محتويات
البساطة عنوان ما فيها
تبدو بيوت القرية كأنّها قطعٌ من التاريخ البعيد المسكون بالأسرار، بشكلها الخارجي وبنائها الريفيّ الجميل الذي يدلّ على الأصالة الرائعة للريف، وبساطة الغرف والأثاث الذي يُوجد فيه هذه البيوت يُشبه الأشجار العتيقة، وطريقة الحياة التي يمضي بها سكانها، يا لها من بيوتٍ مسكونة بالحب والجمال!
البيوت في القرية على الرغم من بساطتها أنيقة ومرتبة تفوح منها رائحة العزة والكرامة، وفيها يُقطر عرق جبين الفلاحين الذين يستيقظون قبل الشمس، ويبدأوا يومهم بالحب والفرح والحياة الهادئة المليئة بالتعب الجميل في الأراضي الزراعية؛ ليُطعموا الناس ما تجود به الأرض بفضل الله تعالى، إنّهم مهندسو الحبّ والحياة.
تتميز بيوت القرية بأنّها تأخذ العقول والألباب على الرغم من أنّها مبنية بأبسط المواد لكنها بيوتٌ عامرة بالدفء والأمان والاستقرار، يشعر من ينظر إليها من بعيد كما لو أنّه يرى تشكيلةً مدهشةً من الأصالة والعراقة والبساطة والفخامة في الوقت نفسه، إنّها مثل لوحة رسمتها ريشة فنان مبدع.
المكوث في بيوت القرية يصنع إلهامًا يجعل الشخص يُسافر في أحلامه فوق الغيم، ويأخذ من فرح الأرض وخضرة الأشجار ما يُزين به أيامه العابقة بالجمال والعطر المتجدد، إنّها بيوتٌ تبعث الحياة في الروح، عابقة بروح الآباء والأجداد الذين بنوها وأودعوا فيها تعبهم وحكاياتهم وقصصهم الكثيرة التي لا يُملّ منها.
الحب والتكاتف مغروسان في أروقتها
في بيوت القرية حبٌ وتكاتفٌ مغروسان في أروقتها، وهذا الحب الكبير نابعٌ من طبيعة المكان الذي بُنيت فيه هذه البيوت، فهي مبنية بالحب، ومعمرة بالأمل والتفاؤل، وفيها من الخير الكثير، فهي تشبه قوارير العطر الزكية التي تنثر عبيرها على كلّ الزائرين فتنتشي أرواحهم، وكأنها تحملهم فوق بساط الريح.
في بيوت القرية شيءٌ من الصفاء الروحي لا يُوجد في غيرها، وتجعل كلّ شخصٍ يسكن فيها يحنّ إلى الماضي الجميل العابق بقصص البطولة والشجاعة والكرم والجود، فبيوت القرية لا تعترف بالعطور المصنعة، ولا ترضى أن تمدّ يدها لتلمس الورود البلاستيكية أو الأشجار الورقية، إنّها عاشقة الطبيعة الأبدية.
بيوت القرية تُبهرنا بعطرها الطبيعي المكون من الورود البرية الرائعة وأشجار السنديان والصنوبر، ورائحة خبز الطابون في الصباح، ورائحة الأرض عندما يختلط التراب بقطرات المطر، ورائحة الربيع الجميل الذي يلقي بظلاله على مظهر البيوت القروية من الداخل والخارج، وعلى أسوارها وسياجها وحجارتها، وكأنها حورية تُراقب الجنة.
في بيوت القرية تتدلّى الأزهار والنباتات المتسلقة إلينا بحب، لتنظر إلى طريق العابرين وتحرسها بالحب واللون الأخضر اليانع الذي لا يُشبه شيئًا إلا الخير والفرح الكبير، إنها بيوتٌ تعرف كلّ حجارتها حجرًا حجرًا، ومنقوشٌ عليها أسماء من حملوها وعمروها وسكنوها، فهي بيوتٌ لا تخون ذاكرتها أبدًا، بل تحرسها بالتفاؤل، وتُحكم عليها أقفال الحب.
بيوت تعاضد بعضها بعضًا
بيوت القرية بكلّ ما فيها من سحرٍ وجمال لا تكتفي بأن تملأنا بهذا فقط، فهي تُعطينا درسًا لا يفهمه إلا من عشق هذه البيوت، وسكن فيها وأقام بين جوانحها، فهي بيوت تعاضد بعضها بعضًا، ولا يكاد أحدٌ في بيت من بيوت القرية يشتكي من شيء حتى هبّ سكان كل البيوت القريبة والبعيدة فيها ليُخففوا الحمل عمّن يُعاني، إنّها بيوت مُلهمة تعلمنا الفرح.
ساكنو بيوت القرية اعتادوا أن يستيقظوا على أصوات العصافير في الربيع وعلى وقع حبات المطر في الشتاء، وصوت البلابل وحفيف الشجر، قلبهم واحد، فهم لا يعترفون بالفرقة والاختلاف، وإنّما يُؤمنون بأنّ أيام القرية كلها أعياد، وأنّ عرس بيت واحد في القرية يطغى فيه الفرح على جميع البيوت، كأنها عرّابة للفرح الدائم.
إنّها بيوتٌ تُعلمنا دروس العادات والتقاليد القروية السخية بكلّ معاني الأمان والأخلاق الفاضلة، تُشبه قارورة العطر الأنيقة، كما تُعلّمنا بيوت القرية التواصل الإنساني الذي لا يُفرقه أيّ شيء، فأهل القرية يشتركون في الهم ويجمعهم طين البيوت الأصيلة التي بُنيت بسواعد الجميع، فأصبحت جزءًا مهمًا من كل ساكنٍ في القرية، فالبيوت في القرية هي ذاكرة المكان والإنسان.
بالإضافة إلى البوح الجميل الذي يظلّ مختزنًا في ذاكرة الأحفاد ليتعلقوا بهذه البيوت ورائحتها وحجارتها العريقة، ومن يملك بيتًا قرويًا في رحاب أيّة قرية بعيدة أو قريبة، يستشعر ارتباطه بالأرض والإنسان والشجر والحقول، ويُصادق كلّ الفراشات الجميلة بألوانها الزاهية، ويلهو معها بكل فرح، ويستعيد طفولته وهو يُراقب بيوت قريته المتراصة إلى جانب بعضها بعضًا، ليس فقط في المكان، وإنّما تتراص القلوب والأرواح معًا.
بيوت سخية على أهلها
في الختام، بيوت القرية بيوت سخية على أهلها، تمدّهم بالكثير من العطاء، وعلى الرغم من صغر بيوتها إلا أنّها كبيرة بكلّ ما فيها من أحلام استودعها أهلها في حجارتها وجدرانها، إنّها مخزن الأماني الجميلة، ومراتع الطفولة، وغمامة الخير التي تمطر الفرح في كلّ لحظة، إنّها تُشبه أغاني الجدّات المليئة بالكلمات النقية والصوت المبحوح.
في بيوت القرية مكانٌ مخصص للمونة التي تُعدّها الأيادي الشريفة، التي تأكل من عرق جبينها وهي تزرع الأرض وتحرثها وتقطف ثمارها بكلّ حب، فلا يخشى ساكنو هذه البيوت بردًا ولا قحطًا، فهم سخيّون في تحضير طعامهم، إذ يجعلون في كلّ وعاءٍ من الأوعية الماكثة في البيت قصة حب وتعب جميل لا تنتهي أبدًا، ما أجمل بيوت القرية!
في بيوت القرية يُصبح لمراقبة النجوم في الليالي الوادعة معنى أجمل وأعمق، ويغدو القمر كبيرًا والسماء أكثر زرقة، وحتى نسمات الهواء العليلة تُصبح وادعة أكثر، فأجواء بيوت القرية تضفي على كلّ من يسكنها شعورًا متجدّدًا بالحياة والسعادة والأمل بالله، إنّها بيوتٌ تعشق الورد والحكايات الجميلة والأهازيج التي ترددها الأمهات والجدات.
في كلّ زاوية من زوايا بيوت القرية ثمة تاريخٌ حافلٌ مطرز بالجمال الأخاذ الذي لا ينضب أبدًا؛ لأنّه يمتدّ جماله من روعة الحياة الساكنة فيها، ومن جمال الحقول التي تُحيط بها، ومن الحكايا الكثيرة التي تحفظها حجارة هذه البيوت فهي التي تربّى فيها الرجال الأوفياء.