محتويات
أيامي تغيرت كليًّا
لا أنسى ذلك اليوم الذي اعتدى فيه عليّ بالضرب أحد طلاب المرحلة الإعدادية، كنتُ حينها في المرحلة الابتدائية، صغيرًا ضعيفًا لا أقوى على الدفاع عن نفسي أمام الكبار، كما كنت أخشى الشكوى خشية الملامة أو يضحك طلاب الصف علي، تغيرت حياتي بعد ذلك وأصبحتُ خائفًا مترددًا أخشى السير وحدي في الطرقات، ولا أعود إلى المنزل إلّا بصحبة مجموعة كبيرة من الطلاب.
اسودت الدنيا في عيوني، خاصةً أنّني كنت يومها وحيدًا خائفًا لا أعلم ماذا أفعل وكيف أتصرف، كما أصبحتُ أُعاني وقتها من التعثر الدراسي، وتراجعتُ كثيرًا، حتى إنّ شكاوى المدرسين لوالدي كانت تزداد كل يوم.
لم يعد لدي ثقةٌ في أحد وأصبح لي القليل من الأصدقاء؛ إذ أصبحتُ انطوائيًا لا أطيقُ الحديث إلى زملائي في الصف، خاصةً أنّني بدأت أتعرض للمضايقات منهم، وكثرة معايرتهم لي ولومي على كل ما حصل، وأصبحوا يُلقبونني بالخائف الجبان، فقد كنت أهم بالهروب كلما رأيتُ طلابًا أكبر مني يمشون نحوي، فيُخيلُ لي أنّهم قادمون لضربي.
وفي المنزل ازدادت شكاوى أمي لأبي من عدم قيامي بالواجبات المدرسية، وبسبب عدم مغادرتي لغرفتي إلا للضرورة القصوى، حتى إنّ أولاد الجيران نسوا أمري وملوا من كثرة طرق ورفضي اللعب معهم، لم تتردد أمي في استشارة أخصائي أسري، ولكني أرفض أيّة مساعدة.
طيف ذلك اليوم يلاحقني
كم يُلاحقني طيفُ ذلك اليوم الذي تغيرت بعده حياتي، أصبحتُ لا أنسى الحادثة وأتخيلها في كل وقتٍ وحين، وكثيرًا ما استيقظتُ فزعًا من نومي وأنا أصرخ وأنادي أمي كي تنقذني من بين يدي ذلك الوحش، ولكني في كل مرةٍ كنت أستيقظُ من نومي وأعلمُ أنه كابوسٌ ليس إلا، ولكنه يُؤثر علي لدرجة أنّني أجد صعوبةً في معاودة النوم مرةً أخرى.
طلب مني معلمُ الرسم ذات مرة أن أرسم لوحة جميلة، حاولت حينها تخيل أيّ شيء جميل لرسمه ولكنني لم أستطع، فأمسكت القلم والألوان وبدأت أرسمُ خطوطًا وألونها، وما إن انتهيت حتى جاء المعلم ليُشاهد لوحتي فلم تكن إلا رسمةً لولد كبير يضربُ ولدًا صغيرًا.
آهٍ يا ربي كم أُعاني من تلك الذكرى الأليمة، طيفُ ذلك اليوم يُلازمني أينما حللتُ ووطئت، حتى إنّني أرفض خروج إخوتي الصغار من المنزل مهما كان السبب، بذريعة أن هناك أناسًا أشرار في الشارع وأخاف على إخوتي منهم، حتى إنّني أرفضُ الذهاب معهم مع أنّني كبرت الآن وأصبحت أكثر عزمًا وقوة من ذي قبل، ولكن الذكرى أليمة والجرحُ عميق ولا أقوى على الاستمرار.
أتمنى لو يزول عني هذا الألم، وأنسى تلك الذكرى التي ما برحت تفارقني حتى أثناء نومي وجلوسي ودراستي، ربّاه ما هذا العذاب وإنّني لأدعوك في صلاتي بأن تزيل من قلبي هذا العذاب وأن أنسى ذلك اليوم.
كان موقفًا ترك بصمة لا تمحى
ترك ذلك اليوم في أعماق أعماقي بصمةً لا يُمكنُ محوها مهما مرت الأيام، وإنّني لا أنسى حينها كيف قام ذلك الولد بتهديدي بالضرب حال خروجي من المدرسة لسبب ليس لي يدٌ فيه؛ فقد كنت ذلك الولد المهذب والمجتهد الذي لا يُثير المشاكل مهما حصل.
كان يتم تكريمي عبر الإذاعة المدرسية بسبب تفوقي الدراسي، ولكن ما حصل حينها أنّني كنت أمازح أحد زملائي في الصف، وبينما كنا نضحك قام بدفعي بقوة حتى اصطدمتُ بشيءٍ كبير، فرفعت رأسي لأنظر، وإذا به ذلك الولد الشرير يرمقني بنظراتٍ غاضبة، ويتوعد ويزمجر، فأمسكني حينها من قميصي ورفعني وهو يحدقُ بي، ممّا جعلني أصرخ من شدة الفزع.
ترافق هذا الموقف مع خروج أحد المعلمين وإنقاذي كما قام المعلم بتوبيخ الطالب وزجره، ممّا زاد من حنقه وغضبه علي، فهمّ بمغادرة المكان، ولكن وعدني بانتظاري في الخارج بعد انتهاء الدوام، قرع جرس انتهاء الدوام وخرجت من المدرسة مسرعًا علّني لا أراه.
لكنني شعرت بالرعب الشديد حالما قابلته عند البوابة، فركضتُ مسرعًا وذهبت في طريقٍ مختصرة كي أتمكن من الوصول سريعًا للبيت، ولكن خطواته كانت سريعة للغاية، وما هي إلا بضع دقائق حتى أمسكني في مكانٍ يخلو من المارة، وقام بضربي على وجهي فسقطُّ أرضًا حتى بدأ يركلني بلا رحمة مرة على بطني وأخرى على ظهري، وكانت الأخيرة على وجهي حتى أسالت دمًا من أنفي وفمي.
الحياة دروس وعبر
أخيرًا، بتُّ أعلم أنّ حياة المرءِ مليئةٌ بالعبر، وأنّ الإنسان لا يتعلم إلا إذا واجه المصاعب والآلام والمواقف الصعبة، التي قد تكون السبب في تغييره إلى الأزل، أعلمُ أنّني أسأت التصرف عندما غيرت طريقي، وأنّه كان يتوجب علي أن أمشي مع مجموعة كبيرة من الطلاب، كي لا ينفرد بي ذلك الوحشُ الكاسر، فهو إنسان سلبي وعدواني ولا يهمه سوى ذاته المغرورة.
كما كان يفترضُ بي العودة إلى المدرسة وتقديم شكوى، ولكن قدر الله وإن حصل ما حصل، تعلمتُ درسًا عظيمًا من بعد حادثٍ أثرّ في أيّما تأثير وغير حياتي لدرجةٍ كبيرة، خاصةً أنّني مررت بتجربة قاسية لا يحتملها طفلٌ صغير، ما أكثر ما يمر بنا من أحداث لا نقوى على نسيانها، ولكنها تتركُ أثرًا عميقًا في ذواتنا وترهقنا إلى أقصى حد، كما تترك في دواخلنا ندوبًا لا يُمكن محوها مهما مر بنا من أحداث مفرحة.
إنّ الفرحة تكون مُغيبة والابتسامة تخشى الخروج والدمعة عبثًا أحاول حبسها، بالرغم من أنّ ذلك الطالب نال عقابه ولم ينجُ بفعلته، فقد تم تقديم شكوى رسمية بحقه، وحضر أبواه لمنزلنا آسفين عى فعلة ابنهم الشنيعة، وقد قدموا لنا اعتذارًا عما حصل، ولا أنكر أنّني تعلمت الكثير من الدروس والعبر التي أصبحت جزءًا من شخصيتي ومبادئي، بالرغم ممّا واجهته من مصاعب جراء تلك الحادثة الأليمة.