تعبير كتابي عن وصف شخص

كتابة:
تعبير كتابي عن وصف شخص

كما يبدو جون

لم يكن جون صاحب الأربعين عامًا سوى رجل يجلس على كرسيٍّ من الخشب في مقهى شعبيٍّ في سان بطرسبرغ، حمله للجريدة اليوميَّة وتصفحه إيَّاها لا ينبئ عن شخصية تهتم بماهية الأخبار الواردة فيها بل ربما اعتاد حملها؛ لأنَّ تلك العادة رافقته في أعوامه الماضية، على أي حال فهو لا يبدو أكثر من شخصيَّةٍ عبثية تتأمل الفراغ ما بين السطور.


للعمر أثره في الوجه

التأمل في وجه جون يدعو إلى الإغراق في وصفه، فهو يملك جبينًا عريضًا كان للسنين أثرها في رسم خطوط ما عاد يفلح أيّ حَدَثٍ في محوها، أمَّا تلك العينان الزرقاون فكانتا تحويان كل ما تراهما علَّهما تستطيعان تصوير ما تقدر عليه ثم طبع ذلك كله في الذاكرة، كان جون خفيف الشاربين وكأنَ كل شعرة من شاربه لا تلتقي مع الأخرى ولا يمكن ذلك إلا إن عزم على أن يحلقهما فيكون اللقاء عند الوداع في آنٍ معًا، تنبعث من فمه رائحة التبغ التي لم أشمها وخطوط شفاهه تنبئ عن عدد السجائر التي لامست لعابه.


إن لون فمه القرمزي الذي اختلط مع النيليِّ لا يعدو عن كونه مثل فم أي مدخنٍ مترهلٍ لا يُفتح أو ينطبق إلا عندما يهمّ بوضع إحدى سجائره ورمي أخرى، إن الخطوط على شفاهه تبرز صارخة وتريني نفسها على بعد المسافة فيما بيننا، وممّا ساعدها على ذلك هو عدم وجود شاربين كثيفين يحجبانها، أما الحاجبان فيبدو أنَّهما انعقدا على أمر مهم؛ فهما يشاركان جون أي حركةٍ من حركاته، وكأنهما قاسَماه الحياة فلا يتركان أي جزءٍ من جسده يتحرك إلا ويشاركاه حركته.


كان للعمر أثره في شعر جون، فعمر الأربعين لا يخفى على أحدٍ؛ إذ يكون الشيب أول إقباله ويبدأ اللون الأسود بالانحسار تدريجيًا عن مقدمة شعره، ولا أدري هل فقط لون شعره الأسود هو الذي انحسر أم كان لشعره بأكمله رأيٌ آخر، ويبدو أنَّ علامات التقدم بالعمر بدأت تفعل فعلتها ففقد جون -في الفترة الأخيرة على الأرجح- مقدمة شعره وبات يعاني مرضًا لا بدَّ لكل إنسان من المرور فيه وهو خفة الشعر أو الصلع كلّ حسب ما يساعده حظه.


لم تكن وجنتاه تشعان احمرارًا كما الآخرين، خاصَّةً أن صاحب المقهى قد أشعل المدافئ ليكافح -في مقهاه على الأقل- ما حلَّ في المدينة من صقيع، ولم تكونا صفراوين أيضًا، بل بهما شحوبٌ يعدلُ شحوب العالم قاطبةً، والترهلات بادية لا تخفى على أحد، ولربما كانت من تناوبِ جسمه ما بين السمن والنحولة، ولكن من يراه لا يرجِّح ذلك الخيار، بل على الأرجح أن وجنتيه تشاطرانه الحزن نفسه فشاءتا أن تترهلا.


لقد أثبت العلم في إحدى نظرياته التي أراها متجسدةً أمامي أنَّ الأذنين والأنف لا تتوقّف عن النمو طيلة الحياة، والجلد المتجعِّد قليلًا عليهما يثبت الأمر نفسه، ولا بدَّ من التساؤل في هذا المقام ترى ما هي الأمور التي سمعها في أذنيه حتى خُلقت منه تلك الشخصية التي يصعب تصويرها وإن طال الوصف.


قوامٌ معتدلٌ

نقلت ناظري في جسده بأكمله، فقد كان يرتدي قميصًا ذا لونٍ بنيٍّ تتخلله ثنياتٌ تنمّ على أنَّ ذلك الرجل ليس في حياته أحد ليعتني بما نسيه، ولا يغفل ناظرُ أي متفرجٍ عن كفه لأكمام قميصه بطريقةٍ عشوائيّةٍ، ولربما كانت تلك الكفة من عشرين يومًا أو يزيد، ويتمتع جون بقوامٍ معتدل فهو بين الرشيق والسمين لا يميل إلى أحدٍ منهما، وأكثر من ذلك فيبدو عليه أنَّه كان يتمتع بجسدٍ رياضيٍ فيما مضى من الزمان، والذي يدل على ذلك هو عروق يديه التي تبرُز من بين أضلاعه بطريقةٍ لافتة.


إن ضخامة كفيه تحدّث عن العمل الشاق الذي أوكل إليهما، خاصة أن صلابة أصابعه يمكن ملاحظتها دون مسِّها، وأظافره المحشوة ببرادة الحديد وزيوت السيارات تعطي وصفًا خاصًا عن حرفته التي مارسها لسنين خَلَت، لم يستطع ذلك كله أن يجعل ناظر أي مارٍّ يخطئ كثافة شعر صدره ويديه، فهو رجل من الخشونة بمكان، ثم لو تطرَّق النظر إلى بنطاله العسليِّ الذي غيره الغبار إلى البني الفاتح فإنّ أي راءٍ لذلك سيجزم أنَّ هذا الرَّجل يهتم بكل شيءٍ إلا بهندامه الخارجي.


أمَّا حذاؤه فلم يكن مختلفًا عن الأمور التي سبق الحديث عنها، فهو قديمٌ قدمَ كل شيءٍ أثَّر فيه وجعله بحالة يلاحظها أغلب المارة فيُشيحون بنظرهم عنه خشية أن يروا ما يسوؤهم في يومهم، المنظر العام لا يشي إلا بما تكون عليه النَّفس الدَّاخليَّة، فشخصية أيّ رجلٍ هي ترجمان عما يحمله في نفسه وأفكاره شاء ذلك أم أبى، ولم يكن جون شاذًا عن تلك القاعدة فهو سطّرها وأثبتها وأجاد فيها حتى إنَّه ليُعد مثالًا صادقًا عليها، إنَّه شخصية ممزوجةٌ من كلّ شيء.


شخصيةٌ معقدةٌ وسهلةٌ

لم يكن باديًا على وجه جون كثيرًا من الاهتمام بما يجري حوله، فتفاصل عينيه كانت قادرة على إنباء أي شخصٍ بهذه الحقيقة، كانت عيناه المدورتان الزرقاوان تتنقل ما بين أسفل جريدته وأعلاها ثم تتفحص المساحة الفارغة من المقهى، فمن ينظر إليه يظنه ينتظر أحدًا للوهلة الأولى، ولكن مع التمعن في النظر سيصل إلى حقيقة مفادها أنَّ مثل تلك الشخصية قد لا تنتظر أحد.


العينان هما الفاضح الأكبر لأي شخصية كانت، فمرارة السنين ما زال طعمها في عينيه، ولا يقال في فمه لأنَّه كان حريًا باللعاب الذي يتبدل كل يوم بضع مرَّاتٍ أن يغير تلك المرارة إلى حلاوة مع تبدل الظروف والأيَّام، ولكنّ المرارة كانت في عينيه إذ لا يمكن محوها ولو شاء أن يبكي فإنَّ الدمع سيكون بمثابة خرزاتٍ تثبت ما حاول نسيانه أو تناسيه.


أنفاسه تسمع من قرابة مترٍ منه، وتلك الأنفاس تنبئ إمَّا عن غضبٍ عارمٍ وإمَّا عن لا مبالاةٍ كبيرة، ومن وجهة نظر المتفرج عليه، وباستجماع الصورة بأكملها فإنَّه يميل إلى الخِيار الثاني الذي يوضح أن شخصية كهذه من الصعب عليها أن تغضب بعد ما رأت ما رأت من السنين الماضية، إنَّ اللا مبالاة التي وصل إليها جون هي حصيلة ضرباتٍ متكررة وخذلانٍ واضحٍ من مجتمعٍ وأصدقاء وأقارب ولربما حتى زوجة!


صوته الخشن عندما نادى على النَّادل لا يعدو أن يكون أكثر من صوتٍ تجرَّع أقصى ما يستطيع امرئ أن يتجرعه، عدا عن نظراته الثاقبة التي تحاول أن تترصد كل ما حولها، وكأنه يقول إنَّ الغدر مرافق لي أينما حللت، هو لا يعتني بالاسترسال في التمعن بالآخرين، بل وقد لا يعنيه ذلك، وربما يجزم الجالس إلى جانبه أنَّه لو صادفه مرة أخرى في الطريق فإنَّه لن يلتفت إليه، ولو حاول أن يعرفه بنفسه سيجيبه بصوت باردٍ إنني لم أرك من قبل.


عندما أحضر النادل فنجان القهوة لجون جعلني ذلك الموقف أتبحر وأتمعن في شخصيته أكثر فأكثر، فقد طلب من النادل أن تكون قهوته بدون سكر تمامًا، وعندما أحضرها له النادل وجد أنَّ الحلاوة قد خالطتها بعض الشيء، فحدَّث النادل بذلك وقال له: يبدو أنَّك تصر على أن تغير ما اعتدتُ عليه، وكأنك ترفض الرتابة في عالمي وتحاول التغيير، ومن ثم صرفه، لم تكن تلك الكلمات منه سوى إفصاحٍ آخر عن تلك الشخصية التي يحتاج اكتشافها إلى تبحر في عالم علم النفس والفلسفة وما قاله أفلاطون وما رد عليه سقراط.


إنَّه يحمل نفسًا طيبةً في داخله، فهو لم يوبخ النَّادل على فعلته أبدًا، بل تجلّى اعتراضه على أنَّ أحدًا قد مسَّ من روتينٍ قد اعتاده حتى أن صار جزءًا منه، ترى هل للأيام يد في ذلك، وهل للمرة الأولى التي اعتاد أن يشرب فيها القهوة مُرّةً أثر؟ هل يرفض حتى أن يخون الذاكرة أم هناك أسبابٌ أخرى لم تضح للمراقب له عن كثب؟


جون شخصيةٌ معقدة وسهلة وبسيطة وهادئة وغاضبة ولا مبالية في آن معًا، هو خليطٌ من كل شيءٍ متجانس وغير متجانس، خليط من الأيام الماضية والحاضر الذي ما زال رافضًا له سواء من حيث الشخصيات أو الوقائع أو غيرها، ولو أُريد تحليل شخصية جون بدقةٍ أكبر فهي الشخصية العبثية التي لا تجد وقتًا للتفكير بشيء؛ فكل الوقت مشغول عنده بالفراغ، هكذا هي شخصية جون المتنوعة والمبعثرة والتي تبحث دائمًا عن كل شيء ولا تبحث عن شيء وتنتظر كل شيء ولا تنتظر في ذات اللحظة أي شيء.

4838 مشاهدة
للأعلى للسفل
×