تفسير وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا

كتابة:
تفسير وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا

تفسير آية وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا

معنى وجعلناكم شعوبًا وقبائل في الآية

ذهب الإمام المفسّر فخر الدين الرّازي في تفسير هذه الآية: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)، إلى آفاقٍ عدّةٍ، وبيان ذلك فيما يأتي:[١]

  • الوجه الأول: جعلناكم شعوباً كالأعاجم لا يُعرف من يجمعهم، وجعلناكم أيضاً قبائل لكم أصلٌ معلومٌ يجمعكم، مثل: العرب وبني إسرائيل.
  • الوجه الثاني: جعلناكم شعوباً منبثقةً عن القبائل؛ فتحت القبيلة شعوباً ممتدّةً منها، ومن الشعوب بطون مختلفة، ومن البطون أفخاذ متعدّدة، ومن الأفخاذ فصائل يخرجُ منها الأقارب.
  • جاء ذكرالأعم في الآية الكريمة حتى لا يُفهم منها قصد الافتخار في الأنساب؛ فالأعمّ مشتملٌ على الفقير والغني، والضعيف والقوي، فمقصود الآية التعارف لا التفاخر، وفي ذلك دلالاتٌ هامّةٌ:
    • إنّ التّعارف يقتضي التناصر فيما بين الشعوب والقبائل؛ فلا مجال للتّفاخر.
    • إنّ التعارف ضد التناكر، ومن هنا فإنّ كلّ فعلٍ أو قولٍ لا يفضي إلى تحقيق التعارف بين الأمم فإنّه خروجٌ بالمراد الإلهي عن مقصوده، ونزوحٌ نحو التناكر المرفوض شرعاً، ومن ذلك فشوّ الغيبة والسّخرية والغمز واللمز.
  • تحمل الآية الكريمة عدّة معانٍ لطيفةً تؤكّد عدم جواز الافتخار في موضع الأصل فيه التّعارف والتّآلف؛ ففي قول الله سبحانه: (إِنَّا خَلَقْناكُمْ) و (وَجَعَلْناكُمْ) إشارة إلى أنّ الافتخار لا يكون بما لا كسب للإنسان فيه، ولا سعي له في تحصيله؛ فالخالق والجاعل هو الله عزّ وجلّ، وأنّ ميدان الافتخار الحقيقي في بمعرفة الله تعالى.[١]


معنى التعارف في الآية

التّعارف المراد بالآية الكريمة هو التعارف الذي يقوم على التناصح والتناصر بالحقّ، والتعاون في مهمّة عمارة الأرض، والتّوارث وأداء الحقوق بين ذوي القربى، وثبوت النّسب، وهذا يتحقّق بجعل الناس شعوباً وقبائلاً متعدّدةً، على أنّ هذا التّعارف لا يُساوي بين الناس، بل جعل ميدان السَّبْق مفتوحاً عن طريق التقوى؛ فأكثر النّاس تقوى أحقّهم بكرامة الله تعالى، وبهذا يخرج من ميدان سباق الكرامة من طلبها من طريق الأكثر قوماً أو الأشرف نسباً.[٢]


سبب نزول آية إنا جعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا

هناك قولان في سبب نزول هذه الآية الكريمة، نوردهما فيما يأتي:

  • القول الأول: أمر النبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- بني بياضةَ أن يزوِّجوا أبا هندٍ امرأةً منهم، فقالوا: يا رسولَ اللهِ نزوِّجُ بناتِنا موالينا؟ فأنزل اللهُ تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ)،[٣] أي إنّ بني بياضة استنكروا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- كيف يزوّجوا بناتهم من الموالي والعبيد، فنزلت هذه الآية لنبذ هذا التعصب، ونفي الفروقات إلا بالتقوى.[٤]
  • القول الثاني: قيل إن سبب نزول هذه الآية هو أنّ بلال بن رباح صعد على ظهر الكعبة يوم فتح مكّة ليؤذّن في النّاس، فسخر منه الناس يومئذٍ ومن لونه الأسود، فنزلت هذه الآية الكريمة لإنكار هذا الفعل عليهم.[٥]


يتلخّص مما سبق أنّ نزول الآية الكريمة كان إنكاراً لأفعال بعض النّاس الذين اعتقدوا أن الأفضليّة تكون لمن مستواه الاجتماعي أعلى، أو لمن يملك لون البشرة البيضاء، فجاءت الآية لتُبيّن أن معيار المفاضلة بين الناس عند الله هو التقوى فقط.


موقف الإسلام من العنصرية

يقف الإسلام بضراوة أمام الأفكار التي تميّز بين بني الإنسان تحت راية غير راية التّقوى، ومن هنا كان للإسلام موقفاً واضحاً تجاه العنصرية، وفيما يأتي بيان موقف الإسلام من العنصرية:[٦]


محاربة العنصرية

  • حارب العنصريّة والقبليّة بكلّ أشكالها، وقرّر أنّ معيار التفاضل بين بني البشر قائمٌ على أساسٍ واحدٍ هو التّقوى، حيث قال الله عزّ وجلّ: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).[٧]
  • أقرّ الإسلام بوجود الاختلاف في طبيعة البشر، بل جعل تعدّد صوره وأشكاله آيةً من آيات الله في خلق خلق الكون؛ فقال الله سبحانه: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ).[٨]


نبذ التعصب

عاب الإسلام على أصحاب العصبيّات البغيضة؛ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: (ليسَ منَّا منْ دعا إلى عصبيةٍ، و ليسَ منَّا منْ قاتلَ على عصبيةٍ، و ليسَ منَّا منْ ماتَ على عصبيةٍ)،[٩] وشنّع الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- على أولئك الذين يرون عزّهم ورفعتهم بأقوامهم؛ فقال: (أنتم بنو آدمَ، وآدمُ مِن ترابٍ، لَيدَعَنَّ رجالٌ فخرَهم بأقوامٍ، إنّما هم فَحْمٌ مِن فَحْمِ جهنمَ، أو لَيَكُونَنَّ أهونَ على اللهِ مِن الجُعْلانِ التي تَدْفَعُ بأنفِها النَتْنَ).[١٠]


إزالة الفوارق بين الناس

  • في سبييل إزالة الفوارق القائمة على الطبقية والقومية سعى الإسلام إلى تحرير الإنسان من عبودية العباد إلى عبودية رب العباد؛ فجاءت التّشريعات التي قصدتْ إلى إزالة الرِّقّ الذي كان قد فشا في جاهلية جزيرة العرب، ومن هذه التشريعات كفّارات الأيْمَان، والظّهار، والقتل غير المتعمّد.
  • أثمرتْ هذه المبادىء التي دعا إليها الإسلام تطبيقاً عملياً شهده المسلمون وطبّقوه في المدينة المنورة عندما تعايشوا مع اليهود على أساس أداء الحقوق والوفاء بالواجبات، كما تصالحتْ الدولة الإسلامية مع نصارى نجران.
  • ضمّ الإسلام تحت جناحيه ثلّة من كبار الصحابة على أساس الولاء للدين والعقيدة، وأزال كلّ الفوارق التي تقوم على أساس العِرق أو اللون؛ فجمعت راية الإسلام سلمان الفارسي، وبلال الحبشي، وصهيب الرّومي مع القرشيين والعرب من صحابة رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-.


ملخص المقال: تعرّضَ المقال إلى تفسير الآية الكريمة، وأنّ مقصودها هو نبذ التعصُّب والتفرقة القائمة على أساس الجنس أو العِرق أو النّسب أو اللون وما إلى ذلك من أشكال العنصرية المنبوذة، والتركيز على أنّ هذه الفروقات لا قيمة لها عند الله، بل القيمة المُثلى والكرامة لمن عمَّرَ قلبه بتقوى الله -تعالى-.


المراجع

  1. ^ أ ب محمد بن عمر الرازي (1420)، مفاتيح الغيب (الطبعة الثالثة)، بيروت: دار إحياء التراث العربي، صفحة 113، جزء 28. بتصرّف.
  2. عبد الرحمن بن ناصر السعدي (2000)، تفسير السعدي (الطبعة الأولى)، بيروت: الرسالة، صفحة 802. بتصرّف.
  3. رواه أبو داود، في المراسيل، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، الصفحة أو الرقم:309، روي بعضه مسندا وهو ضعيف.
  4. مجموعة من المؤلفين (1993)، التفسير الوسيط (الطبعة 1)، صفحة 1049، جزء 9. بتصرّف.
  5. وهبة الزحيلي (1418)، التفسير المنير (الطبعة 2)، دمشق:دار الفكر المعاصر، صفحة 250، جزء 26. بتصرّف.
  6. كمال عبد المنعم (14-1-2016)، "لا عنصرية في الإسلام"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 7-7-2018. بتصرّف.
  7. سورة الحجرات، آية: 13.
  8. سورة الروم، آية: 22.
  9. رواه السيوطي، في الجامع الصغير، عن جبير بن مطعم، الصفحة أو الرقم: 7665، صحيح.
  10. رواه الألباني، في صحيح أبي داود، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم: 5116، حسن.
3919 مشاهدة
للأعلى للسفل
×