المقدمة: رائحة الندى في حقلنا
عبر الأجيال توارثنا ملك ذلك الحقل، الذي يبث الجمال في كل مكان، ويبعث الراحة في نفوس كل من يمر به، فتتجه النظرات إليه بكل شغف، فلونه الذي يشرق باللون الأخضر اليانع، ورائحة الندى التي تنسج بتفاصيلها أجمل الروائح الزكية كالعطر الفرنسي الفاخر، تغرس في الروح جمالا لن يغيب أبدا عن الذاكرة، هذا كله يجعل من لوحة هذا الحقل عملا مميزا، ورائحة هذا الحقل تجعل منه مكانا مختلفا لا يشبهه أي مكان، فكأنه قطعة نادرة، وجدت لتكون في هذا المكان فقط، كيف لا وهذا المكان اشتراه جدي واهتم به أبي وها أنا أكمل ما بدآه.
العرض: حقلنا خير يتجدد
حقلنا ليس كأي حقل، هو حقل نسجته يد جدي المبسطة البيضاء، التي تقطر من بين أصابعها عرقًا بعد يوم طويل خيرًا، يد عرفت قيمة الحقل، فأحبته واهتمت به ورعته خير رعاية، حتى أصبح جنة خضراء كبيرة جدًا على مد البصر، حقل مهما زرع فيه نجده ينبت بكل ما أوتي من سخاء، وكأنه يكافئنا على حجم الحب والجدّ الذي منح لأجله، ففي كل يوم في هذا الحقل يتجدد ذلك المشهد الذي يبدأ على يد الفلاحين المنكبين على الحياة، فنجدهم يقبلون عليه بكل رضى، يحيطونه بيدهم بكل دفء، يربتون على ترابه بكل عطف وحنان، يستخدمون ما يحتاجونه من الأدوات الزرعية لتحضيره، ثم بفأس صغير يصنعون حفرا صغيرة في الأرض لتمتلئ بالحبوب، ثم يغطونها بالتراب من جديد، وبعد كل حفرة وحفرة يبدأ سطر جديد على هذه الأرض، لنقوم بالعمليّة نفسها.
وبالفأس ذاته يحيطون الشجر الذي زرع على سياج هذه الأرض وفي قطعة منفصلة منها؛ ليتمكنوا من سقايتها جيدا؛ لتكبر بسرعة، هذه الأشجار التي تحظى بعناية خاصة، فتقلم أغصانها اليانعة وتهذب، ويلفها السماد من كل ناحية، الذي يوضع بين وقت وآخر، لتحافظ على جمال رونقها، وتغدق علينا بفيض كرمها، فتعطينا بكل ما فيها من الثمار بمختلف أنواعها: تين وزيتون وعنب وتفاح وموز وغيرها، وفي وضح النهار نستظل بظلها البارد، الذي يجعل لباقي يومنا طعم ومذاق مختلف، هذه الأشجار التي تصافح الهواء بأغصانها العالية الطويلة؛ لتمتص ثاني أكسيد الكربون، وتبث بين أنفاسنا هواء منعشا نقيا صافيًا مليئًا بالأكسجين.
استطاعت هذه الأرض بكل طقوسها أن تجعل للحياة مذاقا طيبا مختلفا، كيف لا وهي قد تركت بصمة في حياة كل من مر بها ، فيبدأ ذلك اليوم بأغاني الفلاحين التي تعد تراثا ترك ليتوارثه جيل بعد جيل، هذه الأغاني التي تبث في أرواحهم الجد والنشاط، وتحفزهم على العمل طول اليوم بكل حيوية لا تشعرهم بالملل أبدا، وما للأرض هذا الحب كله إلا أن تنبت وتورق وتخضر، فترسم بين ثناياها لوحة جميلة عميقة استثنائية لفنان محترف، لوحة رسمت بأبهى الألوان وأجملها، مما جعلها لوحة متقنة، يجعل الناظر لها يسبح الله كثيرًا، ويحمده على هذه النعمة العظيمة، نعمة تدل على حسن خلقه، وعظيم آياته في الخلق القويم.
أما عن مشهد هذه الأرض صباحا، هذا المشهد الذي يعبق بندى الصباح، مشهد لا يغيب عن مخيلة من يراه أبدا، يأخذك برهة برائحة الطيبة، وأخرى بمشهد الأعشاب الخضراء التي تتزين به الأرض في ربيعها، هذه الأعشاب التي تحيط بالزهور الملونة التي تملأ المكان، فمنها: الأبيض والأحمر والزهري، لكل واحدة منها رائحة وشكل تميزها عن الأخرى، هذا المنظر الأخضر الربيعي الذي يجعل المكان مكانا يزوره الناس بشكل مستمر ليستمتعوا بما فيه من مشاهد تشفي النفوس والأرواح، وتبث فيها الحياة، والأمل بحياة أكثر رونقا وجمالا، بل أكثر راحة وطمأنينة، وكذلك مشهد المساء لهذا الحقل الجميل وما يتركه في الفؤاد من سكينة.
ما أجمل حبات القمح الذهبية وهي تبث الخير في كل كل مكان! ما إن ينثرها الفلاحون في الأرض بعد حرثها، إلا ونجدها بدأت بفضل الله تنبت وتخضر؛ لتصفرّ في صيف السنة، فتصير جاهزة ليحصدها الفلاحون بمناجلهم، ويذرونها بالمذراة، لتصبح جاهزة لنقلها للطواحين التي تنذر ببدء استخدامات القمح بكل مشتقاته: من طحين وعجين، فيعد منها أشهى الأطعمة لا سيما المخبوزات، كالبيتزا والمعجنات، كيف لهذه الحبات الصغيرة أن تقوم بكل هذا العمل، كيف لهذا الاصفرار أن يترك في النفوس فسحة طمأنينة، تجعل كل واحد منّا يقبل على الحياة بكل عقباتها.
الزراعة مصدر خير مهم يتجدد دائما؛ إذا أحسنا رعايتها والاهتمام بها، والحقل خير يجعلنا ننتظر موسم الحصاد لنجني غلال عام كامل عشنا تفاصيله يوما بعد يوم، ولحظة بعد لحظة، غلال عام انتظرناه بعد كل ما بذلناه من تعب وعناء، بعد كل حب نثرناه مع كل حبة قمح صفراء جميلة نقية، فنستطيع من خلاله قضاء متطلبات الحياة الأخرى: من ماء وكهرباء وملابس جديدة ومصاريف المدارس، وغيرها من متطلبات لا يمكن أبدا التجاوز عنها، وبها تكتمل متطلبات الحياة، فهذه الأرض كنز ثمين لا يدرك قيمتها إلا من ملكها فعرف قيمتها، فمنها ينبت الخير الذي من خلاله نحصد نتاجًا يضارع حجم التعب، وغلالًا يساوي الكثير.
الخاتمة: رقص السنابل في الحقل
أما عن السنابل الصفراء فإننا نجدها ترقص على صدى النسمات الرقيقة التي تتجول في الحقل الكبير، هذا المشهد الذي لا يتكرر دائمًا فيأخذنا بجماله الأخاذ، ترقص هذه السنابل على سمفونية الحقل النادرة، فتتمايل يمينًا ويسارًا، وكأنها تداعب هذه النسمات في ساعات الصباح الأولى، منذرة ببدء يوم جديد يعبق فرحا وسرورا، هذا المنظر الرائع الذي يصبح أجمل عندما يعانق خيوط الغروب فيتجانسان معًا؛ لينسجا جديلة صفراء رقيقة تحمل خيرًا وقمحًا، سنابل فيها عشرات الحبات من القمح، وفي غيرها قد تكون أكثر وأكثر، مما يجعلها أكثر ألقًا وجمالًا.