محتويات
صباح الريف مليء بالحب والياسمين
الصباح في الريف لا يُشبه أي شيء آخر، إنّه نوع من السعادة والحرية التي يُقفى أثرها مثل فراشة تحلق في يوم ربيعي فوق الأزهار، فيهفو النّاس إلى العيش فيه، ويستيقظ الإنسان في الريف وهو مفعم بالنشاط، والحب، والأمل، وهو يتأمل ذلك اليوم الجديد الذي سيعيشه في أحضان الطبيعة الدافئة، تلك التي تحتضنه مثل أم تُحاول أن تضم وليدها بعيدًا عن هذا العالم البشع الذي يُعانى فيه الإنسان من شتى أنواع المتاعب.
الياسمين يمتزج مع أنفاس الخبز الطازج الذي يرى النور ما بين الفجر وطلوع الشمس، هناك حيث كل شيء يبدو جميلًا، ويدعو إلى السكينة والتأمل، بعيدًا عن تعقيدات الحياة التي لا يصل الإنسان من خلالها إلا إلى المتاعب النفسية.
الريف هو الأم الرؤوم التي تعطف على أولادها كيف لا، وهو الذي احتضن الجميع فمنهم مَن تنكّر له وهجره، ومنهم مَن بقي على عهد الوفاء، فالحب هي اللفظة الوحيدة التي لا حاجة لشرحها فكل حرف فيها يحمل نبضًا من نبضات العاشقين.
هناك حيث الورود تتضافر مع أنفاس الفجر وحيث الياسمين هو الأبجدية الأولى التي لا يتعلمها النّاس؛ لأنّها تُخلق بين يديهم، الريف تلك اللوحة الفنية التي مهما حاول الإنسان أن يرسمها لن يستقي حبره سوى من مداد قلبه ونفسه وروحه، هناك حيث تختلط النفوس الطيبة بالطبيعة الخلابة وبساطة العيش؛ لتتمخض عن ذلك الجمال الأبدي.
البيت يعضد الآخر في الريف
البيوت تتلاصق في أنحاء الريف كله، وكأنها أجساد من النّاس يحتضن بعضها بعضًا ويتماسكون فيما بينهم، فيشكلون حصنًا من الحجارة والطين، وتحكي الجدة قصة لأحفادها عن ذلك الالتحام والدفء الروحي الجسدي الجميل، هناك حيث تكون الكوة ما بين جدران البيوت هي وسيلة التواصل ما بين الجارة وجارتها التي تلقي لها بالأخبار صباحًا ومساء، فعوضًا عن محطات التلفاز التي يقضي أهل المدن أوقاتهم عليها تكون تلك الكوة هي مصدر الأنباء.
قد لا يُدرك النّاس ما يعنيه البيت الريفي إلا حينما يرى الياسمين يُعرش على جدران البيوت فيبني جسرًا ما بين البيت الأول والثاني، وكأن النباتات تآلي على نفسها ألا تفرق ما بين بيت وآخر، وكأنّ الجدران تحكي في كل بيت قصة الأمل الذي يعيشه سكان ذلك البيت، مشكلة بذلك لوحة فنية بأنامل عفوية، ينبعث منها الشعور بمدى جمال بساطة العيش.
سمعت مرة حديثًا نبويًا شريفًا فحواه أنّ المؤمنين كالبنيان المرصوص يشد بعضهم بعضًا، وهذا ما نراه في البيوت الريفية من التماسك حيث يشد بعضها بعضًا، وكأنّهم التحموا مع بعضهم جسدًا واحدًا لا ينفكّ إلا إن تهدمت تلك البيوت؛ لتتهدم معها تلك اللحمة التي شبّ أبناء الريف عليها، البيت يعضد الآخر في الريف بصورة يصعب أن تُمثل إلا من خلال الكلمات الخالدة، تلك التي لا تزول ولا تفنى، ولا ننسى صدق الحب الريفي الذي يستحق أنّ يخلد، فلا يُمحى على الإطلاق.
الريفيون نسيج من الأصالة والطيبة والحب
تلك الطبيعة الغنّاء تعكس في طياتها جمالًا أخاذًا ينعكس على الإنسان الريفي، ذلك الإنسان الذي تعكس الشمس صفاءها عليه، وكأنّه لوحة فنية فتتجسد فيه آلاء الله تبارك وتعالى، الأصالة والطيبة والشهامة هي منبع يرتوي منه الإنسان الريفي وكأنّه يُشبه تلك الشجرة التي ما تفتحت أوراقها إلا من الجمال والجلال الذي وهبه الله تبارك وتعالى إليها.
لمّا يسأل أي شخص عن الإنسان الريفي فإنّ أول ما يُجاب عنه أنّه صاحب أخلاق طيبة ونفس راضية لا يقتات من الدنيا إلا كما يقتات العصفور من الدنيا، فلا يأبه لخسارة ولا يكترث لرزق بقدر ما يتوكل على الله؛ لأنّ الله تعالى هو الذي قسمه له، تلك الصفة التي تجعل من الإنسان أبعد ما يكون عن الدناءة والبخل الذي يُصيب الإنسان الذي تلوث برغبات المدينة.
الحب هو الطينة التي عُجن الإنسان منها، وكأنّه امتزج مع الأرض ليكونا كالشيء الواحد، فهو مثال الطمأنينة التي لا تسعى إلى بذخ الدنيا قدر ما تسعى إلى رغيف الخبز المعجون بالحب والطمأنينة، فالإنسان الريفي هو ذلك المثال الحي الحاضر في أي نفس بشرية، وكأنّه يأبى أن يغادرها إلى ليعود إليها.
الصدق هو أهم ما يميز الإنسان الريفي الذي لا يعمد إلى المجاملات ولا يفقه شيئًا من "إتيكيت" أهل المدن ولا يُحاول أن يُهادن في كلامه، ولا أن يُسايس من أجل الوصول إلى ما يريد، الإنسان الريفي هو ذلك البسيط الذي اعتاد أن يأتي بكلامه مباشرة دون أن يصطنع لنفسه قالبًا يناسب الآخرين ويعجبهم، فهو مثال الشخصية الواثقة.
مساء العائلة الريفية الملتفة حول بعضها
أخيرًا حين يحل المساء، ويسكن كل شيء إلى كل شيء، ويعود العصفور إلى بيته لا يُفكر في رزقه في اليوم التالي، وهو يعلم بأن الله وحده هو المتكفل بذلك، وحين تنام الوردة على أختها وتتسكع الهرة على أسطح المباني، وتلتف العائلة الريفية في صحن البيت على شكل دائرة لطيفة جميلة، ويتبادل الأبناء فيها الضحكات والنكات التي مرَّت بهم طيلة يومهم، تعلم بأن حياة الريف حياة تستحق أن تُعاش.
القمر وحده هو الذي ينعم في تلك الجلسات الهانئة الهادئة، وكم يُحالف الحظ العائلة إن أطال الله تعالى في عمر الجدَّة التي تحفظ من الحكايات أكثر من ألف ليلة وليلة، فيستند الابن إلى إحدى قدميها وكأنه يرمي بثقل العالم كله إليها، لتمسح ذلك الثقل بيدها الرقيقة الدافئة التي ما عرفت من نعومة الحياة قدر ما عرفت من خشونة الأرض وأشواكها.
الكل يلتف برفقة بعضه البعض وكأنهم مثل الوردة الجورية الحمراء التي تستند فيها كل ورقة إلى أختها معلنة ميلادًا جديدًا من الحب، وكل ورقة تستقي من الثانية نعومتها ونضارتها فإذا شاء القدر ويبست إحدى تلك الوريقات شاء القضاء أن تتيبس جميعها.
العائلة هي المنة التي امتنّ الله بها على العالم بأجمعه، لكنّ المجتمع الريفي خصّه الله تبارك وتعالى بتلك النعمة زيادة على أهل المدينة الذين ألهتهم الحياة الدنيا عن التمتع بصحبة العائلة، فلا يحزن الإنسان إلا وجد أقرباءه إلى جانبه، وفي الريف فقط يجد الإنسان نفسه، ويُواجه ذاته، وينفرد مع ضميره؛ ليكون حينها سيدًا لنفسه، ومبعثًا للنقاء والطمأنينة.