تعبير عن القمر

كتابة:
تعبير عن القمر

كيف يوقظ ضوء القمر الإلهام في نفسك؟

البهاء والعظمة، النّور والوحدة، التّفرد والجمال، صفاتٌ التصقت بالقمر على مرِّ العصور والأزمان، فالقمر في عليائه يتربّع على عرشه في السّماء والنّجوم تحيط به، كما الملك المهاب بين حاشيته ورعيته، لست أدري من أضاف الجمال إلى الآخر، أهي ظلمة السّماء وسواد الليل من أضاف للقمر حسنه، أم ضوء القمر وبهاؤه كشف عن جمال الليل؟ أنظرُ في كلِّ ليلة إلى القمر في عليائه وما يحمله بين طيّاته وصخوره من هدوء وإبداعٍ وعطاء، ليذكرني بنفسي وبوحدتي التي أشعر بها بين البشر، وما هي إلّا لحظات لأشعر بخيوط الضّوء القمريّة تتسلل إلى غرفتي علّها تضيء نواحيها بعد أن رأى القمر زوايا غرفتي وهي غارقةٌ بالظُّلمة.


أنظرُ لتلك الخيوط مبتسمةً ابتسامة اللامبالاة داعيةً إياها بأن تضيء لي ظلمة قلبي قبل أن تضيء غرفتي، وألقيت إلى القمر تلك النّظرة اللائمة لأنّه أيقظ في داخلي كلّ مشاعر الوحدة المخبوءة، والتي طالما عانيت منها وحاولت ألّا أكشفها لمخلوق على وجه الأرض، وإذ به يبادلني بذات النّظرة إلّا أنّها تحمل الكثير من المعاني، وكأنّني أسمع همساته معاتبًا لي على موقفي من خيوطه الفضِّية، لماذا القمر يوقظ كل تلك المشاعر بداخلنا، لماذا القمر أنيس كل ضائعٍ وتائهٍ في خضم هذي الحياة، ما هذه القوة بل ما هذا الجمال الذي حباه الله تعالى للقمر حتّى يقف أمامه البشر وهم يعترفون بما قاسوه في هذا الحياة.


عندما أرى القمر أكون كتلك المتّهمة خلف القبضان ماثلةً في المحكمة أمام القاضي وهو القمر، أكون كتلك المتهمة التي تحاول إخفاء الحقيقة حتى لا يُحكم عليها بالقصاص، ولكنّي لا أملك شيئًا أمام هيبة القمر، فها هو يفرض سطوته عليّ ويوقظ ما بداخلي بل ينبش ما دفنته طويلًا بين حنايا قلبي علّي أدخله في عالم النِّسيان، وأبدأ بالكتابة فأسطر كلماتي في أشواقٍ كتمتها طويلًا، وفي آهاتٍ استبعدتها فتراتٍ طويلة من الزّمن، ولست أنا الوحيدة التي يستل القمر كلماتها، فهاهم الشّعراء قد وقفوا مكبلي الإرادة أمام سطوة القمر يصفون ما آل إليه حالهم من شوقهم للمحبوبة، فيربطون جمالها بجمال القمر فيتراءى لهم وجه المحبوبة في القمر، وبهذا انبرت كلمات الشّاعر أحمد شوقي فيقول:

يا قمرًا يطلع كل مساءٍ من نافذة الكلمات
يا أعظم فتحٍ بين جميع فتوحات
يا آخر وطنٍ أولد فيه
وأدفن فيه
وأنشر فيه كتاباتي [١]


عندما رأيت ضعف الشّعراء والكتاب أمام جمال القمر، وعندما سمعت كلامهم وأشعارهم التي كتبوها وهم تحت تأثيره وكأنّهم سكارى لا يعلمون ما يقولون، بررت لنفسي قدرة القمر على إخراجه مكنونات نفسي وإيقاظه مشاعري.


هل تعتقد أن أطوار القمر تؤثر في مزاجك؟

سيبقى القمر المؤنس الوحيد في ظلمة اللَّيالي المعتمة، وسيبقى رمزًا للأمل والنّور وسط الظَّلام، بل سيظل ملجأ للمحبِّين والعاشقين الذين يضربون المواعيد ويلتقون تحت ضوئه، وقد وقف الشّاعر نسيب عريضة بين يدي القمر يتحدّث عن مكنونات نفسه واصفًا إياه وهو يقول:

حَدَّثَ الشاعرُ عن نُورِ القَمَر

وافتِرارِ الليلِ عن ثغرِ السَحَر

عن شُمُوسٍ سَطَعت أنوارُها

تَملأ الأرضَ سُرورًا والبَشَر

عن رِياضٍ فَتَحت أحضانَها

لعِناقِ الصَبِّ في ظِلِّ الشجَر

عن جمالِ الغيدِ في فِتنَتِهِ

عافَ هاروتُ الخُلُودَ المُنتَظَر [٢]


لكن عندما أسمع تلك الكلمات وأتأمل حال الشّعراء بين يدي القمر ما بين سعيد وحزين، أتفكر في سبب هذا التّضاد بتلك المشاعر وما هو السّحر أو التّعويذة التي يلقيها علينا القمر حتّى يصبح بمقدوره أن يتحكم في مزاجنا على هذه الشّاكلة، فكثيرًا عندما أرمق القمر بناظري، أشعر بالسعادة التي تغمرني، وذلك لأن القمر مرتبطٌ بجميع أطوار حياتي، ولست أنا فحسب، بل هو يحمل كل تلك الذكريات الخاصّة بالشعوب والحضارات التي مرت عليه، فبهذا يصبح القمر مختزنًا في ذاكرته تلك الوجوه والأحداث وهو مصرٌّ على مراقبتهم في كلِّ ليلة، ليعلمنا درسًا في البقاء والاستمراروالثبات عندما نراه في قمة التّوهج، كما أنني أشعر عندما أرى القمر بدرًا ببركانٍ من العواطف المتفجرة بداخلي، تزداد مع ازدياد ضوئه ونوره.


تأتي بعد ذلك أطوار القمر وحالاته ما بين الهلال والمحاق الذي يترك ليالينا مظلمة، نخرج لنبحث عن القمر علّه يزرع فينا الأمل إلّا أنّ تعبنا يبوء بالفشل، فلا قمر في السّماء، فهنا نلقي نظرةً إلى السّماء ملؤها الدُّموع، فذهاب القمر عندي هو رمز منه للاستسلام واستئثار الراحة التي ما عهدتها يومًا منه، وهنا قد سأشعر بالفراغ والضّعف الذي لا مبرر له إلّا قدرة تحكم القمر بمزاجي.


من خلال انتقال القمر في جميع أطواره سأعلم بأنّي قد مررت بدورة القمر بأكملها معه، فكنت معه هلالًا عندما خطّطت لمشاريعي، وعشت معه بدرًا حينما تفجّرت مشاعري، لأعود محاقًا ضعيفًا أبتعد عن الحياة مجدّدًا، ولكن في نيتي أن أستعد لدورة جديدة كما القمر تمامَا.


ماذا يحدث إذا اختفى القمر فجأة من حياتنا؟

القمر هو ذاك الشيفرة الزّمانيّة التي تقرِّب الأحباء من بعضهم، فمهما فرّقتهم مساحات الأرض ستجمعهم تلك النظرة إلى القمر والتي تطوي معها كلّ تلك المسافات والحدود والسُّدود، بل ربما يشدُّنا إلى القمر هو تلك الهالة السّحرية التي تحيط به، وكأنَّنا ننظر إلى آمالنا البعيدة وأمنياتنا الَّتي حُرمنا منها يومًا ولا نعرف لها شكلًا إلَّا من خلال ما رسمته أحلامنا، ولكن ماذا لو اختفى القمر يومًا من حياتنا؟ ماذا لو أنّنا استيقظنا يومًا لنعلم أنّ القمر ذهب من غير رجعة؟ كيف سيكون شكل الحياة من دونه.


لن نتحدّث عن غياب القمر وما يؤثره على الأرض والضّوء والحياة، ولن نتحدّث عن غياب القمر والذي سيُسبّب خللًا في المنظومة الكونيّة التي أبدعها الله تعالى، بل سنتحدّث عن أثر غياب القمر في أنفسنا، سنتحدث عن أثر غياب القمر في حياتنا، في غياب القمر ستضيع ذكرياتنا ويضيع الملهم الأوّل لمشاعرنا، في غيابه ستفقد الكلمات طريقها إلى المبدعين من شعراء ورسامين وأدباء أو موسيقيين أطربوا آذاننا بأنفاسهم وموسيقاهم السّحرية، فلن يرسل لهم القمر خيوطه الفضيّة ليبتكروا على ضوئها تلك الكلمات والرّسومات أو الألحان التي قُضت من الجمال.


لن نجد من يحاكي هذا الجمال بما حباه الله من هباتٍ ومقدراتٍ فنيَّة ليترجمها لنا حروفًا نرى جمال القمر في ثنيات تلك الحروف، بل لو قُدر للقمر أن يغيب يومًا لما كنا استشعرنا بمقطوعة ضوء القمرللموسيقي بيتهوفن والذي قد ألَّفها لتكون مقطوعةً من أجمل موسيقاه وأكثرها شتهرةً، بل سنذهب لأبعد من هذا لنرى أنّنا سنحرممن إبدع الفنَّان الفيكتوري جون غريماشو في لوحته الشَّهيرة التي أسماها تحت ضوء القمر في ليلة ممطرة.


لنعلم أنّ القمر هو العنصر الجمالي الأول والأساسي في شتَّى الفنون، فلا غنى للنَّفس الحساسة والمرهفة عن القمر، وذلك من أجل استقاء صور الجمال ومعانيه منه، ففي الماضي والحاضر والمستقبل سيبقى القمر هو مصدر أحلام البشر وأمانيهم وإلهامهم، وقد صدق من قال اِتَّجِهْ نحوَ القمرِ، حتَّى وإنْ فشلتَ، فإنَّك ستجد نفسكَ نجمةً بين النُّجوم.


تحدث عن القمر في ضوء القرآن الكريم

لقد خلق الله سبحانه وتعالى هذا الكون العظيم وأبدع في خلقه بكلِّ تفصيلة من تفاصيله، ومن أحد الظّواهر الكونية التي تشهد على إبداع الله هو القمر، فهذه الظّاهرة الموجودة حولنا بشكل دائم، والتي يجب أن نتدبر فيها ونتعجب من عظمة خلقه، وحتّى يعلمنا الخالق أهمية خلق القمر وإعجازه، فقد ورد ذكره في التنزيل الحكيم في العديد من المرات؛ وما هذا إلّا ليبقى الإنسان مسبحًا لخالقه متدبرًا لآياته الكونية، فقد قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ}.[٣]


عندما نعمد للتّأمل في إعجاز نظام هذا الكون الرائع الذي يسير عليه، سنجد أنّ الله ربط في ذكره للقمر ما بينه وبين الشّمس، وما هذا إلّا لإظهار سيرورة الكون على نظامٍ محدد، فالشّمس تشرق كل يوم في موعدها من دون أيِّ انقطاعٍ، ومن ثمّ تغرب ليليها بزوغ القمر البهي الذي يظهر في السماء ليلًا، فقد قال تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ۚ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ}[٤]، فكل ذلك يحثنا على تدبر عظمة الخالق وقدرته في تسير الكون، فلا أحد سواه يمتلك تلك القدرة.


أثبت العلم الحديث أن لكلِّ كوكبٍ قمرًا يدور حوله، ولكن جميع الآيات الواردة في القرآن عن القمر، هي آياتٌ تتحدث عن قمرنا الخاص بالأرض، فقد ذكر الله في محكم تنزيله أنّ القمر يستمد نوره من الشمس لِينير لنا ظلمة السماء في الليل، فقال تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا}،[٥] ومن ثمّ أشار إلى الإتقان العظيم والإبداع في خلق القمر، الذي يتّبع دورة شهرية تتمثل في تحوله إلى هلال في أول كل شهر من الشهور القمرية، ومن ثمّ يصبح بدرًا مكتملًا في وسط الشهر، ليعود بعد ذلك هلالًا ومن ثمّ يختفي في أيامه الأخيرة من كلِّ شهرٍ، وقد قال تعالى في هذا: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ}[٦]، وبعد ذلك يتركنا القمر لنعاني من الظللمة الدّامسة لليل بسبب عدم وجود القمر في سمائنا.


القمرهو آيةٌ عظيمةٌ من آيات الله تعالى؛ وذلك أنّ الله لم يقتصر في ذكر القمر على أنّه كوكب معجِزٌ وفيه الجمال والبهاء، إضافة إلى أنّه يحافظ على سيرورة الكون، لا بل القمر أعظم من هذا، فقد كان له الشّرف ليكون معجزةً من معجزات النّبي -عليه الصّلاة والسَّلام- إضافةً لكونه علامة من علامات يوم القيامة، فما أعظم الله تعالى وما أجمل إبداعه في خلقه!

المراجع

  1. "أحبك أحبك وهذا توقيعي"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 15/6/2021.
  2. "حدث الشاعر عن نور القمر"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 15/6/2021.
  3. سورة الرعد، آية:2
  4. سورة فاطر، آية:13
  5. سورة نوح، آية:16
  6. سورة يس، آية:39
4345 مشاهدة
للأعلى للسفل
×