المهن كدٌّ وبناء
المهنة أمان من الفقر، هكّذا علّمتْني جدّتي منذ بلغت من العمر ثلاثة عشر عامًا، فكانت المهنة بالنسبة لي بمثابة الحبل المنقذ للعائلة من الفقر، إذ أُحاول أن أبذل قُصارى جهدي من أجل الوصول إلى الاحتراف في المهنة التي اخترتها لنفسي، لم يكن الأمر سهلًا على الإطلاق، فلا بدّ من الدقة العالية في أثناء تعلّم المهنة التي انتقيتها على غيرها من المهن، خاصة أنّ ذلك يحتاج إلى كدّ كبير وتعب عظيم وهو ما يجب أن أبذله لأصِل لما أريد، فلا شيء في الدنيا يأتي على طبق من ذهب كما صوّرت أفلام الكرتون قديمًا.
المهن تنوّع لازدهار شامل
قد يظنّ الإنسان أن باستطاعته جلب المال بناء على المهنة التي اختارها والمزايا التي تختص بها تلك المهنة دونًا عن غيرها من المهن، لكن المتطلع بنظرة ثاقبة يجد أنّ المهنة لا تأتي بالمال فقط لأنها رائجة، بل تحتاج إلى رجل يتقنها ويُداوم على تحسين نفسه بها، فقدر ما يعطيها من الوقت والتعب تعطيه من النجاح والثراء، إن نقطة العرق التي يذرفها العامل في سبيل الوصول إلى دريهمات يقمن صلبه لو تكلمت لعجزت كتب الأدب والبلاغة عن تدوين ما ستفصح عنه من العذابات التي يتعرض لها الإنسان في سبيل تقديم عمله بشكل مُتقن صحيح.
إنّ المهنة لا تحمل في طياتها متاعب فقط، بل تحمل حلاوة لو وزّعت على العالمين لكفتهم، حينما يبدع الإنسان في مهنته فيكون أهلًا لها ويقدم الأفضل فيها، المهنة أمان من الفقر حين يبذل الإنسان لها نفسه، لا حين يُعامل مهنته كوسيلة لتحصيل الطعام والشراب فقط، فلا هو يطوره فيستفيد منه ولا الحياة تتوقف فتبقى لمعارفه فائدتها، إنّ شخصية الإنسان تظهر من خلال مهنته فتكون هي مرآته فلو أُريد تشخيص حالته الداخلية ونفسه لكان نتاج عمله خير من يشهد عليه، إن العمل هو الجانب الروحي الذي يتجدد الإنسان من خلاله.
المهنة هي الشيء الذي تظهر من خلاله شخصية الإنسان، وغالبًا ما يختار مهنته تبعًا لدوافع نفسية داخلية، عدا عن أن الإنسان يكتسب من مهنته شيئًا كثيرًا، فالكاتب مثلًا يكتسب من الكتب وكثرة القراءة الرقة والنعومة واللفظ الهادئ والنفس السمحة والروح الطيبة، والنّجار يكتسب من الخشب القدرة على التعامل مع الظروف المختلفة من خلال ثني الخشب وحفره وإظهاره وكأنه لوحة فنية منقطعة النظير، لذلك فإنّ من حكمة الله ورحمته بعباده أن جعل لهم تنوعًا في المهن واختلافًا فيها فليست كلها تصب في بئر واحدة.
إنّ الازدهار الذي يخلفه تنوع المهن عظيم جدًا، فلو اختار الناس كلهم مهنة واحدة لما عمُرت الأرض بل ستزداد البطالة، مثل أن يختار جميع الناس مهنة الطب، فهي على شرفها وعلائها إلا أنّ المجتمع يحتاج إلى الطباخ والعامل والنجار والمصمم والمهندس والمعلم، فتتداخل تلك المهن مع بعضها لتشكل مجتمعًا متماسكًا مكتفيًا بنفسه لا يحتاج لاستقطاب الخبرات من المجتمعات الأخرى وذلك هو عين النجاح، قد يظن بعض الناس أن مهنة أشرف من مهنة، فعامل النظافة ليس كالطبيب وصاحب محل الخضراوات ليس كالمهندس، وهنا تكمن ثقافة المجتمع الخاطئة.
إن المهن تشكل مع بعضها جسرًا قويًا صلبًا متماسكًا يصعب اختراقه، فالمعلم يسهم في بناء الأجيال، والطبيب يسهم في مداواتها، والمهندس يسهم في بناء السكن الآمن لها، وعامل النظافة يسهم في جعل البيئة سلمية خالية من الأوبئة؛ لذلك لا بد من احترام المهن كافّة وتقديرها والإشادة بها، وأن يتقن كل إنسان مهنته ويبدع فيها من موقعه، فإن الله يحب إذا عمل أحدنا عملًا أن يتقنه ويبدع فيه من أجل بناء مجتمع يتمتع بالصدق والإخلاص، إذ إنّ كل مهنة تشكل بحد ذاتها حجرًا من رقعة شطرنج هذه الحياة فإذا اختلت الأولى كانت اختلال الثانية قدرًا حاصلًا.
المهنة هي المصدر الأول الذي يتمكن الإنسان من خلالها أن يعيل نفسه وأن يكسب ماء وجهه فلا يسأل الناس أموالهم، ولما جاء رجل يشكو لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- الفقر والحاجة أمره رسول الله بالعمل، فذهب الرجل واحتطب وصار يأكل من تعب يديه وعرق جبينه، فلا يسأل الناس أموالهم أعطوه أو منعوه، فالعمل واجب على الإنسان والرزق يأتي من الله تبارك وتعالى، ويحاول الإنسان دائمًا أن يطور من مستوى عمله حتى يرقى إلى الجودة المطلوبة التي يتمكن الإنسان معها من الافتخار بنفسه وعمله.
إنّ عمل الإنسان هو شغله الشاغل منذ أن تبدأ أنامله بلمس أدوات مهنته إلى أن يواري جثمانه التراب، فيحصد من ذاك العمل أجمل معاني الحياة ليسطر وإياه ذاكرته الحية التي لا تنتهي بموته؛ إذ سيترك من بعده آثارًا تبكي عليه، فلما كانت الخليقة الأولى في عهد آدم -عليه السلام- وحتى هذه اللحظة قضت الحياة ألا يأكل إنسان من دون عمل وألا يأخذ حبة قمح واحدة دون جهد؛ لذلك لا بدّ أن يكون العمل جزءًا لا يتجزأ من الإنسان حتى يستريح كل منهما إلى الآخر ويعمر المجتمع بكل صدق وإخلاص.
مهنتي متعة ورزق
لو نُظِر إلى العمل بعين أخرى لوجده الإنسان متعة حقيقية يصب من خلالها ذاته فيبدع فيما يصنع، إذ يقضي الإنسان في عمله نصف عمره إن لم يكن أكثر فيستمتع بما يفعله ويحاول دائمًا أن يُقدّم الأفضل، ولا يخفى على أحد قصة نجاح شركة والت ديزني التي تعدّ في العصر الحاضر من أكبر شركات الترفيه الخاصة بالأطفال والمراهقين والكبار، فقد بدأت بفكرة صغيرة من أخوين دمجا المتعة مع العمل فخرجت شركة والت ديزني المتربّعة على عرش شركات أفلام الكرتون، وقد حصدت نجاحًا مُنقطع النظير.