مهنة المحاماة
هل يوجد على هذه الأرض ما هو أشرفُ من الدّفاع عن المظلومين؟ هذا ما يفكّر به طالبُ الثانويّة عندما يرى درجاته النهائيّة، حين يُقدِم على وضعِ رغباته في قائمة الرغبات التي تختار إحداها رئاسةُ الجامعة، فينتقي الاختصاص المناسب للمتقدّمين وفق ترتيب رغباتهم بالإضافة إلى محصّلهم الدراسي، وحينَ يؤهّلَه المجموع النهائي لوضع قسم الحقوق ضمن رغباته لن يتردد في كتابته في خانةِ الرغبة الأولى، فلن يغيب عن ذهنه ما كابدَهُ الإنسانُ العربي في الآونة الأخيرة من تحمّلٍ للظلم والقهر والاستبداد، ولن تفارقه لحظةً صوَرُ الأبرياء على شاشةِ التلفاز في نشرة الأخبار، وهم يَبكونَ من شديدِ ما مرَّ عليهم من قتلٍ للأحبّة والأقرباء، وتشريدٍ في الطعامِ والسكن، وتحمّلٍ لأصعب ظروف الفقر والبرد والجوع. [١]
لماذا اخترت مهنة المحاماة؟
بعد دراسة الحقوق، وفي مهنة المحاماة على وجه الخصوص سأتمكّن من الدّفاع عن أيّ شخصٍ يلجأ إليّ لتخليصه من الظلم والجَور، وسأبذل كل جهدي لتخفيف آلام المعذبين من أصحاب التسلّط والهيمنة بغير وجه حقّ، فمن مميزات مهنة المحاماة أنها الوجهُ القويّ لإعطاء الحقّ لمن يستحقّ، ذلك مبدأ الكبار من القضاة والمحامين، وبهذا المبدأ تصبح المحاماةُ مهنة ذاتِ قداسةٍ لا يُستهانُ بها، لأنها تعيد لكلٍّ من الظالم والمظلوم مكانته وحقوقه، وتمنع الفساد من أن ينهشَ البلادَ والعباد، فيأكل الضعيف ويغذّي القويّ دون أي ضابطٍ يمنع طمَع القوي وجشعه وأكله لحقوق غيره.
مهنة المحاماة تقتضي دراسة الشريعة التي تحكم بها البلاد، لأن القوانين التي تقوم عليها حكومة الدولة لا بدّ أن تكون تابعةً لخصائص دينٍ ما، وإن لم تكن كذلك لا بدَّ أن تكون تابعةً لقوانين السلامِ العالمي، إذ إنّ الانسلاخ عن التبَعيّةِ لدين من الأديان يقتضي أن تكون الأحكام موافقةً للطبيعة البشرية ومنصفةً لها، ولكن قد يتفاوتُ ذلك من دولةٍ لأخرى حسب البيئة وأمانة السلطة في تحديد القوانين.
من الإنصافِ والحريّةِ بمكان أن تكون الدولة تابعةً للحكم الإسلاميّ الذي يعطي كلَّ ذي حقٍّ حقّه ويمنعه من ظلم الآخر، ويشدّد في عقوبة القاتل المتعمّد، ويمنع الثأر القبَليّ وقتل الإناثِ الذي كان سائدًا في المجتمعات العربية، ويحدّ من انتشار الفساد بضمان حقوق المرأةِ، ويحثّ على حفظ زوجها لها وضبطِ عملها ضمن قالبٍ يضمنُ سلامتها وكرامتها، كما يحثُّ على الزواج ولا يشترطُ له شروطًا قاسية، بل أقلَّ ما يستطيعه الإنسان لتوفير حياةٍ في نطاقها المُعتاد، ويجعلُ من فراق الزوجين أمرًا مسموحًا إن لم يكن ثمةً توافقٌ بينهما، ويضمن لكلّ منهما حقوقه بالإضافة إلى المحافظة على أطفالهما، فيمنعُ بذلك نظام الهجر بغير وجه حقّ، ويحدّ من الفساد الذي تجلبه العلاقات غير الشرعية.
لقد وجدتُ في هذا الدين كلّ ما يحتاجه المرء ليكون إنسانًا سائرًا حسب ما تقتضيه فطرتُه السليمة وفكرهُ السليم وعيشه الكريم النافع لنفسه ولغيره، كما يجعل من الجماعات شعوبًا تدرك مفهوم الجماعة بصورته الأكمل، وتعين على التآزر والنهضة فيما بينهما، فتقومُ بأمر بعضها البعض وتحفظُ حقوقَ الجميع، وتعطي الحرّية للجميع بما يتناسب مع القانون العامّ الذي لا تؤثر فيه حريّة فردٍ على الآخر.
كانَ أهم ما وجدته في نفسي من صفات المحامي الرغبة القوية في الانتصار للحقّ، وإماتةِ الظلم ودفنه بشتى وسائل الاندثار، فليس هناك أقبحُ من الظلم حين يُشرّد الناس ويأكل حقوقهم، ويقتل كبيرهم وصغيرهم، ويقهر ضعيفهم بسلب أهمّ الاحتياجات في الحياة منه، لتحقق هذه السرقات والتدمير والقتل والتشريد والمنع من أبسط حقوق الحياة مخططاتِ الدولِ القوية الجشِعة، وجيوب كبار التجار الذين يتاجرون بدماء الشعوب، وخزائن النفوس التي لا تشبع ولا تعلم أن لها يومًا من العذاب الشديد ينتظرها في ظلمة القبر.
دراسة المحاماة تجعلني أستعيد رغبتي في الحياة بعد كلّ ما رأيته عبر شاشة التلفاز، وبعد كلّ ما ذرفتُه من دمع حُزنًا على أولئكَ الذين ينامونَ في الخيام في أشدّ أيام السنة بردًا، تحت الثلج، وأولئكَ الذين هبطَتْ عليهم الصواريخُ أثناء نومهم وهم بين أطفالهم، وأولئك الذي فُقِد لهم أبٌ فلم يعُد ولم يعلموا عنه شيئًا منذ سنوات، فضلًا عن أولئك الذين ذُبِحَ أمامهم أقرباؤهم ولم يستطيعوا أن يتفوّهوا بكلمة، لأنّهم يعلمون أنّ رقبتهم ستكون تحت السّكّين بعد دقائق.
كيف تستطيع البشريةُ أن تنسبَ إليها أمثالَ هؤلاء فتصفهم بأنهم بشر؟ وإن وصفَتْهم بانتسابهم إلى عالم الحيوان لكانَ ظُلمًا كبيرًا لكلّ فصائل الحيوان، فالواحد من الحيوانات لا يصطاد إلا حين يكون جائعًا، ولا يقتلُ رغبةً بالقتل وإنما حاجةً للطعام، ولا خيار لديه لأنه بحاجة إلى البقاء، أما البشر الذين يفعلون ما تمليه عليهم شياطينهم فلا سببَ يجعلهم يقدمون على ذلك الفعل الوغد سوى رغبتهم في المزيد من الاستعمار والهيمنة التي تأني بالمال والأملاك، أفلا يستحقّ أولئكَ الذين رأوا من القهر جميعَ أصنافهِ عمرًا كاملًا من الدراسة والكفاح في سبيل نصرتهم والأخذ بأيديهم إلى القليل من الأمان؟
أخلاقيات مهنة المحاماة
تتّسم المحاماة بالخطورة والدقّة الكبيرة، فإن كانت مهنةً مقدّسةً تكتسبُ قداستها من نصرةِ المظلوم، فإنها لا بدّ أن تكون ضن إطارها الحقيقيّ، وإلا قُلبتْ إلى سيفٍ يأخذ المظلوم كما تفعله الأطماع الجشعة، وتزيدُ الشعوبَ بؤسًا وقهرًا، لأنها تُساعد الظالمَ على جورهِ وتبتلعُ ما يمكنُ أن يظهر لها من الحق، فتزيدُ لوعةَ الناس وحُرقتهم وتكويهم بالمزيد من النار، فحين يستعملُ المحامي مهارته في الدفاع وذكاءَهُ في النقاش لقلب الحقيقة إلى غير ما كانت عليه فإنّ المحاماة تصبحُ أقبحَ ما يمكن أن يُدرّسَ، وأسوأ ما يُمكن أن تُمنَحَ شهادتُه للإنسان.
الإنسان العظيم فقط هو الذي يجب أن يدرس ويصل إلى هذه المهنة، إذ يمكن القول بأنّ المحاماة مهنة العظماء، فإن كان الذي يتصدّرُ لها يتصف بالطمع وحب المال ولا يتخلّق بأخلاقٍ تؤهّله لنُصرةِ الحقّ مهما كان الثمن فلا ينبغي أن يدخل في هذا المسار، لأنّ المال يُغري أصحاب النفوس الضعيفة، ويساعدهم على تطويرِ علاقاتهم الاجتماعية والتمكّن من المناصب الرفيعة في الدولة، ممّا يؤدّي إلى انتشار تضاعفِ الظلم على الإنسان المظلوم المُلتجئ إلى مَن ينقذهُ.
أهمية مهنة المحاماة
قبلَ أن يتذكَّر الإنسانُ المتمكّن أقوالَ العظماء في مدح هذه المهنة الشريفة لن يتوانى عن إقحامِ نفسه في سلكِ الحقوق ليكون محاميًا شريفًا، ولكن حين يتذكَّر بعضًا مما قالَه الحكماء عن هذا الأمر سيشعر بواجبه بالانتسابِ إليها، والغوصِ في أعماقِ علومها، والرغبة في اكتساب مهارةِ الدفاع عن الحق المُغتصب بالحجج المنطقية والبرهان الساطع، فمما قالوا عن المحاماة في الكتب التي يطالعها الطالبُ خلال أيام دراسته قول للمحامي الفرنسي "روس" يصفُ فيه المحامي الحقيقي الذي يسعى لنشر العدالة بين الناس: "المحامي الآن هو أقلُّ الناسِ كلامًا، والمحامون هم وحدَهم الذين يُحسنونَ السكوت، لأنَّ إحسانَ السكوت ليس إلا نتيجة حتمية لإحسانِ الكلام".
إن فكّر الإنسان كثيرًا في سلبياتِ وإيجابيّات مهنة المحاماة، سيجدُ أنّ إيجابيّاتها عظيمة المغزى والنفع، حيثُ تقومُ على أساسِ إقامة العدالة، وتحملُ همَّ تطبيقِ القانون، وتمنع الشرّ من التّطاولِ والانتشار، وتنصرُ الفقيرَ والغنيّ على حدّ سواء، إذ تؤمّنُ لكل منهما إحقاق الحقّ في قضيّته، أمّا سلبيّاتها فتتمثّل بالتعب المستمرّ لصاحب هذه المهنة، فلا يكادُ يخلو وقتُه من الانشغال، وقد تنهالُ عليه مضايقاتُ الناسِ التي ترغبُ في هضم حقوقِ غيرها، وتُسلَبُ منه راحته في كثير من الأحيان، إذ يقصده العملاء في أوقاتٍ كثيرةٍ بأمورٍ اضطراريّة تستوجب حلّ إشكالاتها.
عن ذلك المعنى عبّر الفرنسيّ "جارسونيه" بوصفه لحياة المحامي إذ قال: "إنَّ المحامي يترافعُ في يومٍ واحد أمام محاكمٍ متعددة في دعاوى مختلفة، ومنزله ليس مكانًا لراحته ولا بعاصم له من مضايقات عُملائه، إذ يقصده كل من يريد أن يتخفّف من أعباء مشاكله وهمومه فعمله معالجة مختلف المشاكل وتخفيف هموم الآخرين"، ثمّ يقدّم هذا الفيلسوف نظرةً شاملة لمهمة المحامي في هذه الأرض، وهي أعظم ما يُمكن أن يُعبّر عنه الإنسان في وصف هذه المهنة إن قامت بمضمونها الأساسي الشريف: "أستطيع القول إنّه من بين مواطنيه يمثل الرجال الأوّلين الذين قاموا بتبليغ الرسالة الإلهيّة".
يريدُ جارسونيه أن يشبّه مهنة المحاماة بمهمة الأنبياء، لأن كلّ ما تدعو إليه الرسل السماوية في مضمونه الشامل هو التوحيد، بالإضافة إلى إقامة الحقّ بين الناس، فلا يظلم أحد أحدًا، بل تتضمّن التعليم الشرعية لكل الديانات السماوية الإحسان للآخرين والحفاظَ على حياتهم ومقوّماتها.
إنّ المحاماة ودراسة الحقوق لا تأتي إلا بالخير والنفع الكبير للفرد والمجتمع، حين تتوجه إلى القصد الشريف منها، وحين تكونُ مرآةً مصقولةً للخير الذي ينوي صاحب هذه المهنة أن يتبنى نشره وإقامته بين جميع أفراد المجتمع ليتساوى به الناس، ويعمّ النفع والسلام في جميع أصقاعِ الأرض.[٢]
المراجع
- ↑ "قيل في المحاماة والمحامين"، الحوار المتمدن، 20/12/2020. بتصرّف.
- ↑ "كلام عن مهنة المحاماة"، البوابة ، 20/12/2020. بتصرّف.