التحليل الموضوعي للقصيدة
إنّ المتأمل في هذه القصيدة يجد أنّ الشاعر يتحدث في قصيدته عن عدد من المواضيع المختلفة، فنراه في بداية القصيدة يبدأ بمقدمةٍ غزلية، يحكي فيها عن الحب والوقوع فيه، فالشاعر يعاني من ألم فقدان المحبوبة، فقد رحلت هي وأهلها عن الديار، وهو يراقب رحيلهم ويبكي عليها وعلى ذكراها، ونلحظ ذلك في قوله:[١]
رَدَّ الْصِّبَا بَعْدَ شَيْبِ اللِّمَّةِ الْغَزَلُ
- وَرَاحَ بِالْجِدِّ مَا يَأْتِي بِهِ الْهَزَلُ
وَعَادَ مَا كَانَ مِنْ صَبْرٍ إِلَى جَزَعٍ
- بَعْدَ الإِبَاءِ وَأَيَّامُ الْفَتَى دُوَلُ
فَلْيَصْرِفِ اللَّوْمَ عَنِّي مَنْ بَرِمْتُ بِهِ
- فَلَيْسَ لِلْقَلْبِ فِي غَيْرِ الْهَوَى شُغُلُ
وَكَيْفَ أَمْلِكُ نَفْسِي بَعْدَ مَا ذَهَبَتْ
- يَوْمَ الْفِرَاقِ شَعَاعاً إِثْرَ مَنْ رَحَلُوا
تَقَسَّمَتْنِي النَّوَى مِنْ بَعْدِهِمْ وَعَدَتْ
- عَنْهُمْ عَوَادٍ فَلا كُتْبٌ وَلا رُسُلُ
فَالصَّبْرُ مُنْخَذِلٌ وَالدَّمْعُ مُنْهَمِلٌ
- وَالعَقْلُ مُخْتَبِلٌ وَالْقَلْبُ مُشْتَغِلُ
أَرْتَاحُ إِنْ مَرَّ مِنْ تِلْقَائِهِمْ نَسَمٌ
- تَسْرِي بِهِ فِي أَرِيجِ الْعَنْبَرِ الأُصُلُ
سَارُوا فَمَا اتَّخَذَتْ عَيْنِي بِهِمْ بَدَلاً
- إِلا الْخَيَالَ وَحَسْبِي ذَلِكَ الْبَدَلُ
فَخَلِّ عَنْكَ مَلامِي يَا عَذُولُ فَقَدْ
- سَرَّتْ فُؤَادِي عَلَى ضَعْفٍ بِهِ الْعِلَلُ
ومن ثم نراه يبرر ويعلل لنفسه هذه الحال التي هو فيها، فيحكي لنا عن الحب ولوعته، وأنّه لا يبقي للإنسان القدرة على المقاومة والتفكير، حتى أنّه يحط من قدر الشخص، فالحب في نظره يجعل الملك والشجاع والضعيف سواسية في الحزن، ونراه يحذر من الحب فهو ليس بسهل على الإنسان، وذلك في قوله:[١]
لا تَحْسَبَنَّ الْهَوَى سَهْلاً فَأَيْسَرُهُ
- خَطْبٌ لَعَمْرُكَ لَوْ مَيَّزْتَهُ جَلَلُ
يَسْتَنْزِلُ الْمَلْكَ مِنْ أَعْلَى مَنَابِرِهِ
- وَيَسْتَوِي عِنْدَهُ الرِّعْدِيدُ وَالْبَطَلُ
فَكَيْفَ أَدْرَأُ عَنْ نَفْسِي وَقَدْ عَلِمَتْ
- أَنْ لَيْسَ لِي بِمُنَاوَاةِ الْهَوَى قِبَلُ
فَلَوْ قَدَرْتُ عَلَى شَيءٍ هَمَمْتُ بِهِ
- فِي الْحُبِّ لَكِنْ قَضَاءٌ خَطَّهُ الأَزَلُ
وَلِلْمَحَبَّةِ قَبْلِي سُنَّةٌ سَلَفَتْ
- فِي الذَّاهِبِينَ وَلِي فِيمَنْ مَضَى مَثَلُ
ومن ثمّ نرى أنّ الشاعر يتجاوز في حديثه عن الحب ليصف لنا سيفه ويتغنى به، فنراه يوغل في حديثه عن سيف، بكونه سيف قاطع شديد الحدّة، وأنّه ناصع لامع، فهذا سيف عظيم يهابه الناس والفرسان، لا ينُازل به إلا وقد قتل الخصم، مهما كانت قوته وجبروته، فالشاعر يمتلك هذا السيف الأسطوري، ويرى أنّه يليق به وبقدره، كما نرى في قوله:[١]
فَقَدْ أَسِيرُ أَمَامَ الْقَوْمِ ضَاحِيَةً
- وَالْجَوُّ بِالْبَاتِرَاتِ الْبِيضِ مُشْتَعِلُ
بِكُلِّ أَشْقَرَ قَدْ زَانَتْ قَوَائِمَهُ
- حُجُولُهُ غَيْرَ يُمْنَى زَانَهَا الْعَطَلُ
كَأَنَّهُ خَاضَ نَهْرَ الصُّبْحِ فَانْتَبَذَتْ
- يُمْنَاهُ وَانْبَثَّ فِي أَعْطَافِهِ الطَّفَلُ
زُرْقٌ حَوَافِرُهُ سُودٌ نَوَاظِرُهُ
- خُضْرٌ جَحَافِلُهُ فِي خَلْقِهِ مَيَلُ
كَأَنَّ فِي حَلْقِهِ نَاقُوسَ رَاهِبَةٍ
- بَاتَتْ تُحَرِّكُهُ أَوْ رَاعِدٌ زَجِلُ
يَمُرُّ بِالْوَحْشِ صَرْعَى فِي مَكَامِنِهَا
- فَمَا تَبِينُ لَهُ شَدّاً فَتَنْخَذِلُ
يَرَى الإِشَارَةَ فِي وَحْيٍ فَيَفْهَمُهَا
- وَيَسْمَعُ الزَّجْرَ مِنْ بُعْدٍ فَيَمْتَثِلُ
لا يَمْلِكُ النَّظْرَةَ الْعَجْلاءَ صَاحِبُهَا
- حَتَّى تَمُرَّ بِعِطْفَيْهِ فَتُحْتَبَلُ
إِنْ مَرَّ بِالْقَوْمِ حَلُّوا عَقْدَ حَبْوَتِهِمْ
- وَاسْتَشْرَفَتْ نَحْوَهُ الأَلْبَابُ وَالْمُقَلُ
تَقُودُهُ بِنْتُ خَمْسٍ فَهُوَ يَتْبَعُهَا
- وَيَسْتَشِيطُ إِذَا هَاهَى بِهِ الرَّجُلُ
أُمْضِي بِهِ الْهَوْلَ مِقْدَامَاً وَيَصْحَبُنِي
- مَاضِي الْغِرَارِ إِذَا مَا اسْتَفْحَلَ الْوَهَلُ
ومن ثم ينتقل الشاعر للحديث عن الحكمة والموعظة، فنراه يذكر للمتلقي نصائحًا في الأخلاق، فيرفض النميمة والغيبة والاستمرار عليهما، ومن ثمّ نجده يدعو الإنسان إلى عدم مرافقة رفاق السوء، والحذر من الأعداء، وعدم إفشاء الأسرار للغير، وأخيرًا نراه يدعو إلى التريث والتصبر وعدم الإسراع في الحكم.[٢]
التحليل الفني للقصيدة
إنّ المتأمل في هذه القصيدة يجد أنّ الشاعر يعمق وصفه للسيف ويغرق به، فنجده يصور سيفه بأنّه سيف أسطوري، فهو شديد اللمعة مثل الشعلة المحمولة باليد، وهو عند الضرب به خفيف لا يُرى له إلا أثره الذي يظهر للرأي مثل البرق، فالشاعر أمعن في وصفه للسيف، بُغية إظهار مكانته الرفيعة، وأنه شاعر وفارس لا يليق به إلا مثل هذا السلاح.[١]
فَقَدْ أَسِيرُ أَمَامَ الْقَوْمِ ضَاحِيَةً
- وَالْجَوُّ بِالْبَاتِرَاتِ الْبِيضِ مُشْتَعِلُ
بِكُلِّ أَشْقَرَ قَدْ زَانَتْ قَوَائِمَهُ
- حُجُولُهُ غَيْرَ يُمْنَى زَانَهَا الْعَطَلُ
كَأَنَّهُ خَاضَ نَهْرَ الصُّبْحِ فَانْتَبَذَتْ
- يُمْنَاهُ وَانْبَثَّ فِي أَعْطَافِهِ الطَّفَلُ
زُرْقٌ حَوَافِرُهُ سُودٌ نَوَاظِرُهُ
- خُضْرٌ جَحَافِلُهُ فِي خَلْقِهِ مَيَلُ
كَأَنَّ فِي حَلْقِهِ نَاقُوسَ رَاهِبَةٍ
- بَاتَتْ تُحَرِّكُهُ أَوْ رَاعِدٌ زَجِلُ
يَمُرُّ بِالْوَحْشِ صَرْعَى فِي مَكَامِنِهَا
- فَمَا تَبِينُ لَهُ شَدّاً فَتَنْخَذِلُ
يَرَى الإِشَارَةَ فِي وَحْيٍ فَيَفْهَمُهَا
- وَيَسْمَعُ الزَّجْرَ مِنْ بُعْدٍ فَيَمْتَثِلُ
لا يَمْلِكُ النَّظْرَةَ الْعَجْلاءَ صَاحِبُهَا
- حَتَّى تَمُرَّ بِعِطْفَيْهِ فَتُحْتَبَلُ
إِنْ مَرَّ بِالْقَوْمِ حَلُّوا عَقْدَ حَبْوَتِهِمْ
- وَاسْتَشْرَفَتْ نَحْوَهُ الأَلْبَابُ وَالْمُقَلُ
تَقُودُهُ بِنْتُ خَمْسٍ فَهُوَ يَتْبَعُهَا
- وَيَسْتَشِيطُ إِذَا هَاهَى بِهِ الرَّجُلُ
أُمْضِي بِهِ الْهَوْلَ مِقْدَامَاً وَيَصْحَبُنِي
- مَاضِي الْغِرَارِ إِذَا مَا اسْتَفْحَلَ الْوَهَلُ
ومن ثم نجد أنّ الشاعر يرسم لنا لوحة الصيد والرفاق، فنراه يتغنى بأصحابه، وأنّهم قومٌ مرحون قد أضفوا على رحلتهم رونقًا وسعادةً، حتى أنّ الخيل أرادت أن تجاريهم في اللعب واللهو، ومع ذلك يحكي لنا الشاعر أنهم في وقت قصير حققوا أهدافهم واصطادوا خيرة الصيد، كما نرى في قوله:[١]
بَلْ رُبَّ سَارِيَةٍ هَطْلاءَ دَانِيَةٍ
- تَنْمُو السَّوَامُ بِهَا وَالنَّبْتُ يَكْتَهِلُ
كَأَنَّ آثَارَهَا فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ
- رَيْطٌ مُنَشَّرَةٌ فِي الأَرْضِ أَوْ حُلَلُ
يَمَّمْتُهَا بِرِفَاقٍ إِنْ دَعَوْتُ بِهِمْ
- لَبُّوا سِرَاعَا وَإِنْ أَنْزِلْ بِهِمْ نَزَلُوا
قَصْداً إِلَى الصَّيْدِ لا نَبْغِي بِهِ بَدَلاً
- وَكُلُّ نَفْسٍ لَهَا فِي شَأْنِهَا عَمَلُ
حَتَّى إِذَا أَلْمَعَ الرُّوَّادُ مِنْ بعْد
- وَجَاءَ فَارِطُهُمْ يَعْلُو وَيَسْتَفِلُ
تَغَاوَتِ الْخَيْلُ حَتَّى كِدْنَ مِنْ مَرَحٍ
- يَذْهَبْنَ فِي الأَرْضِ لَوْلا اللُّجْمُ وَالشُّكُلُ
فَمَا مَضَتْ سَاعَةٌ أَوْ بَعْضُ ثَانِيَةٍ
- إِلا وَلِلصَّيْدِ فِي سَاحَاتِنَا نُزُلُ[١]
التحليل الإيقاعي للقصيدة
إنّ الناظر في هذه القصيدة يجد أنّها على البحر البسيط، وهذا البحر تفعيلاته مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن، وهو بذلك من البحور الطويلة التي تترك الفسحة للشاعر في الحديث، ثم إنّ هذه القصيدة نجدها تتراوح في مواضيعها بين الغزل والفخر والحكمة، إذ يوجد تفاوت في لعاطفة في كل مقطع، وهذا الأمر يتناسب مع البحر البسيط الصالح لهذه المواضيع.[٣]
ومن ثمّ نجد أن قافية هذه القصيدة وحرف رويها هو اللام، فهذا الحرف من خصائصه أنه يُحدث ترددًا صوتيًا مما يخلق إيقاعًا موسيقيًا داخليًا، ويترك المجال للشاعر ليمدّ الحرف الأخير في نطقه، وهذا الأمر توضح في البيت الأول لكونه مصرعًا، فقافيته في الشطر الأول والثاني متشابهات.[١]
المراجع
- ^ أ ب ت ث ج ح خ "رد الصبا بعد شيب اللمة الغزل"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 12/3/2022. بتصرّف.
- ↑ وليد مسعود (11/9/2011)، "تحليل قصيدة لي في من مضى مثل - محمود سامي البارودي"، منهجيتي، اطّلع عليه بتاريخ 12/3/2022. بتصرّف.
- ↑ سمر سدر، "البحر البسيط وتفعيلاته"، بيت القصيد ، اطّلع عليه بتاريخ 12/3/2022. بتصرّف.