محتويات
واقعية التشريع الإسلامي
إنّ شريعة الإسلام لا تغفل طبيعة الإنسان وتفاوت الناس في مدى استعدادهم لبلوغ المستوى الرفيع الذي ترسمُهُ لهم، فحدّدت الأُطر العامّة من القضايا التشريعيّة التي لا يجوز الانفكاك عنها، وأن ذلك يقتضي ممارسة جملةٍ من الفرائض، والابتعاد عن المحرّمات، وجعلت فيما بينهما مساحةً هائلةً من الأمور المباحة الطيّبة التي لا تبعةَ عليها، وواقعيّة الشريعة تتجلّى في إلزام الناس بما يطيقون فعله أو الانتهاء عنه، فلا تكليف بما لا يُطاق، قال الله تعالى: {وما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّيْنِ مِنْ حَرَجٍ}[١]، وقال سبحانه: {لا يُكلّفُ الله نفسًا إلَّا وُسْعَهَا}[٢]، فلا إصْرَ ولا أغلال، بل هو دينٌ سمحٌ سهلٌ يسير، وسيأتي لاحقًا تعريف الإخلاص في العمل، وحث الشريعة الإسلامية عليه.[٣]
تعريف الإخلاص في العمل
إن تعريف الإخلاص في العمل هو الإتقان والإحكام، وإن الإتقان هو معيار التميز بين المجتهد والمقصر، فكل الناس يؤدون أعمالهم، ولكن الفارق بينهم يكون في درجة إتقانهم للأعمال التي عليهم، ولأن العبرة ليست في أداء العمل فقط، ولكن في الصفة التي أُدِّي بها العمل، وإن مما يعين العبد على إتقان العمل أن يستشعر رؤية الله تعالى لعمله، كما قال تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[٤] كما أن الإخلاص لله تعالى سرٌّ بديع من أسرار الإتقان، وتلك وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما سأله جبريل عن الإحسان، فقال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تره فإنه يراك"[٥]، فإذا كان الإنسان لا يتقن إلا إذا كان رئيسه في العمل فوق رأسه، فقد مات الضمير ودفن الإخلاص! والعبد لن يستطيع أن يصل إلى درجة الإحسان إلا بأن يعبد الله كأنه يعاينه وينظر إليه، فإنه إذا استحضر ذلك عند أداء العبادة، فلن يترك شيئًا يقدر عليه من الخضوع والخشوع وحسن السمت واجتماع القلب والاعتناء بإتمام العبادة إلا أتى به، وبذلك يكون قد حقق تعريف الإخلاص في العمل.[٦]
حث الشريعة على الإخلاص في العمل
إنّ الأمانة أمرٌ عظيم من أوامر الدين، وخلق كريم من أخلاق الصالحين، وهي جزء من السلوك الفاضل، وجانب مهم من جوانب الإسلام، بل هي الإسلام كله، فهي أداء لحق الله بالقيام بالتكاليف الشرعية، ومراقبة الله في السر والعلانية، وهي أداء لحقوق الخلق على وجه الحق أيضًا، ومن الأدلة الشرعية على وجوب تحقيق تعريف الإخلاص في العمل: قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا...﴾[٧]، فالأمانة تنظم مجالات متعددة في الحياة، ومن أعظم تلك المجالات: مجال العمل والوظيفة، الذي يتجه إليه كثير من الناس، وقوله تعالى: ﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾.[٨]، ومن صور تعريف الإخلاص في العمل، الحفاظ على أدوات العمل وممتلكاته وحقوقه من العبث والإهمال والإتلاف والتصرف الخاص.[٩]
فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: كنت أرعى غنمًا لعقبة بن أبي معيط، فمر بي رسول الله فقال: "يا غلام هل من لبن" قال: قلت: نعم، ولكني مؤتمن، قال: "فهل من شاة لم ينز عليها الفحل" فأتيته بشاة فمسح ضرعها فنزل لبن فحلبه في إناء فشرب وسقى أبا بكر، ثم قال للضرع: "اقلص" فقلص أي اجتمع، قال: ثم أتيته بعد هذا فقلت: يا رسول الله علمني من هذا القول، فمسح على رأسي وقال: "يرحمك الله، فإنك غليم معلم"[١٠]، ومن صور تعريف الإخلاص في العمل أيضًا، أن يؤدي ما وجب عليه أداؤه في عمله إلى أهله من غير محاباة أو مماطلة أو خيانة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الخازن الأمين الذي ينفق -وربما قال: يعطي- ما أمر به كاملًا موفرًا طيبًا نفسه إلى الذي أُمر به أحد المتصدقين"[١١]
وظائف تراعى فيها الأمانة
هنالك بعض الوظائف المهمة التي يجب أن يراعى فيها تعريف الإخلاص في العمل أكثر من غيرها، لأنها كالأعمدة لرفع بنيان الحياة، ومن تلك الوظائف، وظيفة الولاية العامة على الناس، فيجب عليه أداء الأمانة في هذا العمل العظيم كما يجب، وذلك برعاية مصالح الناس الدينية والدنيوية، في جميع المجالات، وسيسأل عن هذه الوظيفة عند ربه تعالى، قال أبو مسلم الخولاني -رحمه الله- لمعاوية -رضي الله عنه-: " إنما أنت أجير استأجرك رب هذه الغنم لرعايتها، فإن أنت هنأت جرباها وداويت مرضاها وحبست أولاها على أخراها وفاك سيدها أجرها، وإن أنت لم تهنأ جرباها ولم تداو مرضاها، ولم تحبس أولاها على أخراها عاقبك سيدها".[٩]
ومن الوظائف التي يراعى فيها تحقيق تعريف الإخلاص في العمل، وظيفة القضاء والفصل بين الناس، وهي وظيفة مهمتها فض الخصومات وقطع المنازعات والحكم في الدماء والأموال والأعراض وغير ذلك بحكم الله تعالى، حتى يسود الاستقرار العام في المجتمع، ولا يتأتى ذلك إلا بالقيام بالأمانة الوظيفية في هذا العمل العظيم، ومنها أيضًا وظيفة تعليم الناس وإرشادهم وتربيتهم على الحق، وهذه الوظيفة يقوم عليها العلماء والدعاة والمصلحون والمعلمون، فالعلماء هم حراس الدين من العادين، وأدلّة الناس إلى رب العالمين فإذا أدوا الأمانة في عملهم هذا حُفظ الإسلام وأهله، وهم المرجوّ منهم تحقيق تعريف الإخلاص في العمل أكثر من سواهم.[١٢]
صور عامة للإتقان
يقوم الإسلام على مبدأ الإتقان والتفاني في أداء أي شيء، وظيفة دنيوية، أو مطلوبًا إلهيًا، وقد شجع الإسلام على الإخلاص في إنجاز أي مطلوب، وذلك بتعظيم أجر المتقن، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنّ اللَّهَ تَعَالى يُحِبّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ"[١٣]، ومن صور تحقيق تعريف الإخلاص في العمل:
- إتقان الوضوء: قال -صلى الله عليه وسلم-: "من توضأ فأحسَن الوضوء، خرجت خطاياه من جسده، حتى تخرج من أظفاره".[١٤]
- إتقان الصلاة: سُئلت عائشة رضي الله عنها يومًا عن صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رمضان، فقالت: "ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة؛ يُصلي أربعًا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعًا، فلا تسأل عن حُسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثًا".[١٥]
- إتقان الصيام: قال جابر بن عبد الله: "إذا صمت فليَصُم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك سكينة ووقار يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك سواء".
- إتقان الزكاة: وذلك بإخراجها في وقتها من أفضل ماله، مُتحريًا في ذلك مستحقيها، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ...﴾[١٦]
المراجع
- ↑ سورة الحج، آية: 78.
- ↑ سورة البقرة، آية: 286.
- ↑ "واقعيّة الشريعة الإسلامية"، www.islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 02-10-2019. بتصرّف.
- ↑ سورة التوبة، آية: 105.
- ↑ رواه الإمام البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم: 1.
- ↑ "الإتقان والإحسان في العمل"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 02-10-2019. بتصرّف.
- ↑ سورة النساء، آية: 58.
- ↑ سورة القصص، آية: 26.
- ^ أ ب "الأمانة في العمل والوظيفة "، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 02-10-2019.
- ↑ رواه الحسن بن عرفة البغدادي، في كتاب جزء ابن عرفة، عن عبد الله بن مسعود، الصفحة أو الرقم: 67.
- ↑ رواه الإمام البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي موسى، الصفحة أو الرقم: 1023.
- ↑ "القضاء في الإسلام "، www.islamway.net، اطّلع عليه بتاريخ 02-10-2019. بتصرّف.
- ↑ رواه أبو يعلى الموصلي، في مسند أبي يعلى، عن عائشة، الصفحة أو الرقم: 4386.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن عثمان بن عفان، الصفحة أو الرقم: 3/1026.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عائشة، الصفحة أو الرقم: 3569.
- ↑ سورة البقرة، آية: 267.