مزدحمة لا تخلو شوارعها
للمدن صفات كثيرة، منها أنّها شديدة الازدحام، المدينة مزدحمة دائمًا، شوارعها مليئة بالأشخاص والسيارات والحافلات، فكأنّها زجاجة مليئة بصدفات الشاطئ، يأتي ازدحامها من زيادة أعداد سكانها، فتشهد المدينة تزايدًا سكانيًا ضخمًا وكبيرًا، ومع التطوُّرِ الذي تشهده المدن والتغييرات التي تطرأ عليها فقد ازدادت الهجرة من الريف إلى المدينة.
السكان في الغالبية العظمى يتركزون اليوم في المدينة؛ إذ باتت المدينة مركزًا للتجمعات والتكتلات البشرية وكذلك هي مركز للكثير من الطلاب الذين يقصدونها من أجل التعليم في الجامعات، أو من أجل التخصص بالفرع الذي يدرسونه؛ لذلك فشوارعها لا تخلو أبدًا فكأنّها خليّة نحل كلّما هجع قسم منها قام قسم آخر إلى العمل.
الحافلات تملأ الشوارع تحمل الطلاب إلى مدارسهم وجامعاتهم، والناس إلى وجهتهم التي يبغون الوصول إليها، السيارات تحمل الموظفين الذين يتجهون إلى أعمالهم كل صباحٍ، وفي المساء كل شخصٍ منهم يعود في وقتٍ مُختلف؛ لذلك فحتى في الليل لا يختفي ازدحام الشوارع.
إنّما تبقى على حالها على مدار الساعة، فلا تتوقف الحركة فيها أبدًا وإن كانت أقل ازدحامًا في الليل وفي ساعات الصباح الباكر، بعض الأشخاص يرَونَ هذه الصفة جيدة لأنَّهم يشعرون بالأُلفة إن اضطروا للخروج في أي وقتٍ، والبعض الآخر يعتبرها صفةً سلبيةً؛ لأنَّهم لا يحبذون الازدحام، وتتعبهم هذه الحركة الدائمة التي تملأ الشوارع.
مكان لا يعرف النوم
تختلف المدينة عن الريف اختلافًا كُليًا؛ بسبب وجود الأشخاص فيها في الليل، في الريف مثلًا لا نجد أشخاصًا يخرجون ليلًا ويُمارسون حياتهم بشكلٍ طبيعيٍ كما يفعل بعض سكان المدينة إن احتاجوا للخروج، كما أنَّ بعض الأعمال في المدينة تستمر حتى ساعاتٍ متأخرةٍ من الليل، فنرى بعض المحلات التجارية تفتح أبوابها حتى منتصف الليل.
بعض العائلات تخرج مساءً لزيارة الأقارب أو الترفيه في أيّ مكانٍ عامٍ؛ إذ تقدم المطاعم وبعض الأماكن الترفيهية خدماتها حتى ساعات الفجر، فعندما تعود هذه العائلات، نرى أشخاصًا آخرين قد خرجوا ليتجهوا إلى أعمالهم؛ فبعض الأعمال تبدأ في وقتٍ باكرٍ جدًا، فكأنّ المدينة مكان للتناقضات بين المرفّهين والكادحين.
نرى في المدينة الأطفال متجهين إلى مدارسهم كأنّهم فراشات تمرح في حقول الورود، وبهذه الطريقة تبقى المدينة صاحيةً طيلة اليوم، وكأنها لا تعرف النوم، فالحياة في المدينة تُشعر الشخص بأنَّ الليل لا يحل في شوارعها أبدًا؛ إذ يبدو كأنّه ضيف ثقيل الظل لا مكان له في مجالس المدينة.
المستشفيات موجودة على الدوام، وبعض الصيدليات تُناوب طيلة الليل، بعض المقاهي لا تُغلق أبدًا، والعديد من الأعمال تقوم على نمط المناوبة، فهناك عمال في النهار وعمال بالليل؛ لذا تقضي المدينة الليالي الطويلة دون أن تغفو للحظة، فهي لا تعرف النوم، إنّما يشبه ليلها النهار سوى أنّه أقل قليلًا في الازدحام.
مضيئة تجهل الظلمة
من ميزات المدينة أنّنا لا نشعر فيها بالخوف ليلًا، فلا نخشى المشي في أيّ زقاقٍ أو التعثر في الطريق، أو حتى التعرُّض لأيّ موقفٍ يُسبب الأذى بسبب ظلام الليل؛ لأنَّ الظلام لا يطال المدن أبدًا فهي مضيئة دائمًا، حتى في منتصف الليل، بل إنَّ الإضاءة لا تختفي فيها في أيّ وقتٍ فكأنّ الليل فيها كالنهار إضاءةً وأمنًا.
إن ذهبنا إلى أيّ مكانٍ في المدينة وجدنا الأضواء موجودة دائمًا، فالإضاءة لا تتوقف عند انتهاء النهار وحلول المساء مُصطحبًا القمر، هذا القمر الذي حيثما نظرنا إلى السماء سنراهُ يُزينها ويتوسط الكثير من النجوم التي تُرافقه في كل ليلة، إضافةً إلى الضوء اللطيف الذي يُلقيه على المدينة، نجد الأضواء التي تملأ الشوارع.
تُشبه المدن اللآلئ المضيئة التي لا تنطفئ أبدًا، تُنير حياة الأشخاص الذين يقطنون في أيّة ناحيةٍ فيها، فإذ نظر الشخص من نافذته ليلًا رأى كل ما يمتد إليه نظره مضيئًا يتلألأ تحت أضواء المدينة الجميلة والبهية، التي تُشكل لوحةً فنيةً تمتزج فيها الألوان بشكلٍ يسحر الأنظار، ويسرق القلوب لشدة جماله.
كما أنَّ الشوارع تتميز بإضاءةٍ لا تنقطع فيها، بين الأضواء الموضوعة على جوانب الشوارع، وبين أضواء السيارات التي تسير فيها، فليل المدن لا يختلف كثيرًا عن نهارها؛ لأنَّ أضواءها تنير كل ركنٍ فيها طيلة الليل، وكأنها لم تعرف يومًا ماذا تعني الظلمة وكيف يكون الظلام.
صاخبة لم تعش الهدوء
آخر ما يُشار إليه أنَّ المدينة هي مكان صاخب، فإن كانت الحياة فيها قائمةً في الليل والنهار، والحركة دائمة على مدار اليوم؛ إذ يخرج الكثير من الأشخاص ليلًا لقضاء حاجاتهم، فحتى في الليل لن يجد الشخص الهدوء في المدن، إنّما تتميز بصخبها والأصوات الدائمة التي تعلو في الكثير من مناطقها لأسبابٍ عديدةٍ ومختلفةٍ.
تشهد الأماكن القريبة من الشوارع الصخب والضجيج بشكلٍ مستمرٍ وأكثر من المناطق البعيدة عنها، وبعض الأشخاص يُفضلون العيش في هذه الأجواء، فيشعرون بوجود الأشخاص من حولهم، وأنّهم يعيشون في مناطق مأهولة من كل الجهات، وفيها العديد من الخدمات التي لم تعد تقتصر على ضروريات الحياة وحسب.
يجد الشخص كل ما يخطر على باله في المدن، فإن احتاج لأيّ شيءٍ وفي أيّ وقتٍ كان يحصل عليه دون عناءٍ أو طول انتظارٍ، فكأنّه قد امتلك المصباح السحري الذي يُحقق له أمانيه، وإن خرج من المنزل في أيّ وقتٍ يجد سيارات تقله للمكان الذي يُريده.
لكن لهذه الميزات الإيجابية ضريبة بالتأكيد، وضريبتها الصخب الذي يملأ مختلف أنحاء المدينة وشوارعها، فالمدن التي يُوجد فيها كل شيءٍ بلا استثناء، ولا يضطر فيها الشخص لأيّة خدمةٍ إلا ويجدها حاضرة قريبًا منه دون الذهاب إلى أماكنٍ بعيدةٍ للحصول عليها، تكون صاخبةً بالضرورة، وبعيدةً كل البعد عن الهدوء ولم تعرفه.