل على الحديث المشكوك به، فهو يفترض أمورًا لكنها ليست صحيحة، فقط يهدف إلى إقناع الملك بكل الطرق، ويتابع بأن الملك إذا كان قد اتخذ قراره ولن يتراجع عنه، وفي هذا نوع من الطاعة والقبول بالحكم ولو كان قاسيًا.


فَإِنَّكَ كَاللَيلِ الَّذي هُوَ مُدرِكي

وَإِن خِلتُ أَنَّ المُنتَأى عَنكَ واسِعُ

بعد كل الاحتمالات المطروحة والأفكار التي تبادرت إلى ذهن النابغة يأتي الجواب عنها جميعًا، ويستخدم تشبيهًا في قمة البلاغة، ليبين أنه مرتبط أشد الارتباط بالملك، وأنه مهما ابتعد وحاول الهرب لن يتسطيع الابتعاد عن الملك، وإنّ تشبيه الملك بالليل قصد منه النابغة أنه سيأتي حتمًا، مهما حاول الهرب منه، لكن فيه أيضًا دلالات أخرى مثل الهدوء والطمأنينة ورحابة صدر الملك التي تشبه اتساع الليل.


أَتوعِدُ عَبدًا لَم يَخُنكَ أَمانَةً

وَتَترُكُ عَبدًا ظالِمًا وَهوَ ضالِعُ

لا ييأس النابغة من محاولاته في إقناع الملك برؤية الحقيقة، فيستفهم منكرًا معاقبة الملك له، ويبين أنه هو المسكين الأمين الذي لا يخون، ومع ذلك يتوعده ويهدده بالعقاب، بينما الوشاة الظالمين البعيدين عن الحق يُتركون دون عقاب أو حساب، وكأن الاستفهام الإنكاري في هذا البيت تذكير للملك النعمان بعدله وإنصافه للرعية.


وَأَنتَ رَبيعٌ يُنعِشُ الناسَ سَيبُهُ

وَسَيفٌ أُعيرَتهُ المَنِيَّةُ قاطِعُ

يلجأ النابغة إلى مدح الخليفة بأهم صفات يمكن أن يفتخر بها العربي، وهي الجود والشجاعة، فقد كان ذكيًا بارعًا في اختيار هذه الصفات لمدح الملك بها، واستخدم لها تشبيهات إبداعية تعبّر عن وصول الملك بكرمه وشجاعته مكانة عالية.


أَبى اللَهُ إِلّا عَدلَهُ وَوَفاءَهُ

فَلا النُكرُ مَعروفٌ وَلا العُرفُ ضائِعُ

يختم النابغة اعتذاريته بتوقير الملك وذكر فضائله من جهة، وتذكير غير مباشر للمعروف والأعمال الجيدة التي قدّمها النابغة للخليفة، وهذا فيه تلميح إلى أنّ العُرف لا يذهب بين الناس، ويجب أن يأخذ الملك هذا المعروف بعين الاعتبار قبل إصدار حكمه بحق النابغة، ويؤكد النابغة على صفات العدل والوفاء الموجودة عند الملك، فقصد من العدل أن الملك لا يُطلق أحكامًا دون أدلة، وقصد بالوفاء التذكير بأعمال النابغة الجيدة.


معاني المفردات في قصيدة اعتذار

  • أبيت اللعن: كلمةٌ كانت العرب تحيِّي بها ملوكَها في الجاهلية، فتقول للملك: أَبَيْتَ اللَّعْنَ: أن تَأَتيَ ما تُلْعَنُ به وعليه[٢]، وهي جملة دعائية معناها أنك رفضتَ أن تأتي بالأخلاق المذمومة التي تُلعن عليها.[٣]


  • تستك: تضيق وتُسد فلا تسمع، وهو مشتق من السكك أي: الصمم، والسكاك هو الذي يضرب السكة، وهو صيغة مبالغة من السك أي كثير الإغلاق.[٤]
  • رائع: هو الأمر المعجب والغريب، وفي القصيدة جاءت بمعنى المفزع المخيف، يُقال: راع الولد إذا خاف وفزع.[٥]
  • الأقارعُ: جمع مفردها الأقارع، ولكنها في القصيدة تدل على بني قريع الذين وشوا بالنابغة عند النعمان.[٦]


  • مستبطن: اسم فاعل من الفعل استبطن، وهو بمعنى إخفاء الأمر في النفس، وفي القصيدة تعني الذين يخفون الكره للنابغة.[٧]
  • ريبة: هي بمعنى الظن والشك والاتهام، وهي مفرد جمعها رِيَب.[٨]
  • إمّة: تأتي بمعنى النعمة، وهي أيضًا مأخوذة من الإمامة، وما فيه هيئة الإمام، وفي القصيدة تعني المتدين الورع.[٩]
  • ضالع: اسم فاعل من الفعل ضلع وهو بعنى مالَ، ويُقال ضلع عليه إذا ظلمه، والضالع هو المائل عن الحق.[١٠]
  • سيبه: السيب مفرد وجمعه سيوب، وهو العطاء والمعروف والأعمال الخيّرة.[١١]


الصور الفنية في قصيدة اعتذار

كيف يمكن أن تؤدي الاستعارة غرضها في قصيدة النابغة؟


  • حَلَفتُ فَلَم أَترُك لِنَفسِكَ ريبَةً
وَهَل يَأثَمَن ذو إمَّةٍ وَهوَ طائِعُ

استعمل النابغة في هذا البيت تركيب "ذو إمة" وهو كناية عن الإنسان الصالح، فالكناية هي لفظ له معنيان واحد قريب غير مقصود والثاني بعيد وهو المقصود، مع جواز إرادة المعنى الأصلي، فعندما قال النابغة ذو إمة لم يقصد أنه إمام حقيقة، إنما قصد التزامه الديني وورعه وخوفه من الله.[١٢]


  • فَإِنَّكَ كَاللَيلِ الَّذي هُوَ مُدرِكي
وَإِن خِلتُ أَنَّ المُنتَأى عَنكَ واسِعُ

استخدم النابغة في هذا البيت التشبيه، وكان التشبيه تام الأركان؛ أي فيه المشبه والمشبه به وأداة التشبيه ووجه الشبه، فالمشبه هو النعمان، والمشبه به هو الليل، وأداة التشبيه هي الكاف، ووجه الشبه هو الإدراك والوصول للنابغة.[١٣]


  • أَتوعِدُ عَبدًا لَم يَخُنكَ أَمانَةً
وَتَترُكُ عَبدًاظالِمًا وَهوَ ضالِعُ

في هذا البيت استعمل الشاعر الاستعارة التصريحية، وهي التي يُحذف فيها المشبه ويُصرّح بلفظ المشبه به، وفي الشطر الأول شبّه النابغة نفسه بالعبد فحذف المشبه وصرح بالمشبه به، وفيه دلالة على الطاعة وعلى عظمة الخليفة وأهميته، وكذلك في الشطر الثاني شبّه الأقارع بالعبيد، ولكن هنا للدلالة على مكانتهم الذليلة وخبثهم ومكرهم.[١٤]


  • وَأَنتَ رَبيعٌ يُنعِشُ الناسَ سَيبُهُ
وَسَيفٌ أُعيرَتهُ المَنِيَّةُ قاطِعُ

في هذا البيت تشبيهان مؤكدان، والتشبيه المؤكد هو الذي حُذفت منه أداة التشبيه، فقد شبه النابغة النعمان بالربيع في العطاء والكرم، وبالسيف في الشجاعة والجرأة والقوة ورباطة الجأش.[١٥]



للاطّلاع على سيرة الشاعر، انظر هنا: من هو النابغة الذبياني.

المراجع

  1. "عفا ذو حساً من فرتنى فالفوارع"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 25/202/2021م.
  2. "تعريف و معنى أبيت اللعن في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، معجم المعاني، اطّلع عليه بتاريخ 25/202/2021م. بتصرّف.
  3. "كتاب شرح الشواهد الشعرية في أمات الكتب النحوية"، المكتبة الشاملة، اطّلع عليه بتاريخ 25/202/2021م. بتصرّف.
  4. "تعريف و معنى تستك في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، معجم المعاني، اطّلع عليه بتاريخ 25/202/2021م.
  5. "تعريف و معنى رائع في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، معجم المعاني، اطّلع عليه بتاريخ 25/202/2021م. بتصرّف.
  6. "تعريف و معنى الأقارع في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، معجم المعاني، اطّلع عليه بتاريخ 25/202/2021م. بتصرّف.
  7. "تعريف و معنى مستبطن في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، معجم المعاني، اطّلع عليه بتاريخ 25/202/2021م. بتصرّف.
  8. "تعريف و معنى ريبة في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، معجم المعاني، اطّلع عليه بتاريخ 25/202/2021م. بتصرّف.
  9. "تعريف و معنى إمّة في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، المعاني، اطّلع عليه بتاريخ 25/202/2021م. بتصرّف.
  10. "تعريف و معنى ضالع في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، المعاني، اطّلع عليه بتاريخ 25/202/2021م. بتصرّف.
  11. "تعريف و معنى سيب في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي"، المعاني، اطّلع عليه بتاريخ 25/202/2021م. بتصرّف.
  12. "في الكناية وتعريفها وأنواعها"، هنداوي، اطّلع عليه بتاريخ 25/202/2021م. بتصرّف.
  13. "التشبيه: تعريفه وأقسامه وأمثلة عليه"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 25/202/2021م. بتصرّف.
  14. "الاستعارة"، جامعة بابل، اطّلع عليه بتاريخ 25/202/2021م. بتصرّف.
  15. "أقسام التشبيه"، إسلام ويب، اطّلع عليه بتاريخ 25/202/2021م. بتصرّف.
8791 مشاهدة
للأعلى للسفل
×