محتويات
تراب الوطن حنين المهاجر
الوطن هو الانتماء، الوطن هو القوة، هو تلك الأرض التي تمتد جذورنا إليها وترتبط بها، تتعانق أرواحنا مع ذرات ترابها، هي التي تحدد هويتنا وتوضح طريقنا، وترسم خطواتنا، خطوات يملؤها الشموخ وتعلوها العزة والكرامة، وعندما نقول: إنّ تراب وطننا غالٍ فإننا نعني ذلك حقيقة، فهذا التراب هو الروح والنبض والحياة، فيه رائحة لا يمكن أن نستنشقها إلا فيه، وهو ليس مجرد ذرات من التراب، بل هو تراب من نوع خاص، تراب العشق، تراب الطفولة وتراب الذكريات والفرح والحزن والنصر والهزيمة.
إنّ المهاجر والبعيد عن الوطن هو أكثر من يشعر بقيمة هذا التراب ويحنّ لذراته، يشتاق لرائحته الندية العطرة عندما تبللها ذرات المطر اللؤلؤية في صباح شتوي هادئ، ينفطر قلبه شوقًا لانغماس قدمية في ذلك التراب، وسماع حفيفه مع نسمات الرياح الخريفية، ذلك التراب الذي تعشّق منه في طفولته حتى اكتفى، والذي مشى عليه دروبًا طويلة، دروبًا مملوءة بالبوح والمناجاة والحنين والحب والقصص التي لا يمكن أن تُنسى.
إن تراب الوطن هو حنين المهاجر، فهو الذي يربطه بأرضه، ويربطه بأهله وأصدقائه وأقاربه وأحبته، هذا التراب هو الذي شهد أول قصة عشق عاشها ذلك المهاجر، وحفظ له سره وكتمه ولم يبُحْ به لأي مخلوق، هو التراب المخلص الصادق مع أبنائه، فكيف لا يكون تراب الوطن حنين المهاجر، وكيف لا يتمنى كل مهاجر أن يملأ جوارحه بشذى ذلك التراب النقي، إنّ تراب الوطن هو بارقة الأمل التي تنعش روح المهاجر، وتفرح قلبه كلما تذكر ذكرياته القديمة فيه.
الوطن حنون مع أبنائه حنان الأم على أولادها، وصارم عند الضرورة صرامة الأب لتأديب الأولاد، صادق صدق الأخوة، مخلص إخلاص الأصدقاء، فهذا الوطن بكل تفاصيله وترابه وأرضه وسمائه ومائه يحتضن أبناءه بكل وعي وحب، يعاملهم بما يناسبهم، يقسو أحيانًا ويلين تارةً، يمنحهم أحيانًا ويحرمهم تارةً، وما ذلك إلا لأنهم أبناؤه، فهو الذي يرعاهم حتى يشتد عودهم وتقوى شخصياتهم، ويكون سندًا ومددًا للوطن وأرضه.
الانتماء للوطن سلوك المخلصين
إنّ الحياة متقلبة تقلب الفصول في السنة، أو تقلبالليل والنهار، فلا فرح يدوم ولا ترح يستمر، وفي كل يوم تختلف الأحداث وتتقلب المصائر، فترتفع بلاد وتُهزم أخرى، تزدهر أراضٍ وتبور أخرى، وما ذلك إلا لحكمة بالغة قضاها خالق الأكوان في هذا الحياة، وكذلك هو حال الأوطان، فما ازدهر وطن ودام له الازدهار، ولا انحدر بلد وتقهقر واستمر في الانحدار، فطوبى لأبناء وطن تمسكوا به وبترابه وبانتمائهم له في أحلك الظروف وأعتاها، فكان الوطن لهم سندًا وحضنًا ومأوًى وملاذًا.
كثيرًا ما تبدأ حالات الهجرة والبحث عن ملاذ آمن عندما تتراجع المستويات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية والتعليمية في أي بلد من البلدان، وعادة ما تكون هذه الهجرة لفئة الشباب، وذلك أمر طبيعي، فالحياة لا بد أن تستمر، وعجلة الحياة لن تنتظر أحدًا، ولكل شاب طموحه وأحلامه التي لا بد أن يسعى ليحققها، وهذا حق مشروع، إلا أن غير المقبول أن يخرج الإنسان من وطنه ويبدأ التنديد بالوطن وأرضه، والذم به في كل محفل وفي كل موضع يمكنه من ذلك.
إنّ الإخلاص والانتماء للوطن هو سلوك وخلق لا يتحلى به إلا النبلاء الأوفياء، فلا يمكن لأحد أن ينسى فضل الوطن مهما كان فيه من شخصيات سيئة ومؤذية تسببت للمهاجرين بالقهر والتعب والحرمان والذل، إلا أن الوطن له كرامته، له روحه التي لا تفتأ ترمم جروحها وتداويها، فيأتي المهاجر لينكأ تلك الجروح بالكلام الجارح والذم المسيء المتعب للوطن، الوطن هو الحضن الدافئ والأب المتفاني الأخ الصادق، فلا تقسوَنّ عليه يومًا حتى لا تعود إليه خجلًا من رفع رأسك على أرضه بعد أن أهنتها وذممتها بغير وجه حق.
لا بدّ أن يكون الإنسان واعيًا بأنه لا يمكن أن يحمل أحد ذنب أحد، فالوطن وإن كان عليه من أبنائه من أساؤوا وظلموا ولكن هذا لا يعني أنّ الوطن سيئ، ولذلك لا بد من التحلي بالإخلاص والانتماء والافتخار بهذا الانتماء، وجزء من هذا الإخلاص يكون بمحاولة تغيير الفساد في الوطن إلى صلاح وعمار وخير وحياة سعيدة ملؤها الفرح والاستقرار والتناغم.
وطني تاريخ وحضارة
أوطاننا هي محفل الذكريات، مرقد العلماء والأمراء والخلفاء، فيها بُنيت الحضارات وازدهرت ثم تراجعت وانحسرت، ظهرت أجيال كتبت سطور التاريخ بدمها رفعت رايات العزة والجلال والإباء في صدورها، فلا يمكن أن يكون الوطن الذي يحمل كل هذه المآثر الحافلة والتاريخ المبجّل أن يكون رخيصًا عند أبنائه، فلتعطوا وطنكم ما يستحق من التعظيم، فقط إذا نُظر إلى تاريخ الوطن وحضارته وما شهده من انتصارات وهزائم وحضارات ومحافل، فستنحني الهامات إجلالًا لجبروته وقوته على تحمل كل هذه التقلبات.
إنّ الفخر بالوطن هو الذي يجعل كل إنسان موضع احترام وتقدير، فمن لا يحمل الاحترام والافتخار لوطنه الذي نشأ فيه وتعلم ودرس وترعرع وأحب وعشق فيه، فلمن سيكون ولاؤه وإخلاصه، ومن سينظر لهذا الإنسان أو يثق به، أو حتى يتأكد من أنه إنسان صادق، ولذلك ليس للإنسان إلا الانتماء والإخلاص للوطن، ولا مفر من الافتخار والاعتزاز بتاريخ الوطن وحضارته.
ليس ذلك الافتخار بالوطن وتاريخه ليبقى الإنسان هائمًا على وجهه في متاهات الماضي وذكرياته، هاربًا من الواقع وظلماته، إنما ليأخذ العبرة والدرس من الماضي، ويعرف كيف ازدهر الوطن وارتفعت راياته شامخة في السماء، ويضع بعدها اللبنة الأولى للتغير والإصلاح، فيكون بذلك قد خطا أول خطوة على الطريقة الصحيحة، والتي ستكون نورًا وضّاءً للأجيال من بعده، فلا تقللْ من قيمة هذه الخطوة، فهي الخطوة الأولى التي ستتبعها خطوات أثبت وعزائم أقوى.
في كل صفحة من صفحات تاريخ الوطن درس وحكمة لا بدّ أن يتعلمها أبناء الوطن، فذلك التاريخ هو الذي سيقوي انتماء أبناء الوطن، وسيزيد من تعلقهم بوطنهم، ومن يقينهم أن الازدهار قادم لا محالة، لكنه يحتاج هممًا وإخلاصًا وحبًا، وعندما يُعلم التاريخ كما يجب، فقط عندها ستزدهر الأوطان بأبنائها، وتحافظ على قوتها ومتانتها وصلابتها في وجه الأعداء، وتعلو راياتها بأيدي أبنائها المخلصين، الذي يقدرون المعنى الحقيقي للوطن وحب الوطن وتاريخ الوطن ومستقبل الوطن.
وطني ليس خريطة
أشد ما يُخشى منه على أوطاننا أن يتحول حبها إلى خريطة تُرسم على أوراق الدفاتر وتُنقش على كفوف الأيدي وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وننسى كل تفاصيلها الأخرى، فينشأ الوليد لا يعرف شكل علم الوطن، ولا يعرف أسماء مدنه وقراه، ولا يعرف طرقه وشوارعه، ولا يستطيع أن ينطق بنشيده الوطني، أو حتى لا يعرف أي شيء عن الوطن.
وطني ليس خريطة، هذا ما يجب أن يعيَه الأهل عندهما يحدثون أولادهم عن الوطن، هذه الخريطة لا بد أن تُنقش بكل تفاصيلها في ضمائر الأبناء وأرواحهم وعقولهم، فيعرفون عنها كل صغيرة وكبيرة، ويعرفون الجيوش التي مرت على حدودها، والانتصارات التي تغنّى بها أبناؤها، وكيف صارت هذه الخريطة خاصة بالوطن، عندها فقط سيكون للخريطة على الدفتر وعلى كف اليد معنى وروح، وما سوى ذلك ما هو إلا مظاهر خادعة نخدع بها الآخرين، أو بشكل أصحّ نخدع بها أنفسنا أننا ننتمي لوطن، أو لخريطة وطن.
ما قيمة الخريطة إن لم نعرف شمالها من جنوبها، ما قيمة الخريطة ما لم نحدد موقع بلدتنا عليها، ما لم نعرف كيف نرشد الغرباء إلى تفاصيلها، والذي يحرق القلوب أكثر، ويجعل الكلمات عالقة في الحناجر لا تقوى على الخروج، أن يكون للغريب دراية ومعرفة بتفاصيل الوطن أكثر من ابن الوطن والمنتمي إليه، فهذا والله لخزي لا يمكن التغافل عنه، والدور كله في هذا الأمر يرتبط بمنحيين هما: التربية والتعليم.
للتربية دور كبير لا يمكن التغافل عنه في زرع حب الوطن بقلب الأبناء من الطفولة، وتوضيح أهمية الانتماء ودوره في الحفاظ على عزة الإنسان وكرامته أينما حل وارتحل، ومن ناحية أخرى يأتي دور التعليم وتوضيح أهمية الانتماء، وتعليم تاريخ الوطن، وتفاصيل طبيعته الجغرافية ومناخه وسكانه، وأصوله وأصول الحضارات التي تعاقبت عليه، عندما يحدث هذا سيكون للأبناء نظرة مختلفة للوطن، سيعرفون أنّ كلمة وطن لا تتوقف عند حروفها الثلاثة، بل تتجاوزها لتكون حجر أساس في حياة كل إنسان.
ما لم يكن حجر الأساس هذا موجودًا، فإن كل ما يبنيه الإنسان ويقوم بالتحليق به في الأعالي سينهار عند أول نسمة ريح تلمسه، فلا بدّ من تمتين الجذور وتأصيلها، حتى يكون العمران ثابتًا متينًا في وجه كل الرياح والعواصف.
لقراءة المزيد، انظر هنا: موضوع تعبير عن الوطن.