محتويات
تفسير آية (وذكّر فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين)
قال -تعالى- في سورة الذاريات: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)،[١] وردت هذه الآية في أواخر سورة الذاريات عند تناولها لاتهامات الفئة المتكبرة من مشركي قريش للرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- باتهامات باطلة كالسحر والجنون، فأُمِرَ النبي الكريم في الآية السابقة لآيتنا بأنْ لا يقابل إساءتهم بمثلها، وأن لا يجادلهم جدالاً لا طائل منه، قال -تعالى-: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ)،[٢]ولكن ذلك ليس معناه ترك الدعوة نهائياً، بل المقصود أنه لن يلوم أحدٌ الداعية إذا غيّر استراتيجيته الدعوية بالتفرغ لِمن يغلب على ظنه بأنه سيستفيد من ثمرة التذكير المستمر، وعدم استنزاف الوقت بما لا طائل منه مع الذين لا تؤثر فيهم المواعظ، لكن لا يترك التذكير والموعظة بالتي هي أحسن.[٣]
معنى الذِكْر لغة واصطلاحاً
التذكُّر في اللغة يكون بمعنى تعاهد الشيء المذكور بالحفظ ومراعاة عدم نسيانه، وقد بيَّن ابن فارس أنَّ معنى "ذكرتُ الشيء: خلافَ نسيتُه. ثم حُمِل عليه الذِّكر باللسان. ويقولون: اجعله منك على ذُكرٍ، بضم الذال، أي لا تنسه"،[٤] ووضَّح الراغب الأصفهاني أنَّ المعنى الاصطلاحي للذِّكر قريب من المعنى اللغوي، فجعل الذكر يُراد به أحد أمرين: الأول الحفظ، وهو هيئة في النفس يحترز بها الإنسان عن نسيان ما يقتنيه من المعرفة، والثاني استحضار الشيء المذكور، ولذلك قيل: الذكر ذِكران: ذِكر بالقلب، وذِكر باللسان، وكل واحد منهما نوعان: ذكِرٌ بعد نسيان، وذِكرٌ ليس بعد نسيان، بل بسبب إدامة الحفظ.[٥]
التفسير التحليلي للآية
معنى (وَذَكِّرْ): أمرَ الله نبيه الكريم -صلى الله عليه وسلم- بأن يُذكِّر قومه، وهذا التذكير يحتمل ثلاثة معانٍ كلها متعاضدة، يُمكن حمل دلالات الفعل (ذَكِّرْ) على المراد من تلك المعاني جميعها، وهي كما يأتي:[٦]
- التذكير بالقرآن الكريم، ويؤيده قوله تعالى في آخر السورة السابقة وهي سورة ق، قال -تعالى-: (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ).[٧]
- التذكير بفعل الطاعات وترك المنكرات، وهذا هو التواصي بالحق الذي أمرت به سورة العصر، قال -تعالى-: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).[٨]
- التذكير بالموعظة (الذِّكْرَى) وما فيها من ترقيق للقلوب، وتؤيده آية أخرى في سورة ق قوله -تعالى-: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).[٩]
ومن الممكن اختصار المقصود هنا ليشمل التذكير بأيام الله وعذابه ورحمته،[١٠] ويؤيد هذا الرأي آية (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ)،[١١] والمقصود بـ(الذِّكْرَى): هو تذكُّر المدعوين لتلك النذارات البليغة التي سبق ذكرها.[١٢]
والثمرة الرئيسة لاستجابة المدعوين هي هدايتهم لِما فيه الخير لهم، وبذلك ستتحقق لهم الذكرى، "ذَكِّر العاصين عقوبتي؛ ليرجعوا عن خالفةِ أمري، وذَكِّر المطيعين جزيلَ ثوابي؛ ليزدادوا طاعةً وعبادةً".[١٣]
ومعنى جملة (تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ): أي أنَّ هذه العملية الدعوية المستمرة في التذكير ستجد ثمرتها حين "تؤثر في الذين عَرَف الله منهم أنهم يدخلون في الإيمان، أو يزيد الداخلون فيه إيماناً"،[١٤] بل إن هذه الذكرى المستمرة لا تفيد أصلاً إلا المؤمنين؛ لأنه سيتبعها أحد احتمالين:[١٥]
- الاحتمال الأول: إيمان الكافر، وبهذا يكون الكافر قد استفاد مِن ثمرة الذكرى فصار مؤمناً، واستفاد الدعاة وانتفعوا منها حسناتٍ، وترسيخ لثمرات الذكرى في قلوبهم.
- الاحتمال الثاني: إصرار الكافر على كفره، لكن سينتفع مَن يستمعون كلام الداعية مِن المؤمنين الحاضرين للمجلس، بل وسيستفيد الدعاة ذاتهم ثمراتٍ كثيرة كالتدريب ورياضة النفس والحسنات، ورضوانٌ من الله أكبر مِن كل ذلك.
المراجع
- ↑ سورة الذاريات، آية:55
- ↑ سورة الذاريات، آية:54
- ↑ الشوكاني، فتح القدير، صفحة 110.
- ↑ ابن فارس، مقاييس اللغة، صفحة 358.
- ↑ الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، صفحة 328. بتصرّف.
- ↑ الماوردي، النكت والعيون، صفحة 374. بتصرّف.
- ↑ سورة ق، آية:45
- ↑ سورة العصر، آية:3
- ↑ سورة ق، آية:37
- ↑ الزجَّاج، معاني القرآن، صفحة 58. بتصرّف.
- ↑ سورة إبراهيم، آية:5
- ↑ برهان الدين البقاعي، نظم الدرر، صفحة 480. بتصرّف.
- ↑ عبد الكريم القشيري، لطائف الإشارات، صفحة 469.
- ↑ الزمخشري، الكشاف، صفحة 405.
- ↑ الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، صفحة 191. بتصرّف.