ماذا تحلم أن تكون في المستقبل؟
دافعٌ قويٌّ يجعلني أتمسّك بالحياة رغم صعوباتها الكثيرة، وأمرٌ يدفعني إلى الأمام كلما حاولت مشكلات الحياة أن تشدّني إلى التراجع، وطريقٌ واحد لا أرسمُ غيرهُ في مخيّلتي لأكون كما حلمتُ أن أكون، إنّه طريق الطموح. أمشي بهامةٍ مرفوعةِ الرأس مهما طرق اليأس بابي، ومهما حاولَ الفشلُ أن يغرسَ أنيابه في رقبتي ليقضي على الآمال التي أرسمها وأسعى لأجلها، فما هي الحياة سوى أملٍ بحياةٍ كما نريد، وما هو التفاؤل إلا سعادتنا الداخليّة بالاطمئنان إلى أننا سوف نحقق ما نصبو إليه يومًا ما؟
تحدّثني كلّ الكتبُ بلغاتِ العلوم الكثيرة عن أهميّة الطموح، فإذا فتحتُ كتابًا في الفيزياء وجدتُ علماءها صبروا على مرارة التجارب، وتجرّعوا كأس الفشل في الكثير منها، وكابدوا العناءَ حتى يتوصّلوا إلى قانونٍ من قوانين هذا العلم، وإذا طالعت علم الحديث وجدت علماء الحديث قد جاهدوا بكلّ ما يملكون ليسافروا ويتحرَّوا الحديث المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يَقُلْهُ، وإذا طالعت علم الإعراب وجدت النحويّين قد بذلوا الوقت في تأمل الشعر واستنباط النحو والتصريف والبلاغة منه، فما قرأتُ كتابًا علميًّا إلا زرع في داخلي أهميّة بناء المستقبل، وما جاهد هؤلاء العلماء المخلصين إلا ليفتحوا نوافذ النّور للناس من بعدهم، فإذا بالعلوم تنتشر بين الناس وتتطور، وتكبرُ معها الحضارات وتتقدم.
حلمتُ في المستقبل البعيد، وسارتْ بي الأحلامُ نحو شواطئٍ لا أدري ما نهاية مداها، فمرّةً أردتُ أن أكون طبيبًا لأخلّص الناس من آلامها وأوجاعها، وأرسم على شفاههم بسمة العافية، ومرّةً أردتُ أن أكونَ رسّامًا أرسمُ بحرًا وسماءً تسرُّ الناظرَ فينسى مآسيهِ، وينشرُ الفنّ بأبهى صورهِ بين الناس جميعًا، ويغازلُ الطبيعة بكلّ ما أوتيَ من براعةٍ بريشته الساحرة البديعة، ومرّةً حلمتُ بأن أكون مُهندسًا يرسمُ البُنيانَ بقلمهِ، وتنفّذ العمّال ما يرسمه، فيبني الأبراج وتعمرُ بفضلِه الأوطان، ويتدثّر بعملهِ المشرّدون في منازلَ دافئة، وفي أوقات كثيرة فكرتُ بأن أكون صانعَ حلوى، أرسمُ الضّحكاتِ على وجوه الأطفال وأسمع وَشوَشاتهم، أغنّي معهم وأدفعُ مراجيحهم، ويسعد قلبي بأصواتهم وأفراحهم في صباحاتِ الأعياد.
فكّرتُ مليًّا، فلم أجد للعلم بديلًا. ما رأيتُ لنفسي حلمًا أجملَ من أكونَ مُدرّسًا ينتشلُ الناس من ظلامِ الجهل إلى نور المعرفة، ويمهّد لهم طريقهم للوصول إلى أحلامهم وطموحاتهم، ويزرع في نفوسهم الجدّ والمثابرةَ ليصنع منهم أنموذجًا لطالب العلم؛ ذاكَ الذي تفرشُ الملائكةُ له أجنحتها رِضًا بما يصنع! إنَّ العلمُ حاجةٌ فِكرية ماسّةٌ تفوقُ الوصف في بناءِ اللبنات الأساسيّة للمجتمعات التي تصنعها الأفراد، وتضحّي لأجلها الأرواح، وتسعد بأمجادها النفوس.
كيف تبدو لك الحياة في المستقبل؟
من طفلٍ صغيرٍ لا يعلمُ ماذا ستخفي له الأقدار، تلقّيتُ سؤالًا فضوليًّا في إحدى الممرات التي كنتُ أنتظرُ فيها دوري للدخول إلى الطبيب، كنتُ صامتًا متألِّمًا، وكان الطفلُ يأتي ويذهبُ أمامي، يرمقني بدهشة، وينتظرُ أيضًا دور والدته التي تريد الدخول الطبيب ذاته. قالَ بلهجةٍ بدَتْ ساخرةً قليلًا: "هل سأمضي بابني إلى الطبيبِ أيضًا عندما أكبر؟ أم سأكون أنا الطبيب؟ كيف ستكون الحياة في المستقبل؟ في الحقيقة لم يكن سؤاله موجَّهًا إليّ، بل إلى أمّه الشاردةِ، ولكنني شعرتُ بأنّي تلقّيتُ ذلك التساؤل من خلالِ إيقاظي به وطَرحِه على نفسي، وكأنني أريدُ أن أعلم بالفعل كيف ستبدو الحياة في المستقبل؟
الحياة في الطرف المقابل، الطرف المجهول، تبدو جميلةً بالنسبة لشابٍّ مثلي في مقتبلِ العُمر، وإن كانت المصاعبُ تحيطُ بي من كلّ اتّجاه فإنّه لا بدّ من المصاعب كي تكتملَ الحياة، هذا ما كنتُ أقنع به نفسي طوال السنوات الماضية، ولا بدّ لأيّ إنسانٍ يريدُ نجاحًا أن يجعل من الصعوبات عتبةً يصعدُ عليها، ويجعلها ركيزةً للنهوض إلى المزيد من النجاح والتقدم.
كلّ الامتحانات التي مرّت خلال حياتي كنت أظنُّ أنها لن تنتهي، وأنني سأولد بعدها بهيئةٍ جديدةٍ خاليةٍ من الهمّ المكدّس فوق رفوفِ الغُرَف، ولكنّ الحقيقةَ أنَّ الامتحان يرفعُ صاحبهُ حين ينجحُ فيه، فلا يلتفتُ حينها إلى ما مضى من عناء، بل يرغبُ بالمزيدِ من التضحية في سبيل إكمال مسيرتهِ التي بدأ يشقُّ طريقه فيها، وبدأت تبتسمُ له المُنى في آخر ذلك الطريق الطويل.
تبدو الحياة ببُعديها السلبي والإيجابيّ بالنسبة للعجوز الذي يجلسُ بجانبي، وربما تبدو مُعتِمةً قليلًا وأكثر سأَمًا، ولكنني على يقينٍ بأنّ الإنسان الذي يسعى لتحقيق الإنجازات العظيمة سيصلُ إلى شيخوخته مُطمئنًّا سعيدًا بما حصّلَهُ من عِمارةٍ للأرض، ومساعدةٍ للآخرين، وعطاءٍ وتسامحٍ ومحبّة، فليست الحياةُ سوى مساحةٍ صغيرةٍ لنقدّم فيها ما نستطيع أن نقدّمه لأنفسنا وللآخرين كي نعيش ويعيشوا بشكل أفضل، ويثمرَ عيشنا وعيشهم ثمرةً نسعد بها سعادةً أبديّةً في الحياةِ الآخرة.
وإذا كان الطموح نُصبَ أعيننا دائمًا فإنّ التفاؤلَ هو الصديقُ الحميمُ للطموح، لأن التفاؤل يرسمُ الخطّ الإيجابيّ للإنسان ويجعله قادرًا على تقديم أفضلِ ما يمكنه تقديمه لنفسه وللآخرين، فإن اكتسبَ هذه الصفةَ الحميدةَ انتشرَتْ كالعطرِ بين الجماعات التي يتواصل معها، وأفادتْ
بكثرةِ اتّساعها في نهضةٍ جيلٍ كامل بثقتهِ التي تجعله يتابع تحصيله العمليّ بجد، ويعمل بجدّ، ويؤثر في الآخرين إيجابًا بجدّ أيضًا.
ماذا تحتاج حتى تحقق حلمك؟
تتعدّد الأساليبُ والطرق للوصول إلى أحلامنا، ولكنها تتّحدُ في أسبابٍ عامّة لا بدّ أن تتحقق في السعي كل حلم حتى يغدو قابلًا للوصول، وتتويجُ تلك الأسبابِ كلها هو الإرادة، فالإرادة شعورٌ بالقوّة ورفضِ العقبات والانتصار عليها، وإهمالُ رغبات النفس حين تشكِّلُ عائقًا بيننا وبين أحلامنا، فتكون الإرادة بمثابةِ الجدار الذي يستندُ إله المرء حين يتعب، ويقف مستعينًا به حين لا يستطيع الوقوف بالشكل الأمثل.
ثم يأتي الصبرُ في المرتبة الثانية بعد الإرادة في تحقيق الأحلام، فهو نواة اكتمال أيّ عمل، وإذا ما طالَعنا سيَر العلماء السابقين وجدنا الصبر الذي تذهلُ به الأذهان، وتُدهشُ به القلوب، فمنهم من سارَ في الصحاري أشهرًا طويلةً للبحث عن شيخٍ يعلّمه العلوم، ومنهم من عاشَ بفقرٍ شديدٍ لكي يتفرّغ لطلب العلم، ومنهم من قرأ مئات الكتب وصبر على فهمها وتأليف ما يفيد الأجيال من بعدها، وغيرها الكثير الكثير من سيَر الصالحين.
وتعدُّ المثابرةُ رديفةً للصبر في معناها المتحرّك، فالمثابرة تؤدّي إلى التدريبِ والتمرين المستمرّ، فمن أوتي الصبر والمثابرة على علم من العلوم برعَ بهِ، ولا شكّ في هذا من خلال التجارب التي أثبتت فضل المثابرةِ والجدّ، وآثارها العجيبةَ في إكسابِ المتعلم القدرة على المِراس، ومنحه الخبرةَ الكافية للتعليم والتأليف والشرح والتفسير في ميدان العلم الذي يختصُّ به.
ويمكن القول بأنّ تلك المكوّنات جميعها لا يُمكن أن تؤتي ثمرتها بالشكل الأمثل إلا من خلال تنظيم الوقت واستثماره، فالفراغ يُضيّع فرصة الإنسانِ في نيل المراد، ويفسدُ حياته، وتنظيم الوقت في الأمور المفيدة يجعل الحياة تكتسبُ معناها المُجدي النافع في حياة الفرد وحياة الآخرين، وتؤدّي إلى تحسين مستوى حياته المادّي والعلميّ والنفسي والاجتماعي.
بعد كلّ ما كان يدورُ في رأسي، التفتُّ إلى الطفل الذي كان يسأل والدته عن شكل مستقبله المجهول، وأجبتُهُ بسؤالٍ آخر: "هل تدري أيها الطفل المُبدع كيف تصنعُ مستقبلك؟". شعرَ بالدهشَةِ حين اقتحَمتُ تساؤلاتهِ بسؤالٍ أكثرَ إرباكًا، وأصبحَ ينظرُ إليّ بعينينِ مملوءَتَينِ بالحيرةِ، وبدل أن أتركه في خضمّ تعجّبه وتوالدِ الأسئلةِ لديه قلتُ له: "اصنع مستقبلكَ على مقاعدِ المدرسة، وبين رفوف الكتب". لقد كنتُ شديد الرغبة في إكمالِ الحديث مع هذا الطفل الذي تميّزَ بسؤالهِ الذكيّ، إلا أنّ موعد دخولِ والدته إلى الطبيب قد حان.
نظلمُ أنفسنا حين نظنُّ أننا لا نستطيع، أو لسنا أهلًا لمنزلةٍ ما، ولكننا في الحقيقة لا نملك العلم الذي يؤهّلنا للكفاية في تلك المنزلة، ولم نحصّل المهارة التي تنفعنا في التميّز في ذلك الميدان، ولهذا كان من الضروريّ في أي مجال أن ينكبَّ الإنسان على العلم لينهل منه ما استطاع، ثم يمارسَ ما تعلَّمه أنّى سمحتْ له الفرصة بذلك، ليبني شكلًا متكاملًا من أجزاء الحلم الذي يحلم بأن يصل إليه. مرجع غير مباشر.[١]
الأحلامُ ليست أحلامًا بالمعنى الحقيقيّ، لأن الحلم هو ما لا يتحقق إلا أثناء النوم، والأماني أيضًا ليست إلا أمانٍ في الأذهان لا يمكن لإنسانٍ أن يصل إليها، أمّا الرَّجاءُ الذي يضعه الإنسانُ بين طيّاتِ دعائه لله تعالى فهو الحلم الذي يجب أن يستيقظَ ليسعى إليه، ويجهد نفسه ليصل إليه ويأخذ بكل أسبابه، ثم يرمي عليه اطمئنانَ التوكّلِ حتى يقضيَ الله بالخير والتوفيقِ والرضا والنجاح والهداية. مرجع غير مباشر.[٢]
المراجع
- ↑ د فاطمة مسعود مركز الكتاب الاكاديمي، طموح الأكاديمي والثقة بالنفس، صفحة 25. بتصرّف.
- ↑ سعد الخولي، الجذب الفكري والخطوات السبع لتحقيق الاحلام، صفحة 5. بتصرّف.