قدوتي في الحياة أمي
ببهائها وشموخ وقفتها أمام الزمن، تتربع أمي على عرش قلوب الكثيرات من اللواتي يحلُمنَ بأن يكُنَّ مثلها، في صمودها وصبرها وتحملها لما قد يواجهها من مشكلات، وفي تحمّل ما قد نجرّه لها من تعب، أحملُ قلبي وأدورُ في كل أرجاء العالم فلا أجدُ قُدوة تشبهُ أمي في تعليمها لي الصبر وتحمّل المسؤوليةِ، ولا أظنُّ أنّ لها نظيرًا في تأثيرها عليَّ بإيجابيّتها المُطلقة، وتحمّل المتاعب، وإيجاد الحلول الصائبة لما قد أقع فيه من أخطاءٍ مع إخوتي أو بين أصدقائي.
يمتلئ قلبي سرورًا حين أفكّر بأنها قُدوتي، لأنني حين أتخيل نفسي في المستقبل وأنا أتّصف بصفاتها يبتهجُ فؤادي وتزدهي رؤيتي للكون، فهي التي أخذت على عاتقها أن تحتويني وإخوتي في ساعات الرخاء والشدة، وأن تضعَ كفّها على جبيني في ساعات المرضِ سائلةً الله عز وجل أن يشفيني ويمسحَ آلامي ببركة رضاها، وهي التي تشعرُ بالهمّ لما يصيبُني من قلقٍ في أيامي الدراسية المليئة بالضغوط، وهي التي لو عددتُ ما تفعله لأجلنا كل يوم لما استطعت إحصاء فضلها وعطفها وحنانها.
أضعُ نُصب عيني كيفما سرتُ ابتسامتها، فأقتدي بتلك البهجة، ويتسلل إلى قلبي دفء ذلك الإشراق المنبعث من وجهها فيُشرقُ يقيني بأنّ الحياة سوف تغدو أجملَ كلما تجمّلتُُ بالصدق والإخلاص الذي تحملهما في قلبها، وأمشي وبين جوانحي حبّ للناس أجمع، فقد علّمتني أمي معاني العطف والرحمة، وأرشدتني إلى دروب التسامح مع جميع الناس مهما اختلفت مقاصدهم، لأن التسامح بذرة الحب الأولى وخاتمة الخِلاف، ثم أعودُ في نهاية اليوم لأقبّل يدها وأنالَ من قلبها رضًا يجعلني أنامُ هانئًا مُرتاحًا، سعيدًا بأن أكرمَني الله بحياتها ولم يحرمني من وجودها.
ذلك المعنى يذكرني دومًا بالشاعر الفلسطينيّ البارع في التعبير محمود درويش الذي وصف بُعده عن والدته بالأمر الذي لا يستطيع معه الإنسان الوقوف، فهي التي تؤدّي الدور الأساسيّ في رغبة الإنسان بالحياة، وهذا ما يجعلها قدوته الأولى، ودافعه الأوّل لتحمّل المصاعب والمشقّة، حيث يقول:[١]
- ضعيني إذا ما رجعتُ
- وقودًا بتنور ناركْ
- وحبل غسيل على سطح دارك
- لأني فقدتُ الوقوف
- بدون صلاة نهارك
فمن أين للإنسانِ أن يكونَ قدوةً لغيرِهِ إذا لم تكن أمّهُ قد غرسَتْ فيه كل قوّةٍ وجمالٍ وحُسن خُلُق، ومن أين له أن ينهلَ من بحر الحبّ العميق لولا والدته التي كانت فيضانًا يسري أمامه بعطائها وصبرها وتحمّلها وفدائها بنفسها في سبيله؟ إنّ احتواءها وعذوبة ما تقدّمهُ هو النموذجُ الأول الذي يُمكن أن يُحتذى.
علمتني أمي السير بخطى واثقة
كما هو الحالُ في كلّ درسٍ من دروس الحياة، وكما علّمتْني والدتي النظَر للأمور بعينٍ نافذةِ البصيرة، زرعَتْ في داخلي الثقة بالنفس إلى جانب العزيمة والإصرار، فكل هدفٍ عظيمٍ في الحياة لا بد أن يأخذ مني كل جهدٍ وتعب، ولكنه في النهاية لا بدّ أن يتحقّق إذا استعان الإنسان عليه بالدعاء والسعي، بالتوكل والصبر، فلا تُنال المعالي إلا بالهِمّة العالية، ولا تُعطي الهمة ثمرتها إلا للإنسان الذي يثق بقدراته ولا يخشى الفشل، إذ إن الفشل سببٌ من أسباب النجاح، وجسرٌ يتعرف به المرء على طرق الوصول إلى هدفه أكثر فأكثر.
إن لم تمنحني أمي الثقةَ كي أسير بين الناسِ شامخَ القامةِ رافعَ الرأس مُعتزًّا بما أنشأتْني عليه من دعمٍ ورعايةٍ وأخلاق فمن أين لي أن أكونَ مُكتمل الرغبة في تحقيق ذاتي؟ فهي الهادئة التي تبثُّ فيّ هدوء النفس واتّزانها، وهي المبادرة التي تُقدِمُ على العمل قبلَ أن يطلبه أحدٌ منها، وهي القارئة التي تتأمّلُ الكتبَ كلما سمحت لها الفرصة بذلك كي تزيد ثقافتها وتُكملَ مسيرتها في الحياة بالشكل الصحيح، وأنا أستلهمُ منها تلك المحاور التي تجعلني أقدر على مواجهة الحياةِ بكلّيّتها، بما فيها من غثٍّ وسمين، وصعبٍ ويسير، وحلوٍ ومُرّ.
كانت تدفعُني أمي للدراسة كما يرفعُ الشامخُ علَمًا إلى السماء، وتشجّعني على خوض العمل الذي أرغب به بكلّ أمل، وتعطيني من كلماتها الرّوحَ التي أحتاجها لأتمّ طريقي وأنالَ ما أريد، فإن خشيتُ الصعوبة أو تسلل إلي الملل ثارتْ على الضجَرِ وأوقدتْ من قلبها شعلة الضياء لأستدلّ بها على قُدراتي وطاقاتي، وأكمل المسير قدمًا في سبيل نيل الأمنيات.
من جميل ما قاله الشعراء عن الثقة بالنفس دفاعًا عن الأمِّ وافتخارًا بها ما قاله عنترة بن شدّاد حين عابَ عليه رجلٌ من العرب نسبَ أمّه، فلم يتوانَ عنترة عن الافتخار بنفسه وبأمه، وبهجاء ذلك الرجل ووصفه بالجُبنِ والهروب من ساحة المعركة، فلولا ذلك الهروب لقاتله عنترة وأخذ منه كلّ مأخذ، وبدلَ أن يُضعِفَه ذلك الاستهزاء أثارَ فيه قريحته الشعرية ليهجو ويردّ، فلا يصحُّ مع المُستهزئين إلا القتال في هذا الأمر من وجهة نظر هذا الشاعر الشجاع، وذلك في أبياته التي يقول فيها:[٢]
فَإِن تَكُ أُمّي غُرابيَّةً
- مِنَ أبناءِ حامٍ بِها عِبتَني
فَإِنّي لَطيفٌ بِبيضِ الظُبى
- وَسُمرِ العَوالي إِذا جِئتَني
وَلَولا فِرارُكَ يَومَ الوَغى
- لَقُدتُكَ في الحَربِ أَو قُدتَني
ألهمتني أمي فهم لغز الحياة
أتساءلُ فيما لو كان للحياة سرٌّ لا يعرفه أحد، كيف يمكنُ للإنسان أن يتعامل مع الزمنِ والأيام؟ وكيف يمكنُ له أن يدركَ معاني الموجودات من بشرٍ وكائنات وعلاقات تربط بينه وبين الآخرين؟ لولا الأمّ الرؤوم التي رعتْه في صغره ولقّنتْه الحروف الأولى لما استطاعَ أن يكوّن لغةً يتفهّمُ بها طرق التواصل الصحيح مع الغير، ولولا أن حضنتْه في سنينه الأولى لنشأ باحتياجٍ شديدٍ لمعنى العطف والاحتواء والطمأنينة، فما بالُ بعض الناس يُهملُ والدته عندما تصبح كبيرة في السنِّ، ويبخل عليها بحنانه فيضعها في مأوىً لا يرعاها إلا كما يرعى الموظفُ أوراقَ وظيفته!
تبقى الأمّ سرّ إلهامٍ للناسِ جميعهم، فأمّا من أوتيَ سحر الكلامِ من الشعر فقد عبّر عن ذلك، وهنا يظهر العديد من الشعراء الذين تغنّوا بأمهاتهم ووصفوا قدرتهنَّ العجيبة على تغيير النظرةِ إلى الحياة وإعطائها اللونَ اللازم لتستمرّ على النحو الأمثل، ومن هؤلاء الشعراء الشاعر الدمشقيّ الكبير نزار قباني الذي يشرحُ لوالدته مقدار التعب الذي أرهقتهُ به الحياة ومتاعبها، وعن مقدار الأمل الذي كان يحملهُ في حقائبه بأن يعود إليها يومًا من الأيام، إذ يقول في قصيدته "خمس رسائل إلى أمي":[٣]
- مضى عامان يا أمي
- على الولد الذي أبحر
- برحلته الخرافية
- وخبأ في حقائبه
- صباح بلاده الأخضر
- وأنجمها، وأنهرها، وكل شقيقها الأحمر
- وخبأ في ملابسه
- طرابينًا من النعناع والزعتر
يتمّ الشاعر في قصيدته معنى انفرادها في قلبه بمعنى الاهتمام والأمان، فلا يُمكن لأحد أن يُشبهها في عطفها، وإن طاف بلاد العالَم أجمع. هي وحدها من يُمكنُ أن يحتويه بالدفء والسَّكينةِ والأمان، وهي وحدها من يُمكن أن تمنحهُ العطاء المتجدد في كل مرةٍ يحتاجه فيها، فكأنها جعلتْهُ يدركُ سرّ الحياة التي ستجعله يدور في دائرةٍ مُفرَغةٍ لا طائل منها، وأنه مهما حاولَ إيجاد البدائل فلا سبيل إلى الخلاصِ من فكرةِ الحنان المطلقِ والاحتياجِ إلى هذا الحنان، وكأنه يقول أن الحياة مهما دارت فإنّ سرّها الأبديّ سينتهي بي عند أمي، إذ يقول:[٣]
- طفت الهند، طفت السند، طفت العالم الأصفر
- ولم أعثر
- على امرأةٍ
- تمشط شعري الأشقر
- وتحمل في حقيبتها
- إليَّ عرائس السكر
- وتكسوني إذا أعرى
- وتنشلني إذا أعثر
كل ما أقدّمه لأمي وما سأقدّمه لا يمكن أن يوفيها حقها عمّا قدّمته لي منذ أن أوجدني الله في هذه الحياة وحتى يومي هذا، بل تبقى كل محاولاتي في ذلك سبيلًا لسعادتها وحسب، أما الوفاء الكامل فلا يتسنّى لإنسان، وستبقى هي صاحبة الفضل العميم والرحمةِ الإنسانية الواسعة، وستبقى أيضًا القدوة الصالحة لكل ابنٍ من أبنائها، كل لحنٍ في الحياة ترسمه أمي بجمال موسيقاها وكلامها، وكل سرّ في الوجود لقّنتني إياه أمي مع المناغاة الأولى بعينيها ويديها، وكل دفءٍ في الكون لا يمكنُ أن يصل إلى قلبي إلا من خلال شمسها حين تشرقُ على حياتي فتُعطيني المنَحَ السماوية التي تجعلني عصفورًا يحلّق في أعالي السماء.
لقراءة المزيد، انظر هنا: كلمات عن الأم.
المراجع
- ↑ "الديوان » فلسطين » محمود درويش » إلى أمي"، الديوان ، اطّلع عليه بتاريخ 24/02/2021م.
- ↑ "الديوان » العصر الجاهلي » عنترة بن شداد » فإن تك أمي غرابية"، الديوان ، اطّلع عليه بتاريخ 24/02/2021م.
- ^ أ ب "الديوان » سوريا » نزار قباني » خمس رسائل إلى أمي"، الديوان ، اطّلع عليه بتاريخ 24/02/2021م.