خاطرة عن الوطن

كتابة:
خاطرة عن الوطن


وطني بيتي الأول

البيت الكبير، والحضن الأول، والمستقر الأخير، لا فكاك للإنسان من حبه أيًّا كانت صفاته ومهما قسا على أبنائه فهو الأم التي تبقى استثناء لا يدخل في حسابات العلاقات الإنسانية الأخرى، فيه تغنّى الشعراء وبوصفه تفنّن الأدباء، فصوروه وكتبوا في حبه الكلام الساحر والشعر النادر، ومن ذلك قول الشاعر:[١]

يا بلادي لك قلبي
لك آمالي وحبي
وجهادي
يا بلادي

هو الوطن، ملجأ الإنسان حين تضيق الأرض به، فإن ضاق بالإنسان لما وسعته البلاد جميعًا، فهو الأرض بمفهومها الأدق والسماء بمعناها الأخص، ولا طعم للزيت ما لم يعصر من زيتونه، ولا نكهة للخل ما لم يصفَّ من تفاحه وعنبه، ولا يستطاب الشراب إلا من برتقاله وليمونه.


متى أمطرت السماء انتظر القلب ريّه من سحابه، فإنّ الروح لا تزهر إلا في ربيعه، ومهما بعد الإنسان عن وطنه فهو باقٍ فيه يتذكّره في تفاصيله وأزقته وأحياء وأهله، فهو يعيش في وجدان كلّ شخص ولا يمحو ذكراه بلاد وإن كانت الأجمل ولا يغني عن أهله عباد ولو كانوا الأفضل، فإن صلات الدم والأرض والمنبت أقوى من أن يقهرها النسيان أو تغطيها مسرات أو تلغيها أحزان، فإنّ الروح تهفو إلى مبتدأها، وإنّ في القلب طفولة لا تشيخ وتبقى تلوذ بحضن الأم إلى أن تموت، وبين الإنسان ووطنه حبل سري لا انقطاع له عند إنسان كامل المروءة وحافظ للوفاء.

حبي لوطني أكبر من الكلمات

ليس حبّ الوطن محض شعور فارغ أو عاطفة خاوية، بل هو أعمق من ذلك، فحب الوطن إخلاص له بالقول والفعل وافتداء بالعمر والروح والجسد، وهو بذل الغالي والرخيص في خدمته وبنائه وحمايته والذود عنه من كل شر محتمل، فالوطن حكاية تروي في أحداثها قصص الشعوب، فإنّه يعكس بقيمته قيمتهم، وليست حضارته إلا نتاج جهودهم وثمرة تعبهم، ومتى كان الوطن عزيزًا شريفًا كان أهله أعزّاء شرفاء، ومتى فقد عزّته وشرفه تجرّد أبناؤه من أيّ عز وشرف، فهو للأمة كالرداء للبدن، وكلما كان الرداء بهيًّا وفاخرًا عكس غنى النفس من وراءه وأظهر ما في روح أبنائه من قوة وعزيمة.


الإنسان المخلص لوطنه وأرضه هو مَن أدرك أنّ وجوده يتجلى فيها، وأنّ كرامته ترسخ برسوخها، ومن ظنّ غير ذلك وأراد أن يبحث عن شرفه في مكان آخر فإنّه كالذي يبحث عن نسب جديد له، فإنْ أفلح في تغيير ظاهره فجوهره أصيل ثابت، ولا مفرّ للإنسان من أصله، فإنّ أسوأ ما يمكن أن يفعله المرء هو أن يتنكّر لأصله ويستبدل بأرضه وأهله أرضًا غريبة، فإنّه لو أحبها لن يلقى منها محبة الأم ولن تعطيه ما تُعطي أبناءها، وعلاقة الإنسان بوطنه ليست علاقة مصلحة آلية تقوم على تبادل المنفعة بل هي وشائج صلة وجدانية لا يقطعها نقص الخير أو انعدام الفرص وسبل الرزق.


قد يضطر الإنسان إلى السفر، ويجد في بلاد الغربة ما لم يجده في موطنه، وهذا لا يقطع حبل الوداد والوفاء، إنّما يقطعه نسيان الوطن وذوبان الإنسان في عوالم أخرى تنسيه عالمه ومكانه الأول وتدفعه لإنكار فضله وجحود فرحه البكر وأمل الطفولة الذي عاشه في أرضه، أمّا إن صلحت النية وأخلص الإنسان لأصله ووضع إعماره نصب عينيه فإنه ليس بعيدًا عن وطنه وإن حالت دونهما البحار، فهو يحمله في قلبه حيث حل، ويحميه ويبذل له بقدر ما يعمل ويتزوّد من خير يعود به إلى بلاده ليرد فضلها ويرفع شأنها ويأخذ بيدها إلى قمة الحضارة والتطور.

حب الوطن يعني شعوري بالمسؤولية تجاهه

الأصل في هناء الإنسان ورضاه بمكانه أن يعرف دوره ويُدرك إمكانياته فلا يستخف بها ولا يستعظمها ولا يضخم ذاته فيعتقد أنه أكبر من وطنه، فإنّ الوطن كبير مهما صغر وواسع مهما ضاق، وإدراك الذات هو أول خطوة لخدمة الوطن، فإن الإنسان حين يعرف قيمة ذاته ويعي حجمه الطبيعي بلا ازدراء أو غرور سيعرف موطئ قدمه ويبصر وجهته ويصيب أهدافه، وهذا كله يعود على الوطن وأبنائه بالخير والمنفعة، فإنّ لكل إنسان مكانًا يناسبه، ولكل واحد شيء يتقنه سواء كان بسيطًا أم معقّدًا، ولا تقوم للأوطان قائمة إلا بتوظيف الخبرات في أمكنتها الصحيحة، فإن طرائق خدمة الوطن ليست واحدة وأساليب حبّه ليست واحدة.


فمن الناس مَن يبني وطنه بالحجارة والإسمنت، ومنهم من يبنيه بالكتاب والقلم، ومنهم من يبنيه ببذل المال وفعل الخير، ومنهم من يذود عنه بالرصاص والبارود فيبنيه بأن يحميه، وبذلك يُسهم كل إنسان في بناء الوطن، فإنه لا يتم بجهد فردي ولا يثمر الزرع بالسماد وحده، ولا ينبت الثمر دون ماء ولا تنفع الماء إلا بيد تجيد السقاية، فإنّ الإفراط في السقيا يميت الزرع ويفسد البذور، فلا بدّ أن يتولى كل إنسان المهمة المناسبة التي يتقنها، ولا بدّ أن يقنع كل واحد بمكانه الذي خلق له طالما أنه مجيد في صنعته التي يصنع وقادر على أن يفيد في مكانه وينفع.


هكذا يكون كل منّا كبيرًا وعظيمًا، وهكذا يكبر الوطن بأبنائه، فليس الإنسان بماله ومنصبه بل في قيمته وفاعليته، فإنّ الآلة الكبيرة والعظيمة لا تعمل لو سقط منها أصغر أجزائها، وكذلك الوطن لا ينهض ولا يبنى إلا بتكامل أفراده لا بتنافسهم في المناصب والأموال، لتبقى كلمة الوطن دافئة بمعناها متوقدة في قلوب أهله، وليظل الوطن نورًا ساطعًا مضيئًا يشع في كل البيوت، فإن البلاد متى أظلمت عمّ ظلامها على الجميع، ومتى توقدت أضاءت للجميع، وإن خريف البلاد يعري أغصانها الكبيرة والصغيرة وربيع الوطن يزهر في أصغر حديقة كما يزهر في أوسع مدى، ويبقى الوطن عهد حب وشرف ومسؤولية تحفظ بالحب والوفاء لتعود علينا بالحب والوفاء.



لقراءة المزيد، انظر هنا: موضوع تعبير عن الوطن.

المراجع

  1. "يا بلادي لك قلبي"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 03/03/2021م.
3950 مشاهدة
للأعلى للسفل
×