تحليل قصيدة هاج لي الشوق للسان الدين بن الخطيب

كتابة:
تحليل قصيدة هاج لي الشوق للسان الدين بن الخطيب



تحليل قصيدة هاج لي الشوق للسان الدين بن الخطيب

تحليل اللوحة الأولى (لوحة البرق)

تألّقَ نجْدِيّاً فأذْكَرَني نجْدا

:::وهاجَ ليَ الشّوْقَ المُبَرِّحَ والوَجْدا

وَميضٌ رأى بُرْدَ الغَمامَةِ مُغْفَلاً

:::فمَدّ يَداً بالتِّبْرِ أعْلَمَتِ البُرْدا

تبسَّمَ في بحْرِيّةٍ قدْ تجهّمَتْ

:::فَما بَذَلَتْ وصْلاً ولا ضَرَبَتْ وعْدا

وراوَدَ منْها فارِكاً قدْ تمنّعَتْ

:::فأهْوى لَها نصْلاً وهدّدَها رعْدا

فأغْرى بها كفَّ الغِلابِ فأصْبَحَتْ

:::ذَلولاً ولمْ تسْطِعْ لإمرَتِهِ رَدّا

فحُلَّتُها الحمْراءُ منْ شَفَقِ الضُّحى

:::نَضاها وحَلَّ المُزْنُ منْ جِيدِها عِقْدا

لكَ اللهُ منْ برْقٍ كأنّ وَميضَهُ

:::يَدُ السّاهرِ المقْرورِ قد قدَحَتْ زَنْدا

تعلّمَ منْ سُكّانِهِ شيَمَ النّدى

:::فغادَرَ أجْزاءَ الحِمى رَوْضَةً تنْدى

وتوّجَ منْ نُوّارِها قُنَنَ الرُّبى

:::وختّمَ منْ أزْهارِها القُضُبَ المُلْدا

لَسُرْعانَ ما كانتْ مَناسِفَ للصِّبا

:::فقدْ ضحِكَتْ زَهْراً وقد خجِلَتْ وَرْدا

بِلادٌ عهِدْنا في قَراراتِها الصِّبا

:::يقِلُّ لِذاكَ العهْدِ أنْ يألَفَ العهْدا

إذا ما النّسيمُ أعْتَلَّ في عَرَصاتِها

:::تَناولَ فيها البانَ والشّيحَ والرّنْدا

فكمْ في مَجاني وَرْدِها منْ علاقَةٍ

:::إذا ما اسْتُثيرَتْ أرْضُها أنْبَتَتْ وجْدا

إذا اسْتَشْعَرَتْها النّفْسُ عاهَدَتِ الجَوى

:::إذا التَمَحَتْها العيْنُ عاقَدَتِ السُّهْدا.[١]


يفتتح الشاعر قصيدته بلوحة غزلية، وذلك بشروعه بالحديث عن علاقته بالمكان، فذكر أرض نجدٍ أمامه قد أثار هواجسه وعاطفته، ودفعه لقول الشعر؛ لأن هذا المكان كان محبوبه فيه، فكل مكان أو شيءٍ يرتبط بهذا المحبوب يثير عاطفة الشاعر، وهذا المحبوب هو الرسول -صلى الله عليه وسلم-.


ثم يصف الشاعر الوميض الذي لمع فجأةً أمامه، إذ إنّ السماء قد أبرقت، فكان الوميض الذي ظهر أمامه نازلاً من السماء مثل يد تنثر التبر في أثناء مدّها، فأثار رعب الشاعر، ووصف حالته بأنّه يشعر أنّ البرق قد تبسّم له، ثم أعقب تبسمه صوت هادر وهو الرعد، فشبّه الشاعر صوته بصوت السيف وهو يهوي على ضحيته، فخلّف هذا البرق والرعد شفقًا أحمر قانيًا، وتشكل الغيم في السماء على هيئة عقد.


ومن ثمّ يتحدث الشاعر عن أثر هذا البرق والمطر، إذ على الرغم من الرعب الذي أثاره، إلا أنّه قد ترك الأرض منبتةً خضراء، فبسبب هذا البرق والمطر انتعشت الأرض، وأخرجت خيراتها.[٢]


تحليل اللوحة الغزلية

ومنْ عاشِقٍ حُرٍّ إذا ما اسْتَمالَهُ

:::حَديثُ الهَوى العُذْريِّ صيَّرَهُ عَبْدا

ومنْ ذابِلٍ يحْكي المُحبّينَ رِقّةً

:::فيَثْني إذا ما هَبَّ عَرْفُ الصَّبا قَدّا

وأنّسَ قَلْبي فهْوَ للعَهْدِ حافِظٌ

:::وقَلّ على الأيّامِ مَنْ يحْفَظُ العَهْدا

صَبورٌ وإن لمْ تَبْقَ إلا ذُبالَةٌ

:::إذا استَشْعَلَتْ مسْرى الصَّبا اشْتَعَلَتْ وَقْدا

خَفوقٌ إذا الشّوْقُ استَجاشَ كَثيبَةَ

:::تَجوسُ دِيارَ الصّبْرِ كانَ لها بَنْدا

وقدْ كُنْتُ جَلْداً قبْلَ أن تُذْهِبَ النّوى

:::ذَمايَ وأنْ تسْتأصِل العظْمَ والجِلْدا

أأجْحَدُ حقَّ الحِبِّ والدّمعُ شاهِدٌ

:::وقد وقَعَ التّسْجيلُ منْ بعْدِ ما أدّى

تَناثَرَ في إثْرِ الحُمولِ فَريدُهُ

:::فللّهِ عيْناً مَنْ رأى الجوْهَرَ الفَرْدا

جرَى يَقَقاً في ملعَبِ الخدِّ أشْهَبا

:::وأجْهَدَهُ ركْضُ الأسَى فجَرى ورْدا.[١]


في هذه اللوحة نجد أنّ الشاعر يتحدث عن عشقه وحبه، وحالته العاطفية، فيصف العاشق الذي يتمثل بالعشاق العذريين بأنه إنسان معذّب، فهو يحفظ العهد والوعد، ويعاني من لوعة الشوق، وحرارة العاطفة، فيصف الشاعر هذا العاشق بأنّه مثل فتيل السراج المحترق، الذي يحترق لأجل غيره، ولا ينال شيئًا بالمقابل، فليس له إلا الألم والدمع المنهمر من هذا الحب.


لوحة الرحلة إلى الأرض المقدّسة

ومُرْتَحِلٍ أجْرَيْتُ دمْعي خلْفَهُ

:::ليُرْجِعَهُ فاسْتَنّ في إثْرِهِ قَصْدا

وقلْتُ لقَلْبي طِرْ إلَيْهِ برُقْعَتي

:::فكانَ حَماماً في المَسيرِ بِها هَدّا

سرَقْتُ صُواعَ العَزْمِ يوْمَ فِراقِهِ

:::فلَجَّ ولمْ يَرْقُبْ سُواعاً ولا وُدّا

وكحّلْتُ جَفْني منْ غُبارِ طَريقِهِ

:::فأعْقَبَها دَمْعاً وأوْرَثَها سُهْدا

ليَ اللهُ كمْ أهْذي بنَجْدٍ وحاجِرٍ

:::وأُكْني بدَعْدٍ في غَرامي أو سُعْدى

وما هوَ إلا الشّوْقُ ثارَ كَمينُهُ

:::فأذْهَلَ نَفْساً لمْ تبِنْ عنْدَهُ قَصْدا

وما بيَ إلا أنْ سَرى الرّكْبُ مَوْهِنا

:::وأعْمَلَ في رَمْلِ الحِمى النصَّ والوَخْدا

وجاشَتْ جُيوشُ الصّبْرِ والبَيْنِ والأسَى

:::لديَّ فكانَ الصّبْرُ أضْعفَها جُنْدا

ورُمْتُ نُهوضاً واعْتَزَمْتُ موَدِّعا

:::فصَدّنيَ المِقْدارُ عنْ وجْهَتي صَدّا

رَقيقٌ بدَتْ للمُشْتَرينَ عُيوبُهُ

:::ولمْ تلْتَفِتْ دعْواهُ فاسْتوْجَبَ الرّدّا

تخلّفَ منّي ركْبُ طَيْبَةَ عانِيا

:::أمَا آنَ للعاني المُعَنّى بأنْ يُفْدَى

مخَلَّفُ سِرْبٍ قد أُصيبَ جَناحُهُ

:::وطِرْنَ فلَمْ يسْطِعْ مَراحاً ولا مَغْدى

نَشَدْتُكَ يا رَكْبَ الحِجازِ تضاءَلَتْ

:::لكَ الأرْضُ مهْما اسْتَعْرَضَ السَّهْبُ وامْتَدّا

وجمَّ لكَ المرْعى وأذْعَنَتِ الصّوى

:::ولمْ تَفْتَقِدْ ظِلاً ظَليلاً ولا وِرْدا

إذا أنْتَ شافَهْتَ الدِّيارَ بطَيْبَةٍ

:::وجِئْتَ بها القبْرَ المُقَدَّسَ واللّحْدا

وآنَسْتَ نُوراً منْ جَنابِ محمّدٍ

:::يُداوي القُلوبَ الغُلْبَ والأعْيُنَ الرُّمْدا

فنُبْ عنْ بَعيدِ الدّارِ في ذلكَ الحمى

:::وأذْرِ بهِ دمْعاً وعفِّرْ بهِ خَدّا

وقُلْ يا رَسولَ اللّهِ عبْدٌ تقاصَرَتْ

:::خُطاهُ وأضْحى منْ أحبّتِهِ فرْدا

ولمْ يسْتَطِعْ من بعْدِ ما بَعُدَ المَدى

:::سِوى لوْعةٍ تعْتادُ أو مِدْحَةٍ تُهْدى[١]

يصف الشاعر في هذه اللوحة حالته وهو ينظر إلى قافلة ترتحل إلى الديار المقدّسة، ولدى رؤيته لها أثارت في قلبه حزنًا كبيرًا؛ لعدم مرافقته لها، ويطلب الشاعر من قلبه أن يرافق هذه الرحلة، وأن يُحمّل أصحابها وصايا يلبونها له عندما يصلون تلك البلاد.


ويصف الشاعر حالة من الحزن والألم لعدم قدرته على الذهاب، فنراه يستعمل غبار القافلة كحلاً لعينيه، فهو يريد أي أثر من هذه القافلة، لكن الشاعر لم يجنِ إلا الدموع والبكاء والحزن والأرق، ومن ثمّ يطلب من الله أن يعينه على هذا الحزن، فهو يحب تلك الأراضي، ويبغي زيارتها، ويتحدث عن حبه لها، كما تحدث العاشقون عن معشوقاتهم مثل دعد، وسعاد. 


وبعدها نجد أنّ الشاعر يصف صبره على فراق تلك الرحلة التي ذهبت دونه، ويشير إلى أنّ الصبر أضعف سماته في هذا الموضع بالذات، ويطلب الشاعر من راكبي الرحلة عندما يقتربون من أرض المدينة، ويصلون عند قبر الرسول الكريم، أن يبكوا عنده، وأن يتمسحوا بتراب قبره المبارك، وأن يذكروا الشاعر في الحضرة النبوية.


تحليل لوحة المديح

تَدارَكْهُ يا غوْثَ العِبادِ برحْمَةٍ

:::فجودُكَ ما أجْدى وكفُّكَ ما أنْدى

أجارَ بكَ اللهُ العِبادَ منَ الرّدى

:::وبوَّأهُمْ ظِلاً منَ الأمْنِ مُمْتَدّا

حَمى دينُكَ الدّنْيا وأقْطَعَكَ الرِّضا

:::وتوّجَكَ العُلْيا وألْبَسَكَ الحمْدا

وطهّرَ منْكَ القلْبَ لمّا اسْتخصّهُ

:::فجَلَّلَهُ نوراً وأوْسَعَهُ رُشْدا

دَعاهُ فَما وَلّى هَداهُ فما غَوى

:::سَقاهُ فما يَظْما جَلاهُ فَما يصْدا

تقدّمْتَ مُخْتاراً تأخّرْتَ مَبْعثاً

:::فقَدْ شمَلَتْ علياؤُكَ القَبْلَ والبَعْدا

وعِلّةُ هَذا الكوْنِ أنْتَ وكلّما

:::أعادَ فأنْتَ القصْدُ فيهِ وما أبْدى

وهلْ هوَ إلا مَظْهَرٌ أنْتَ سِرُّهُ

:::ليمْتازَ في الخَلْقِ المُكِبُّ منَ الأهْدى

فمِنْ عالَمِ الأسْرارِ ذاتُكَ تجْتَلي

:::ملامِحَ نورٍ لاحَ للطّوْرِ فانْهَدّا

وفي عالَمِ الحِسِّ اغْتَدَيْتَ مُبَوّأ

:::لتَشْفي مَنِ اسْتَشْفى وتَهْدي منِ اسْتَهْدى

فما كنْتَ لوْلا أن تَبُثَّ هِدايَةَ

:::مِنَ اللهِ مثْلَ الخلْقِ رسْماً ولا حَدّا

بِماذا عسى يُثْني عليْكَ مُقَصِّرٌ

:::ولمْ يألُ فيكَ اللّهُ مدْحاً ولا حمْدا

بماذا عسى يُجزيكَ هاوٍ على شَفَى

:::منَ النّارِ قدْ أسْكَنْتَهُ بعْدَها الخُلْدا

عليْكَ صلاةُ اللهِ يا خيْرَ مُرسَلٍ

:::وأكْرَمَ هادٍ أوْضَحَ الحَقّ والرُّشْدا

عليْكَ صلاةُ الله يا خيْرَ راحِمٍ

:::وأشْفَقَ مَنْ يَثْني على رأفَةِ كَبْدا

عليْك صلاةُ اللهِ يا كاشِفَ العَمى

:::وقد هبّ ليْلُ الشّكِّ وهْوَ قدِ ارْبَدّا

إلى كمْ أُراني في البَطالَةِ كانِعاً

:::وعُمْريَ قدْ ولّى ووِزْريَ قدْ عُدّا

تقضّى زَماني في لعَلّ وفي عسى

:::فلا عزْمَةٌ تمضي ولا لوْعَةٌ تهدأ

حُسامُ جَبانٍ كلّما شِيمَ نصْلُهُ

:::تَراجَعَ بعْدَ العزْمِ والتَزَمَ الغِمْدا.[١]


في هذه اللوحة نجد أنّ الشاعر يبدأ قصيدته بالدعاء والتضرع، ويطلب من الرسول أن يكون شفيعًا له، فالشاعر يستجير بالنبي محمد، فهو صاحب مكانة ورفعة عند الله تعالى، فالله تعالى حمى رسالته المباركة، وجعلها رسالة عالمية للناس كافة، فالرسول الكريم جاء بدين يهذّب الجوارح، ويهذب الروح والنفس، ويختم الشاعر هذه القصيدة بالصلاة على النبي الكريم، ويمنح الشاعر النبي صفات جليلة عظيمة تناسب مقامه الأعظم.

المراجع

  1. ^ أ ب ت ث "تألق نجديا فأذكرني نجدا"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 19/1/2022.
  2. "تألّقَ نجْدِيّاً فأذْكَرَني نجْدا"، شبكة شعر. بتصرّف.
3324 مشاهدة
للأعلى للسفل
×