ماذا تطمح أن تكون؟
الإنسان يبدأ أوَّل أمره صغيرًا، ليس بالحجم فقط بل بالعقل والأماني والحاجات، يكبر وتكبُر تلك الأشياء معه، إذ لا يكتفي بأساسيَّات العيش الَّتي تجعله حيًّا، ولا يقنع من الحياة بجنى قليل ونصيب متواضعٍ من الهناء، ولا يكتفي بمساحةٍ يحوزها على الأرض في مجلسه ونومه وممشاه فيطمح إلى تربُّع مساحاتٍ أكبر بالقدر والمكانة الاجتماعيَّة والقيمة مما يولِّد عنده شيئًا اسمه الطُّموح.
الطُّموح يا صديقي كلمةٌ كبيرةٌ وذات أوجهٍ مختلفةٍ بين شخصٍ وآخر؛ فلا يتَّفق على مُنتهاها اثنان ولا يُبتغى منها معنى واحد، فإنَّ في النَّاس من يرى قيمته بالعلم الَّذي يحوزه فيطمح أن يتزيد منه ما استطاع، ومنهم من يرى قدره يعلو بالمال فيمكِّن لنفسه بما يحصِّله منه.
آخرٌ يرى في عون النَّاس وفعل الخير هدفًا ساميًا يسمو به فيسعى ما استطاع إلى وجوهه ويسلك ما تيسَّر له من طرقٍ إلى الخير، فإنَّه يلتمس في سعادة النَّاس سعادةً له، ويرى في امتنانهم تقديرًا له ولوجوده لا يراه في مالٍ أو علمٍ أو سواه.
مِن النَّاس من رقَّت طباعه وشفَّ إحساسه وجعل من الحبِّ غايةً له في الحياة، فلا يروق له حالٌ إلَّا إذا التقى بمن يُحبّ واجتمعا على الحبِّ فيكون قد ملك الدُّنيا وما فيها بامتلاك هذا الحبّ، وهو دونه حزينٌ كئيبٌ لا يعرف سرورًا ولا راحةً، وربَّما كان أشقى النَّاس إذ جعل قلوبهم مستقرَّ راحته وهي ليست على حالٍ واحدةٍ إذ تتقلَّب وتتبدَّل بغير علَّةٍ أو سبب.
إنَّ أعقل النَّاس مَن جعل غايته فيما فيه خيرٌ له وللنَّاس، وفيما يرجو به مستقبلًا أفضل وعقلاً أرجح من علمٍ ومعارف وخبراتٍ اجتماعيَّةٍ ومال، وكثيرًا ما يخطئ الإنسان إذ يخلط بين الطُّموح للأفضل والطَّمع بالأكثر، فإنَّ الطُّموح يسكن النَّفس الكريمة الَّتي تسعى إلى التَّقدم بكلِّ ما فيه خيرٌ لها وللآخرين وتقنع بما تؤتى من فضلٍ وتعمل على زيادته، أمَّا النَّفس الطَّامعة فهي من لا ترضى مهما حصَّلت من خيرٍ وترغب في امتلاك كلِّ شيءٍ والاستئثار به رغبةً في الامتلاك لا أكثر، والتَّمييز بين هذا وذاك يكون بالنِّيَّات الكامنة وراء الرَّغائب والمقاصد المنتظرة بعد تحصيلها، فإن صلحت كانت تلك أسباب الطُّموح وإن فسدت دخلت في باب الطَّمع.
كيف تتحدى صعاب الطريق؟
كلَّما تطلَّع الإنسان إلى منازل رفيعةٍ كان بلوغ غايته أصعب وأشق، فإنَّ الغاية الكبيرة تحتاج صبرًا كبيرًا وجهدًا كثيرًا ولولا ذلك لتساوى النَّاس في المنازل ولما تمايزوا عن بعضهم البعض في القدر والمرتبة، فلا يصل إلى غايته إلَّا صاحب الهمَّة المؤمن بإمكانيَّة الوصول، وقد كتب الشُّعراء الكثير عن ذلك وهو ما نراه في قول الشَّاعر الرَّاحل محمود درويش حيث يقول:[١]
- ما زلتُ حيًّا في مكانٍ ما
- وأعرفُ ما أُريد
- سأصيرُ يومًا ما أُريد
إيمان الإنسان بنفسه ومصيره أهمُّ عاملٍ في بلوغ الأحلام وتحقيق الأماني، ومَن لا يؤمن بذاته لا يصل إلى غايةٍ وإن اجتهد، أمَّا مَن آمن بها دون عملٍ واكتفى برسم الأحلام والتَّمنِّي وبنى قصورًا في الرَّمل فلا يعوَّل عليه ولا على أمنياته، فكثيرًا ما نجد أشخاصًا يحلمون ويرسمون آمالًا عريضةً لكنَّهم لا يكلِّفون أنفسهم مشقَّة المحاولة والسَّعي منتظرين أن تأتي تلك الأماني من تلقاء نفسها، وفي ذلك قال الشَّاعر أحمد شوقي:[٢]
وما نيلُ المطالبِ بالتَّمنِّي
- ولكن تؤخذ الدُّنيا غلابا
إن كُنتَ تطمح أن تصير طبيبًا أو مذيعًا مهمًّا أو معلِّمًا أو أيَّ شيءٍ آخر فابدأ بما يحقِّق تلك الغاية مهما كانت بعيدةً، فإنَّ طريق الألف ميل يبدأ بخطوةٍ، ومهما بعدت عنك الأشياء يقرِّبها إليك الله بالنِّيَّة الصَّالحة والصِّدق والإخلاص في العمل والصَّبر على الشَّدائد، فلا تتوقَّع أن تصل إلى أمرٍ دون أن تتخطَّى مصاعب كثيرةً وتتجاوز ما يعرض لك من عقباتٍ، ولا قيمة للطُّموح أصلاً ما لم يكن صعب المنال، ولا تنشغل بالهمِّ عن متعة السَّعي والمسير قدمًا تجاه حلمك، فإنَّ الطَّريق تكون غالبًا أهمَّ من الوصول إلى الهدف، والطَّريقة الَّتي نبلغ فيها حلمنا جزءٌ مهمٌّ من هذا الحلم خلافًا لرأي نيكولا ميكافيللي الَّذي قال إنَّ الغاية تبرِّر الوسيلة.
كثيرًا ما تكون الوسيلة هي أصل الغاية، مما يحتِّم ضرورة سلوك مسالك خيِّرةٍ ونافعةٍ نحو أهدافنا دون أن نبدِّي مصالحنا على حساب مصالح الآخرين ودون أن نستغلَّ أحدًا حتى نبلغ أمانينا، بل إنَّ بلوغها بدعم المحبِّين أجمل وأسهل، فالمرء أقوى حين يكون محاطًا بالدَّاعمين فيصل إلى مطامحه محاطًا بالحبِّ ويتجاوز العقبات بمعونتهم ممَّا يفرض عليه واجب عونهم على تحقيق مساعيهم وتخطِّي عقباتهم، فإنَّ سعادة الأشياء تكتمل بروح الجماعة.
تؤكِّد الدِّراسات النَّفسيَّة على أهميَّة الدَّعم وخاصَّةً في المراحل الأولى من عمر الإنسان، حيث يتمُّ التَّركيز على دعم الطُّلاب في المدارس، فالدَّعم النَّفسيُّ الاجتماعيُّ هو صلة الوصل بين العمليات النَّفسيَّة والاجتماعيَّة الَّتي يؤثِّر كلٌّ منها في الآخر، وهذا الدَّعم هو ما يعزِّز الرَّفاه النَّفسيِّ الاجتماعيِّ ممّا يُعطي شعورًا بالاستقلاليَّة والقدرة على تحديد الهدف من الحياة وتقدير قيمتها ويساعد في التَّطوُّر الشَّخصيِّ الَّذي يسهم في تحقيق الأهداف والطُّموحات.[٣]
صِف لذة النجاح بعد الوصول؟
إنَّ أجمل نعمةٍ يحظى بها الإنسان أن يصل إلى ما سعى إليه وتمنَّاه وتكبَّد لأجله العناء والمشقَّة، فينسى كلَّ ذلك ويشعر كأنَّه كان حلمًا طويلاً عبره بخفَّةٍ إلى لحظةٍ هي خُلاصة ماضيه ومفتاح مستقبله، وكلَّما كان الطَّريق أصعب صار الوصول أجمل، فإنَّ النَّاجحين والمؤثِّرين عبر تاريخ البشريَّة مرُّوا بظروفٍ صعبةٍ وليالٍ حالكة السَّواد بما فيها من حزنٍ وأسىً لكنَّهم حازوا كراماتٍ وأماكن مرموقةً كفايةً لتجعلهم فخورين بكلِّ العذابات الَّتي عرفوها، حتَّى إنَّ منهم مَنْ يُباهي بتاريخه على ما فيه من فقرٍ وشقاءٍ وتعاسةٍ وذكرياتٍ قد يخجل بها أيُّ إنسانٍ وكأنَّها عارٌ عليه، لكنَّ مَن يصل إلى غايته يرى تلك المشاقَّ دوافع لبلوغ الغاية لولاها ما وصل إلى مرامه.
لو نظرنا إلى قصَّة حياة نيلسون مانديلا سنجد أنَّه عانى في طفولته كونه كان أفريقيًّا فلم يكن دخوله المدرسة أمرًا سهلاً وكان من السُّود القلائل الَّذين استطاعوا ذلك، وقد أثبت نجابةً وتفوُّقًا، وبالرَّغم من ذلك طُرد منها مع صديقه بسبب مشاركته في احتجاجاتٍ ضدَّ التَّمييز العنصريّ فلم يستطع إتمام دراسته بشكلٍ منتظم، لكنَّه لم يستسلم فأكمل تعليمه عن طريق المُراسلة إلى أن حصل على شهادة الحقوق، ولم يستطع العمل بعدها في الدَّوائر الحكوميَّة لكونه أسود ومعارضًا للتَّمييز العنصريّ، فتابع حياته وافتتح مكتبًا مع صديقه الذي طُردَ معه أيام الدِّراسة، وكان ذلك المكتب هو أوَّل مكتب محاماة لذوي البشرة السَّوداء في جنوب أفريقيا.
لو لم يُعانِ كلّ تلك المعاناة ولو لم يرَ الظُّلم الَّذي يتعرَّض له أصحاب البشرة السَّوداء لما وصل إلى ما هو عليه، فحمل هذا الهمَّ الشَّعبيَّ والقضيَّة الاجتماعيَّة الكبيرة ليكرِّس حياته لمناهضة التَّمييز العنصريّ، وهو يقول في هذا "التَّعاطف الإنساني يربطنا ببعضنا ليس بالشَّفقة أو التَّسامح، ولكن كبشرٍ تعلَّموا كيفيَّة تحويل المعاناة المشتركة إلى أملٍ للمستقبل"[٤]، فقد صارت المعاناة أملاً عند هذا الرَّجل حين وصل إلى مكانةٍ مؤثِّرةٍ في العالم واستطاع أن يترك بصمته الخاصَّة تاركًا وراءه كلَّ دمعةٍ بكاها وكلَّ مشقَّةٍ احتملها، فقد حلَّت سعادة الوصول ومتعة النَّصر مكان كلِّ تلك الآلام.
هذه الحياة لا قيمة لها دون حلمٍ ولا سعادة فيها دون غايةٍ كبيرةٍ ننشدها ونسعى إليها، فإنَّ الحياة هي خلاصة محاولاتنا وخطواتنا وعثراتنا، وقيمة الإنسان تتجلَّى أوَّل الأمر وآخره في أحلامه ومراميه ونظرته للحياة ومساعيه لجعلها أفضل وأقلَّ قسوةً وأكثر سعادةً، ومن ينجح في ذلك يستطيع أن يتجاوز الموت الَّذي يهدِّد وجوده ليستمرَّ ذلك الوجود حتَّى بعد أن يُوارى التُّراب، فإنَّ الإنسان يبقى حيًّا بقيمته وما يخلِّفه من أثر جيِّدٍ في الحياة، فيبقى معناه بعد أن يفنى جسده فهو الطُّموح والغاية، وتبقى منه مراميه وغاياته الَّتي استطاع إليها سبيلاً والأماني الَّتي أسهم في تحقيقها وإن لم تكن له.
إن لم يستطع إلى أحلامه وصولاً فإنَّ الطَّريق الثَّريّ بالمحاولة والسَّير قدمًا والسَّعي الدَّائم هو وصولٌ إلى معنى الذَّات الَّتي لا تيأس، فعلى الإنسان أن يحاول مهما كان شكل حياته وإلى آخر يومٍ منها، وفي ذلك قال امرؤ القيس:[٥]
بَكَى صاحبي لمَّا رَأَى الدَّربَ دونَه
- وأيقنَ أنَّا لاحقانِ بقيصرا
فقلتُ لهُ لا تبكِ عينكَ إنَّما
- نحاولُ مُلكًا أو نموت فنُعذرا
إنَّ صاحب الطُّموح لا يفصله عن مبتغاه ولا يقطعه عن سعيه إلَّا الموت.
المراجع
- ↑ "جدارية محمود درويش"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 2020-12-06.
- ↑ "شعر أحمد شوقي"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 2020-12-06.
- ↑ "الدعم النفسي الاجتماعي"، المركز التربوي للبحوث والإنماء، اطّلع عليه بتاريخ 2020-12-04. بتصرّف.
- ↑ "حكم وأقوال عن التعاطف"، حكم نت، اطّلع عليه بتاريخ 2020-12-06.
- ↑ "قصيدة سما لك الشوق"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 2020-12-06.