الوطن ليس قطعة أرض فقط
كم هي صغيرة كلمة الوطن بحروفها، وكم هي كبيرة بمعناها، فالوطن ليس قطعة من الأرض يُقيم عليها من يُقيم ويرحل عنها من يرحل، لكنه رمز تتجسد فيه كل المعاني، لذلك تغنى باسمه المغنون، وتحدث عنه الفلاسفة، وصدح بلفظه الشعراء، فما أعظم أرضه الطاهرة! وما أجمل سماءه!
الوطن بالأفعال وليس الأقوال
ما دام الوطن يحتل من واقع الإنسان ومن نفسه كلّ هذه المكانة، فهذا يفرض عليه واجبات عظيمة تجاهه، وأُولى هذه الواجبات الدفاع عنه إذا تعرض لعدوان، فالدفاع عن الوطن بهذا المعنى ليس مجرد دفاع عن أرض يُقيم عليها، ويأكل من خيراتها، إنّما هو أيضًا دفاع عن جماعة ينتمي إليها، وثقافة يحملها، وهُوية يعتز بها، يقول رفاعة الطهطاوي:[١]
يا صاحِ حبُّ الوطنْ
- حليةُ كل فَطِنْ
محبةُ الأوطانِ
- من شُعب الإيمانِ
في أفخر الأديان
- آية كل مؤمن
يا صاح حبُّ الوطن
- حلية كل فطن
مساقطُ الرُءوسِ
- تَلَذُّ للنفوسِ
تُذهبُ كل بُوسِ
- عنّا وكلَّ حرنَ
كما من واجب الإنسان تجاه وطنه أن يُقدّم الغالي والنفيس في سبيل رفع مكانته وتقدمه وازدهاره في جميع المجالات، فيُساهم في خدمة مجتمعه المحليّ وفق قدراته، ويحترم القوانين ويدعو إلى تطبيقها ويجابه من يُخالفها، ولا يتهرّب من دفع الضرائب والرسوم، وغيرها من الواجبات التي تعود بالنفع والصلاح على وطنه.
بهذا يستحق أن يفاخر بانتمائه إلى هذا الوطن، فالمفاخرة بالانتماء تتناسب مع مقدار ما يُقدمه الإنسان لوطنه من ألوان العطاء، فالوطن بالنسبة إلى كلّ أبنائه يعني الانتماء إلى أرض، والانتماء إلى الأرض هو بالضرورة يعني الانتماء إلى الجماعة التي تعيش عليها، تلك الجماعة التي تتكون من دوائر اجتماعية يكون مركزها كل فرد منا.
تبدأ بالدائرة الأولى الأقرب والأضيق وهي دائرة الأسرة، وتنتهي بالدائرة الأوسع وهي التي نطلق عليها مصطلح الشعب أو الأمة، وإنّ الانتماء إلى هذه الأرض وللدائرة الأوسع التي يعيش عليها الإنسان لا يحتسب وفق الاعتبارات المكانية والمادية المجردة، لكنه يعني بالضرورة الانتماء إلى الثقافة التي تسود في هذه القطعة من الأرض، بما تشمله هذه الثقافة من لغة وعادات ومعتقدات وتقاليد، وهو ما يُميز هذه الأمة عن غيرها من الأمم.
لذلك قال الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- عن مكة: (واللهِ إنَّكِ لخيرُ أرضِ اللهِ وأحبُّ أرضِ اللهِ إلى اللهِ، ولولا أنّي خرجتُ منكِ ما خرجتُ)، فمن عطر السير النبوية نتعلم ما هو حب الوطن والانتماء إلى الأرض، كما قال أمير الشعراء أحمد شوقي على لسان الطير:[٢]
يا ريحُ أَنتَ اِبنُ السَبي
- لِ ما عَرَفتَ ما السَكَن
هَب جَنَّةَ الخُلدِ اليَمَن
- لا شَيءَ يَعدِلُ الوَطَن
حب الوطن لا يتوقف
في الختام، حب الوطن لا ينتهي ولا حدود له، فهو حب فطري يُولد مع الإنسان ويكبر معه، فهو الحضن الثاني بعد حضن الأم، فما أعظمه من مدرسة! هو باختصار القلب النابض، والحب الوحيد دون شوائب.
المراجع
- ↑ "يا صاح حب الوطن"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 1-11-2022.
- ↑ "عصفورتان في الحجاز"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 1-11-2022.