محتويات
المقدمة: قلب بنقاء الماء
انتقلتُ أنا وأسرتي للعيش في حيٍ جديد وكان يقطن في حينا رجلٌ في الخمسين من عمره اسمه (ريمون) تعلو محياهُ مسحة من البراءة كتلك التي يمتلكها الأطفال، وكان ريمون يمتلكُ قلبًا بنقاء الماء، وكنت كلما مررتُ من باب بيته رأيته يبتسم لي بكل ود، ولأن أمي أوصتني بعدم الحديث إلى الغرباء كنت أتجاهل نظراته وابتسامته وأمشي مسرعًا في قضاء حاجتي ومن ثم أعود، وفي طريق العودة للبيت أمرّ بباب بيته؛ حيثُ كان يقضي أغلب أوقاته، ولأنني لا أَمَلُّ النظر إلى وجهه كنت أنظر إليه خِلسةً، حتى لا يراني ويبتسم لي من جديد.
العرض: صاحب الخطى الواثقة
لم أكن أعرف عن ريمون أي شيء إلا أنّه يسكن في ذلك البيت الكبير وحده، وكثيرًا ما كنتُ أغرق في تفكيرٍ عميق حول من يطعمه أو يغسل له ملابسه وينظف له بيته، خاصة أنني رأيته ذات مرة عندما نهض عن عرشه الخشبي المتمركز عند باب بيته قاصدًا حديقة المنزل التي يتخلّلها ممرّ طويل يوصل حتى باب المنزل من الداخل، وكان الوقت غروبًا آنذاك، وهالني ما رأيت ندبة كبيرة تعلو ظهره من جهة اليمين، وكان ذلكَ الرجل يمشي بصعوبة بالرغم من خطواته الواثقة، لذا قرّرت أن أسمّيه صاحب الخطوة الواثقة.
خرجت مع أبي ذات مرة ورأيت عددًا كبيرًا من الرجال يتحلقون عند بيته وتحديدًا عند الموضع الذي يكون جالسًا فيه، شعرت بالقلق خاصةً أنهم كانوا يأمرون بعضهم، ويقول أحدهم ارفع معي ساعدني هات يدك، أمسك كتفي، شددتُ قميص أبي ورجوتُه أن نذهب لنرى ماذا يحدث، لم يتردّد أبي أبدًا وذهبنا للمكان مُسرِعين، وعندما وصلنا غمرنا الحزن من كل جانب، فريمون ممددٌ على الأرض دون حراك ويئن كلما لمسه أحد، طلب الرجال الإسعاف لأنهم لم يتمكنوا من حمله وعندما وصلت سيارة الإسعاف أخذته السيارة وانطلقت مسرعة، ورافقه بعض الرجال، أمّا أنا وأبي فانطلقنا في بعض شؤوننا وكنا مشغولين.
في اليوم التالي أخبرت أبي أنه يتوجب علينا أن نزور صاحب الخطوة الواثقة، فإنه من واجبنا أن نطمئن عليه خاصة أنه لم يحصل يومًا أن رأيت أحدًا يزوره، وافق أبي وذهبنا صوب منزله بعد أن أخذنا معنا بعض الطعام والعصير، وعندما وصلنا طرقنا الباب وسمعنا صوتًا ضعيفًا يأتي من الداخل ويقول تفضّل، وحالما هممنا بالدخول شاهدت منزلًا كبيرًا من الداخل ويغطي الغبار كل ركنٍ فيه، ولكن يخيل للرّائي أن هذا المكان كان يحوي يومًا أثمن أنواع الأثاث، ولكنني لم أفكر طويلًا فكيف لرجل مريض يمشي منحني الظهر أن ينظف كلّ هذا، وفي غمرة تفكيري مدّ لي ريمون صاحب الخطوة الواثقة يده مُصافحًا وقد ارتجفت يدي، خاصّة أنّني رأيتُ كلّ حب وعطف الدنيا في قسماته.
قال لي ريمون وهو يرمقني بسرور: وأخيرًا زُرتَني يا عبد الله! شعرت بالصدمة من كلامه، فأكمل كلامه وهو ينظر إلى أبي ويقول أشكرك يا سيدي على تلك الأخلاق الحميدة التي ربّيت عليها ابنك عبد الله، قال له أبي: عفوًا يا سيدي، ولكنّني لم أكن أعلم أنّكما تعرفان بعضكما من قبل، كما أنّ ابني لم يُخبرني عنك شيئًا، قال ريمون لأبي: لا تقلق فهذه المرة الأولى التي أخاطب بها ابنك عبد الله، وتابَعَ قوله إنّ جميع أولاد الحي يضحكون عليه ويستهزئون به إلّا ابنك المهذب عبد الله حتى إنّني لا أراه في الشارع كثيرًا، قدّمنا لريمون ما أحضرناه وجلس يحكي لنا قصته، ومن ثم هممنا عائدين للبيت وكلّي ألمٌ ممّا سمعت، فقد كانت قصته مؤلمة حد البكاء.
جلستُ مع أمي في المساء وبدأت أصف لها ذاك الصديق الجديد الذي اكتشفت صدفة أنه يكنّ لي من المشاعر ما أكن له، وأخبرتُ أمي عن مشيته الواثقة وهدوئه الغريب وابتسامته الساحرة بالرغم من ظهور كل علامات الأسى والتقدم في السن، كما وصفت لها وقاره وروعة حديثه وجمال عباراته، فعجبت لكلّ ذاك الوصف، فكيف لرجلٍ طاعن في السن غير متعلم يستطيع امتلاك كل تلك الصفات الفريدة، أخبرني أبي في حماسةٍ شديدة أنّ ذاك الرجل الذي تقول عنه غير متعلم هو أستاذ سابق في الجامعة، وقال لي والصدمة تملأ أركاني إنّه لا ينبغي على الإنسان الحكم على الناس من أشكالهم أو حديثهم.
ذهبتُ للنوم وفي قرارة نفسي أن استأذن أبي وأذهب لزيارته في اليوم الثاني، وما إن وصلتُ هناك حتى وجدته جالسًا على عرشه المتواضع وحوله صبية صغار، ظننتُ للوهلة الأولى أنّهم جاؤوا لزيارته، ولكن بعد لحظات تبيّن لي عكس ذلك، غضب الرجل وبدأ يتوعد حتى تلفظ ببعض الشتائم، غضبت لذلك ورحت أركض وراء أولئك المشاغبين حتى هربوا ورجعت إليه وكادت الدموع تنفر من عينيه، شكرني على ذلك وهمَّ بالدّخول.
تبعته حتى بدأ يكمل لي سرد قصته وقال لي إنّه أستاذ جامعي تركتْه زوجته لمرضٍ ألمَّ بِه ولم تَصبر على آلامه وأوجاعه، وأخذتْ كلّ أمواله ورحلت وما تبقى له إلا هذا البيت الذي أراه، أمّا الجامعة فقد استغنت عن خدماته بسبب الضعف الذي أصابه في ذاكرته، وأردف يقول ها أنا ذا أنتظر الموت، أولاد الحي يفرحون كل يومٍ بإزعاجي ويثيرون جنوني ويرحلون ضاحكين بلا أيّ إحساس.
سألته عن إخوته وأخواته فأجاب باكيًا يأتون كل شهر مرة ليدفعوا حساب البقالة ويرحلون، أسفتُ لحاله ومدحتُ صبره وشكرتُه على الثقة التي منحني إياها، يا لذلك الرجل الحكيم الذي تعلّمت منه الكثير من الدروس والعبر، وعلّمني كيف يكون الصبر، العجيب في أمره أنّه قال لي شيئًا جعلني أسهر مفكرًا طوال الليل، فقد قال لي إنّه كل ليلة وقبل أن يضع رأسه على المخدة لينام، يبدأ بسرد الأحداث في رأسه ويسامح كل شخصٍ أذاه، زوجته ورؤساء جامعته وإخوته وحتى أولاد الحي.
الخاتمة: جوهره الثابت يعمق الود بيننا
لله درّه مِن رجل تعلّمتُ منه الكثير، فجوهره الثابت زاد الود عمقًا بيننا، وكلماته ما برحت تفارقني ولن تفارقني لآخر عمري، كَم أحمل في قلبي لريمون صاحب الخطى الواثقة ودًا لم أحمله لأحدٍ في حياتي، وما زاد تأثير الرجل في قلبي أن زادت حالته سوءًا وكثرت الأرزاء عليه وأثقل كاهله الألم، وما لبث أن مرّ عامٌ حتى مات ذلك الصديق وترك في قلبي فراغًا كبيرًا، وكلّما مررتُ من باب منزله أتذكّر كيف كان يُلوّح بيديه ويضحك لي والودّ في عينيه، وداعًا صديقي ريمون!.
قد يكون هذا المقال مفيدًا لك: كيفية كتابة نص وصفي.