محتويات
المقدمة: التضحية ديدن الطيبين
التضحية كلمةٌ قليلة الحروف، كثيرة المعاني يصعب علينا حصرها في أسطرٍ قليلة، كيف لا وهي سبيل المخلصين، وديدن الطيبين! فيبذل الأفراد أغلى ما يملكونه؛ من أجل هدف يرجونه، وغاية يتمنونها فإن هم وصلوا إلى ما يرجونه ويتمنونه، هان عليهم ما ضحوا به وإن كان عظيمًا، والحقيقة الساطعة أن هذا خلق لا يشعر به كل الأفراد لأنه عظيم لا يتحلّى به إلا عظيم الشأن، رفيع المنزلة، طيب القلب، ومن عظمته أنّه يربأ بنفسه عن كلّ حقير، وضيع المنزلة، قاسي القلب. وما زال التاريخ يروي لنا قصص أبطال كانوا ذا شأن في التّضحية؛ إذ سجلوا مواقف عظيمة للتضحية.
العرض: التضحية آثار بناءة على الفرد والمجتمع
التضحية ليست بالأمر الهين السهل فليس جميع الناس يستطيعون بذل أغلى ما يملكون في سبيل الآخرين، فليس الجميع قادر على التضحية، فهي بذلك صفة تسمو وترتفع عاليًا لا يصل إليها إلا من طلبها بصدق وجد، وإذا ما اطّلعنا على واقعنا لوجدنا أن القليل من الناس يتخلق بهذا الخلق، ولو تمعّنا في أحوالهم لوجدناهم أصدق الناس، وأطيبهم، وأحبهم وأنفعهم للناس، ولا شك أن صعوبة التخلق بهذا الخلق يجعل منه عملة نادرة على صعيد الأفراد والمجتمع، له تأثير قد يكون إيجابيًا وقد يكون سلبيًّا، وهو بالدرجة الأولى تأثيرٌ قويٌ.
يختلف الناس في تضحياتهم، على اختلاف ما يضحون لأجله فمنهم من يضحي لأجل وطنه، ومنهم من يضحي لأجل أهله وأولاده، ومنهم من يضحي لأجل دينه، فهذا صاحب الرسول ورفيقه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ضحى بحياته فداء للنبي -صلى الله عليه وسلم- وذلك لمّا كانا في الغار دخله قبل النبي حتى إن كانت به دابة مؤذية أصابت أبا بكر لا النبي، فرأى أبو بكر جحرًا فسدّه برجله، وهذا ما يظهر محبة أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم والتضحية من أجله. ومن أمثلة التضحية أيضًا ذاك المجاهد الذي يحرس وطنه من الأعداء ويضحي بنفسه لأجل أن يظل وطنه حرًا شريفًا، وتلك الأم التي تضحي براحتها لخدمة زوجها، وتربية أبنائها، وآخر يصل الليل بالنهار مضحيا براحته لأجل أن يصل هدفه، كلهم في ميزان التضحية سواء.
تنعكس آثار التضحية على الأفراد والمجتمع على حدٍ سواء، فإن تربى الفرد عليها وترعرع في أكنافها فهو بذلك يبني بيده بيتا من الإيثار، يؤثر على نفسه كل عزيز، لا يبالي بما يبذله من الوقت أو المال في سبيل ذلك، وتسمو نفسه عاليًا متنزهًا بها عن هواها ونوازع الشر التي بداخلها مثل: الطمع والجشع والجبن وهو بذلك يساهم في بناء مجتمعه وتنقيته من الأنانية وحب الذات والكراهية.
ولا شك أن المجتمع الذي ينشأ على التضحية هو مجتمعٌ متينٌ قوي بأفراده، يناطح الأمم، ويسعى نحو القمم، يصعب على أعدائه أن يلقى ثغرة تطيح به، فهي بذلك من أهم العناصر البناءة في قيام المجتمعات والأفراد، وما جيل الصحابة عنّا ببعيد فقد بذلوا الغالي والنفيس وقدموا أموالهم وأنفسهم فداء وقربانا لربهم حتى سادوا الأمم، واعتلوا القمم.
هنيئًا لمن ضحى بدنياه في سبيل آخرته وسعى لها سعيها، وهنيئًا لمن ضحى براحته لتحصيل أعلى الدرجات، وأنعم بمن ضحى بسعادته لأجل إسعاد غيره، ومَن ضحى بأوقاته من أجل أبنائه، ومَن ضحّى بدمه فداء لوطنه، ومن ضحتْ براحتها لراحة أبنائها، حقا لنعم الخلق خلق التضحية، ولنعم فعل المضحّين، وتعسًا لمن ضحى بأوقاته من أجل أهوائه ونزواته، ومَن ضحى بنفسه إرضاءً لأعدائه، ومن ضحّى بماله لقاء نصرة باطل أو ظالم، حقا لبئس الخلق خلق الجشع ولبئس الفعل فعلهم، فشتان شتان بين من ضحّى وبذل وبين من طمع وبخل، فهذا يبني مجتمعًا راقيًا وذاك يبني مجتمعًا فاسدًا.
وفي واقعنا هذا فالناس في بذلهم التضحيات مختلفين: فمنهم من يحث السير من أجل التخلق بهذا الخلق، ومنهم من هو بطيء في سيره، والفرق بين هذا وذاك هو الوازع الذي بداخله يدفعه ويحثه على التخلّق بخلق التضحية لنفسه ودينه ووطنه وأمته، فإن كان الوازع قويًا ينادي بأعلى صوته، كانت الإجابة سريعة، والسير سريع، وإن كان الوازع ضعيفًا كانت الإجابة بطيئة والسير بطيء، وما دام الفرد عضوًا في مجتمعه فالأصل أن يبذل ويضحي في سبيل رقيّه ورقيّ مجتمعه لا يبالي بمن حوله من أصحاب النفوس الدنيئة، كذلك ولا يلقي بالًا لعوارض نفسه التي تأمره بالكسل والأنانية.
وتُكتسب التضحية بتعويد النفس على تمني الخير للناس، ومساعدتهم في حاجتهم ولو على حساب الوقت أو حظوظ النفس، كذلك وتكتسب بمرافقة أصحاب الأخلاق الحسنة الذين تربوا على التضحية ومارسوها حتى أصبحت لهم ديدنًا، كما تُكتسب بالتحلّي بالشجاعة والإقدام والتخلص من أنانية النفس وأمراضها: كاللؤم والجشع، كذلك يكون اكتسابها من خلال القراءة في ِسير أصحاب التضحيات العظيمة مثل: تضحية علي بن أبي طالب -كرّم الله وجهه- في الهجرة عندما نام في سرير النبي_ صلّى الله عليه وسلم_ وقت الهجرة فهو بذلك يكون قد سما بنفسه في سجل أصحاب التضحيات العظيمة ممن ضحّوا من أجل دينهم، ونصرة نبيهم وأمته.
الخاتمة: التضحية سلوك أخلاقي وديني
خلاصة القول: إن التضحية جامعة لكل خلق حسن، وهي خلق ديني أشاد به القرآن الكريم ملمّحًا فقال الله عزّ وجلّ: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ فقد أشاد الحقّ بمن ضحى بنفسه وماله في سبيل دينه وربه وجزاهم برزق في الجنان، وقد ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية الشّريفة الكثير من الآيات والأحاديث النبوية التي تمجّد هذا الخلق الحسن الذي هو جزء من هذا الدّين العظيم، لما له من أثرٍ كبيرٍ على الأفراد والمجتمع على حدٍ سواء.